منذ اجتماع جنيف في شهر آذار مارس الماضي بين الرئيسين بيل كلينتون وحافظ الأسد تلاحقت الأحداث في اتجاهات تبدو في ظاهرها متضاربة. فالرئيس الاميركي عاد إلى واشنطن ليقول عن الرئيس حافظ الأسد: "إنه الآن يعرف بالتفصيل ما هي المقترحات الإسرائيلية. وأعتقد أنه طالما بذل الإسرائيليون جهدهم ليكونوا محددين وشاملين، وإذا كان لنا أن نحقق تقدماً، فلابد لهم الآن أن يكونوا قادرين على معرفة ما هو رد فعله المحدد والشامل بالنسبة إلى كل المسائل المطروحة. يعني: الكرة أصبحت في الملعب السوري". في هذا الطرح الأميركي الجديد مشكلتان. أولاً - لكي يعرف رئيس سورية طلبات إسرائيل من بلده لم يكن محتاجاً بالمرة الى السفر الى جنيف للاجتماع بالرئيس الاميركي. كان محتاجاً فقط - وهو في دمشق - إلى جهاز راديو. فطلبات إسرائيل التفاوضية من سورية معروفة وذائعة بامتداد سنوات... بتفاوض ومن غيره. ثانياً: إن ما تطلبه سورية من البداية معروف لإسرائيل ولأميركا. آخر كلام عند سورية هو نفسه أول كلام: الانسحاب الإسرائيلي الكامل من الجولان السورية المحتلة حتى حدود الرابع من حزيران يونيو 1967 تنفيذاً لقرار مجلس الأمن الرقم 242 الذي كان التزام سورية به في سنة 1974 مطلباً أميركياً ملحاً. ومنذ سنة 1991 وهناك عملية تفاوضية هندستها الولاياتالمتحدة بكل تفاصيلها. بمقتضى تلك العملية ألحت الولاياتالمتحدة بمجموعة طلبات جديدة خارج سياق القرار 242. ألحت بالمفاوضات المباشرة، وبعلاقات سلام تعاقدية، واستبعاد الأممالمتحدة والمجتمع الدولي. كل هذا بعيد تماماً عن القرار 242 الذي يطلب من سورية فقط إنهاء حالة الحرب. وبعد كسر تلك المحرمات العربية سورياً، وبعد تسع سنوات من المفاوضات المتقطعة، واجتماعين على مستوى الرؤساء بين أميركا وسورية، وجولات متعددة من وزير الخارجية الأميركي السابق ثم خليفته... تجيء الولاياتالمتحدة في سنة 2000 لتقول إنها لا تعرف - بعد - رد الفعل السوري المحدد والشامل على الطرح الإسرائيلي. بل أيضاً: أن الكرة أصبحت في الملعب السوري. حينما يقال هذا لدولة أراضيها محتلة إسرائيلياً منذ 33 سنة تصبح الرسالة واضحة: وقاطعة: يا سورية... اسمعي كلام إسرائيل. تلك رسالة لا تبشر بتسوية، ولكن تنذر بتشويه. وهي تشويه للطرف الذي قيل له من البداية: اسمع كلام أميركا. وبعد أن سمع كلام أميركا إذ بأميركا تقول له: اسمع كلام إسرائيل. من وقتها - وقت اجتماع جنيف في آذار مارس الماضي - وهناك حملة منهجية لترويع سورية وتهديدها باعتبارها أضاعت "الفرصة الأخيرة" للتسوية مع إسرائيل. تعبير "الفرصة الأخيرة" هذا صكّته أصلاً الصحف الإسرائيلية قبيل اجتماع جنيف بأيام. لكن حينما تتبناه الولاياتالمتحدة عملياً تأخذ المسألة بعداً أكبر وأخطر. ففي خلاصة الأمر لم يكن ما نقله الرئيس الأميركي الى الرئيس السوري في اجتماع جنيف سوى "إنذار إسرائيلي"، جوهره... إما الإذعان أو العزل. وبعد اجتماع جنيف بدأ على الفور السعي الى عزل سورية والاستفراد بها من خلال إعلان إسرائيلي عن الانسحاب من لبنان قبل السابع من تموز يوليو المقبل تحت عنوان قرار مجلس الأمن الرقم 425. من المفارقات الدرامية هنا أن سورية تصرفت طوال شهر نيسان ابريل على الأقل باعتبارها فوجئت تماماً بهذا التحرك الإسرائيلي المدعوم أميركياً. هذا يعني خللاً سورياً، أما في استيعاب ما يجري أو في التعبير الإعلامي عن موقف صحيح، أو في كليهما معاً. فالفصل بين المسارين اللبناني والسوري كان مطروحاً إسرائيلياً منذ سنة 1996 على الأقل. وشعار "لبنان أولاً" الذي طرحه بنيامين نتانياهو تهديداً لسورية كان يعبر عن الخيار الإسرائيلي الأول الذي هو بدوره استمرار للسياسة الإسرائيلية في التعامل مع الأطراف العربية منفصلة عن بعضها البعض. وفي حالة لبنان تحديداً تظل مصلحة إسرائيل هي عزل لبنان عن محيطه العربي، وبالتحديد عزله عن سورية... حرباً وسلاماً. وفيما كانت التوجهات السورية صحيحة في معظمها إلا أنها بدت هنا متلبسة بنسيان الدرس الجوهري في السياسة: إذا كنت تريد الأفضل فعليك أولاً أن تستعد للأسوأ. سورية طوال شهر نيسان ابريل لم تبدُ جاهزة للسيناريو الأسوأ وهو الفصل بين المسارين اللبناني والسوري. المفارقة تصبح أكبر حينما ندرك أن سورية هنا تدفع ثمن نجاحها. فإسرائيل لا تنسحب من الجنوب اللبناني مودة للبنان ولا حباً في الأممالمتحدة ولا غراماً بالشرعية الدولية بعد طول كراهية. إسرائيل تنسحب من لبنان إيقافاً لنزيف احتلالها هناك. هذا النزيف أوجع إسرائيل لثلاثة أسباب: مقاومة وطنية لبنانية جادة للمرة الأولى. وحدة وطنية لبنانية حقيقية تساند المقاومة - أيضاً للمرة الأولى. دعم سوري فاعل للوحدة الوطنية اللبنانية. في اللحظة التي يؤدي فيها هذا كله إلى النتيجة المطلوبة كان يجب على سورية أن تكون جاهزة بسيناريو مدروس سلفاً. سيناريو من شقين: الترحيب بانتصار منطق المقاومة اللبنانية. وفي اللحظة نفسها التحسب لتصعيد الحصار الإسرائيلي الأميركي ضد سورية ذاتها. إنه العسل مخلوطاً بالسم. وسورية عليها أن تفصل العسل لكي تتحصن ضد السم. والنجاح الموقت الذي لفقته إسرائيل، وتساعدها في ذلك حملة إعلامية غربية، هو طرح الانسحاب الإسرائيلي من لبنان كدليل مفحم على أن إسرائيل فاعل خير مقابل سورية عنصر الشر. بل إن إذاعة مثل "بي. بي. سي" تروّج حالياً لفكرة أن سورية متشددة وإسرائيل مرنة، وحافظ الأسد جامد بينما ايهود باراك سجل "نقطة مضيئة" في "انجازاته" بقراره الانسحاب من لبنان. لكن إسرائيل - بافتراض أنها انسحبت بالكامل من لبنان فعلاً - لا تفعل أكثر من التراجع عن واحدة فقط من جرائمها ضد لبنان، ويظل على الشعب اللبناني في مجموعه أن يعاني من الجرائم الأخرى وأبرزها تدمير مرافقه المدنية وتكسيحه اقتصادياً كلما حاول التقاط الأنفاس. وفيما كان الرائج إسرائيلياً أن لبنان ورقة سورية، إلا أن الصحيح كان دائماً أن لبنان ورقة إسرائيلية. ورقة تستخدمها إسرائيل لتمزيق وتفسيخ لبنان داخلياً ولإشاعة الفوضى اقليمياً. سورية لم تكن في لبنان قوة تمزيق بينما إسرائيل كانت دائماً قوة تخريب. فإذا كان لنا أن نشهد وشيكاً خروج إسرائيل من لبنان فوق الأرض، إلا أنها ستبقى باستمرار تعمل تحت الأرض. هنا تصبح مسؤولية لبنان الأولى هي استخدام قوته للتغلب على ضعفه. وقوة لبنان هي بالأساس وحدته الوطنية ووضوح أولوياته. والرئيس إميل لحود يبدو مستوعباً تماماً دروس الماضي ولاحتمالات المستقبل. أما سورية فيبدو أنها تجاوزت رياح شهر نيسان ابريل استعداداً لسخونة تموز يوليو. إذ فرضت إسرائيل عليها قواعد مختلفة للعب في كل مرة. وفي استيعاب ما جرى منذ سنة 1993 حتى الآن كانت إسرائيل تلوح بورقة التسوية السورية فقط كمهماز لاعتصار المفاوض الفلسطيني. نحن الآن في مرحلة اعتصار سورية ذاتها. هي أيضاً مرحلة تطويع سورية والاستفراد بها استراتيجياً بما يتجاوز لبنان والأردن والقضية الفلسطينية برمتها. في الواقع أن تفكيك المثلث المصري - السوري - السعودي كان من البداية مدخلاً الى إقامة "الشرق الأوسط الجديد" حسب المفهوم الإسرائيلي بشقيه: عمل وليكود. العنوان "تسوية والمضمون تشوية"، هذا لا يعني انخلاع القلوب. يعني فقط أن جوهر السياسة هو: من يريد الأفضل عليه أولاً أن يستعد للأسوأ. * نائب رئيس تحرير "أخبار اليوم" القاهرية