ثمة أسباب حقيقية للخوف من انسحاب اسرائيلي من جنوبلبنان، الا ان الانسحاب نفسه أهم من أي سبب للوقوف ضده. اسرائيل ستنسحب وستترك اسباباً لاستمرار المقاومة، فهي لن تتخلى عن السيطرة على مصادر المياه، كما انها قد تحتفظ بنقاط مراقبة على جانب لبنان من الحدود الدولية . ولكن اذا امطرت المقاومة المستوطنات في شمال اسرائيل بصواريخ كاتيوشا، وقنابل المدفعية، فان اسرائيل سترد بتدمير البنية التحتية للبنان، من محطات كهرباء وجسور، وربما هاجمت مواقع لبنانية وسورية. والفرق بين ضربها محطة كهرباء وهي تحتل الشريط الحدودي، وضربها البنية التحتية بعد ان تنسحب ان العالم الذي دانها ووقف مع لبنان في المرة الأولى، لن يدينها بعد الانسحاب، بل إن الارجح ان الولاياتالمتحدة ستقود حملة لتحميل لبنان وسورية المسؤولية. ونائب وزير الدفاع الاسرائيلي افرايم سنيه اتهم دمشق صراحة امس بمحاولة تخريب الانسحاب. رئيس الوزراء ايهود باراك مصرّ على الانسحاب في موعد اقصاه تموز يوليو الى درجة الخلاف مع الجنرالات الاسرائيليين، فقد كان الانطباع ان رئيس الأركان السابق يستمع الى الجنرالات ويتشاور معهم اكثر مما يفعل مع اعضاء حكومته، الا انه في موضوع الانسحاب يواجه معارضة من الجنرالات الذين يقولون ان القرار السياسي هذا سيعرّض امن اسرائيل للخطر، ويترك المستوطنات تحت رحمة المقاومة. غير ان باراك والجنرالات لن يعترفوا بأن سبب استمرار المقاومة سيكون ان الانسحاب لن يكون كاملاً، وببساطة القرار 425 الذي دعا الى انسحاب القوات الاسرائيلية من دون ان يطلب شيئاً من لبنان في المقابل. هل يكون الأمر ان اسرائيل تمارس عكس ما تعلن، فهي تخلق اوضاعاً لمواجهة مع سورية، فيما تدعي ان سورية ولبنان وإيران ستكون مسؤولة عن استمرار المقاومة بعد الانسحاب، وستتحمل العواقب. بكلام آخر، هل تحاول اسرائيل احراج الرئيس الأسد لاخراجه؟ الرئيس السوري ليس من النوع الذي يخدع أو يستفز، ومع ذلك فالوضع هو ان اسرائيل تقول شيئاً وتخطط غيره، وربما عكسه. وهي الآن على اتصال مع الاميركيين والفرنسيين لاحياء لجنة تفاهم نيسان، الا انها تقول في الوقت نفسه، ان القرار 425 واللجنة تصبحان لاغيتين فور اكمالها الانسحاب من جنوبلبنان، وهي بذلك تريد من لبنان والأمم المتحدة حماية ظهرها وهي تنسحب، ثم تترك وضعاً متفجراً وراءها. وجنوبلبنان ليس الجبهة الوحيدة التي تنشط فيها اسرائيل ضد سورية، فهي بعد فشل قمة جنيف اعلنت انها ستحاول عزل سورية، والتركيز على المسار الفلسطيني. وبما ان المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية استؤنفت قرب واشنطن، فقد قرأنا في الصحف الاسرائيلية ان الجانب الاسرائيلي عرض انسحاباً في المرحلة الثالثة من عشرة في المئة من الضفة الغربية تجعل الفلسطينيين يسيطرون على 50 في المئة من أراضي الضفة. وقد رفض الفلسطينيون العرض، لأن الأراضي المعروضة بعيدة عن المناطق المأهولة ولا تساعد على ربط أراضي السلطة بعضاً ببعض. وقد حاول الاسرائيليون جعل عرضهم اكثر اغراء، بتلميح باراك للرئيس عرفات ان اسرائيل مستعدة للاعتراف بالدولة الفلسطينية عندما يعلنها أبو عمار في ايلول سبتمبر القادم. وأتوقف هنا لأقول ان اسرائيل في محاولتها عزل الرئيس الأسد او محاصرته، لا تتوقف عند جنوبلبنان والمسار الفلسطيني، بل تحاول الإيقاع بين سورية ومصر، وهكذا قرأنا ان الرئيس مبارك مسؤول عن فشل اجتماع جنيف لأنه اقنع الرئيس كلينتون بأن الرئيس الأسد سيقدم تنازلات لاسرائيل في موضوع الانسحاب والسيطرة على مصادر المياه. وكتب زفي باريل في "هاأرتز" مقالاً مطولاً عن هذا الموضوع جمع كل التهم الاسرائيلية ضد مصر، ثم أضافت الصحف الأخرى تفاصيل عن الخلاف بين وزيري الخارجية فاروق الشرع وعمرو موسى. ربما كان هناك من يعرف الوزير السوري أفضل مني وأكثر، وربما كان هناك من يعرف الوزير المصري اكثر مني وأفضل. الا انني أصرّ على ان معرفتي بهما معاً قديمة ومستمرة وشبه كاملة. ولا سر هناك في ان ثمة اختلافاً في الاسلوب، وقد سمعت من الوزيرين معاً، وكل على حدة، تفاصيل كثيرة عن هذا الاختلاف، الا انه يبقى اختلافاً لا خلافاً، ومصر ليست وسيطاً مع اسرائيل بل طرف عربي آخر. وقد قال الرئيس مبارك مرة بعد مرة، وخصوصاً بعد فشل قمة جنيف، ان اسرائيل يجب ان تنسحب من الأرض المحتلة كلها، وانه يجب ان تسترد سورية كل أرضها حتى آخر بوصة منها، وهذا هو الأهم، وهذا هو الموقف السوري. ماذا سيحدث غداً؟ اللعب على حبل واحد صعب، ولكن اسرائيل تلعب على حبال عدة، وأميركا وراءها، فهي مع اسرائيل، كما مصر مع سورية، ولا سبب البتة للتفاؤل على المدى القصير او المتوسط.