غاب في الأسابيع الماضية وجهان مضيئان من وجوه الشرق الأوسط في هذا القرن، يتميز كل منهما عن الآخر في أمور كثيرة. جورج لنتشوفسكي، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بيركلي لعقود عدة، وهو الباحث الذي أدخل مادة "الشرق الأوسط" الى الدراسات السياسية العليا في الولاياتالمتحدة سنة 1952، استمر كاتباً غزيراً أتحف المكتبة المعاصرة بأبحاث رائدة، آخرها السيرة الشرق الأوسطية لرؤساء الجمهورية الأميركية. كان رجلاً محافظاً من أصل بولوني لا يلتقي أصلاً ولا لغة ولا سيرة مع المحامي الكردي الراحل الأستاذ ابراهيم أحمد، الذي اقترن اسمه بنضال الشعب الكردي العراقي على امتداد القرن العشرين، وهو الذي كان المساعد القربب للملا مصطفى البرزاني في السراء والضراء، كما كان بحكم صهورته مع الأستاذ جلال الطالباني مقترناً بجهاد حزب الاتحاد منذ أوائل أيامه الصعبة في منتصف السبعينات. ومع هذه الهوة الواسعة بين الرجلين، ساورني منذ غيابهما احساس عارم بتقاربهما الحميم في أسلوب غاب اليوم في الولاياتالمتحدة كما في الشرق الأوسط، وبنمط يختلف بين السلف والخلف في الأخلاق والأداء اختلافاً يرسم حداً فاصلاً بين المحترف والمغامر، وبين صاحب الأخلاق وباغي السياسة الصلفة. كانا تعبيراً عن الجيل الأول، المترفع في السياسة عن المال والبطش، الذي حل محله اليوم، في الولاياتالمتحدة كما في الشرق الأوسط، جيل ساسة المال والعنف أسلوباً مفضلاً في الحياة العامة. لم تكن معرفتي بجورج لنتشوفسكي أو بابراهيم أحمد حميمة، فالتباين في السن يفضي الى بعض الحشمة في الصداقة. لكن المناسبات كانت عديدة في التحدث اليهما في مواضيع شتى، منها ما يتعلق بشرق أوسط لم يعرفه أحد كما عرفاه، ولا ازال أذكر طريف الأحاديث التي نقلها إلي جورج لنتشوفسكي سنة 1985 عن لقائه مع عبدالكريم قاسم إبان ثورة 1958، و"الزعيم" منهمك بإقناع الأستاذ الأميركي بعراقية الكويت! وإن أنسى لا أنسى ثبات المفكر والكاتب الأميركي في قراءته النقدية لعنف القيمين على دولة اسرائيل ولأهل السياسة المتعصبين لهم في واشنطن. كما أذكر القانوني الهادئ، الذي رافق كل المحاولات الدستورية لتحكيم القانون بين عرب العراق وأكراده منذ دراسة راقية عن "الكرد والعرب" عام 1937 حتى الاجتماعات الأكاديمية المطوّلة التي عقدناها في لندن في التسعينات أملاً بيوم القانون في العراق الممزق. ففي الحالين، كان العلم دوماً صنو التواضع وخبرة المآسي ومدخلاً للقناعة بالحق والأماني بالأفضل. وإذا كان نضال ابراهيم أحمد حتى آخر أيامه - وكنا قبل شهور قليلة قد تبادلنا معه أطراف الحديث القانوني المثري في نيويورك - ارتبط دائماً بالمحامي المحترم صاحب التؤدة في الكلام والصدق عنواناً وأسلوباً، فأين الصدق اليوم في الحكم والمعارضة في العراق على السواء، وقد مزّقت الحروب الأهلية والوعود المنتهكة شمال العراق الكردي وجنوبه العربي؟ وهل من عزاء حقاً، وهو عزاء المرارة، في المستوى المتدني في السياسة الخارجية الأميركية ونظيراتها شرقاً وغرباً، وهي تتخبط في خيارات متناقضة ينقصها المبدأ، في الصراع العربي - الاسرائيلي الذي لا ينتهي، كما في الخليج البائس في عربه وكرده وفرسه. يلتقي غياب ابراهيم أحمد وجورج لنتشوفسكي عند قاسم مشترك مرير، يذكرنا بأن الشرق الأوسط يفقد في الرجالات القيمين على رسم حاضره ومستقبله، جيلاً ممن كان مثلهما "جنتلمن"، فعصف بالمنطقة أهل الصلف والمال، فيما الأوادم يبحثون، في واشنطن كما في بلادنا، عن روح متعالية تعيد الى الحياة العامة شيئاً من الأخلاق. * محام دولي وبروفسور في الحقوق