في طائرة الرئاسة المتوجهة الى جنيف مطلع هذا الاسبوع، سأل المراسلون الاميركيون مستشار كلينتون للأمن القومي صموئيل بيرغر عن النسبة التي يعطيها لاحتمالات نجاح القمة. واستعرض بيرغر تصريحات المسؤولين عن مفاوضات السلام قبل ان يعلق على السؤال فقال: لقد أعطى كلينتون تقديراته المتفائلة أثناء اجتماعات شبردزتاون، مؤكداً ان المحادثات انهت نسبة تسعين في المئة من المشاكل المطروحة... في حين حدد الوزير فاروق الشرع هذه التغطية بنسبة ستين في المئة. أما ايهود باراك فكان أكثر تحفظاً بحيث منح فرص النجاح نسبة خمسين في المئة فقط. وانتقل بيرغر من الحديث عن التوقعات المتفاوتة الحظوظ ليعلن رأيه ويقول بأن العشرة في المئة تعتبر الحد الأقصى لما يمكن ان تحققه قمة الرئيسين، وذلك بسبب الهوة العميقة التي تمثل فجوات الخلاف بين الموقفين السوري والاسرائيلي. المراسلون الاميركيون كرروا طرح السؤال على بيرغر وانما بشكل مختلف في محاولة لاستكشاف المعطيات التي بنى عليها افتراضاته. قال لهم ان المتفائلين استندوا في تحليلهم الى سابقة الاتصال الهاتفي بين كلينتون والأسد، والتي أدت الى استئناف المفاوضات المعلقة بصورة مفاجئة. وتوهموا ان الرئيس السوري لن يخيب آمال الرئيس الاميركي الذي حرص على الاجتماع به قبل انشغاله بالحملة الانتخابية. أو هو على الأقل سيكون أشد حسماً من وزير الخارجية فاروق الشرع الذي يتهمه باراك بأنه يفتقر الى الصلاحيات الكاملة أثناء عملية التفاوض. من هنا توقع باراك ان يكون حضور كلينتون عاملاً مؤثراً لقبول اقتراحه المرفوض في شبردزتاون. أي الاقتراح الذي يمثل محور الخلاف بين الدولتين، وهو يتلخص في تحديد الانسحاب الاسرائيلي من مرتفعات الجولان ومنطقة الحمة شرط ان تبقى مصادر المياه وبحيرة طبريا تحت سيادة اسرائيل. وكما أصر الشرع في مفاوضاته مع باراك على ان الانسحاب سيكون حتى حدود الرابع من حزيران يونيو 1967... كذلك جددت صحيفة "البعث" الناطقة باسم الحزب الحاكم في دمشق، طلب الاستجابة لشروط سورية لأن هذا التعهد أضحى السبيل الوحيد لفتح باب المفاوضات. واستبقت "البعث" توقعات المراهنين على نجاح قمة جنيف لتكتب في الافتتاحية وتقول بأن "سورية ستقاوم كل وسائل الضغط التي يتوهمها باراك، بدءاً بإعلان الانسحاب الاحادي الجانب من دون اتفاق... وانتهاء بنفاد ولاية كلينتون وضرورة استغلال المدة المتبقية منها". في ضوء هذا الموقف السوري الثابت، يجمع المراقبون في واشنطن على القول بأن الرئيس كلينتون ساهم في إفشال قمة جنيف لأسباب تخدم مصلحة باراك، ثم ألقى المسؤولية على عاتق دمشق، معتبراً ان الكرة في ملعبها الآن، وان عليها الرد على الاقتراح الاسرائيلي. والدليل على ذلك انه تبنى موقف باراك من موضوع الحدود، وانحاز الى صفه في وقت كان من المفروض ان يلعب دور الوسيط النزيه، ويترك للفريقين المعنيين فرصة استئناف المفاو ضات. وبدلاً من ان يقوم بدور الحكم، طرح الحجة الاسرائيلية من زاوية المقتنع بصوابيتها، وكأنه جاء الى جنيف خصيصاً للاستماع الى رد الأسد عليها، علماً بأنه سمع رده عدة مرات. وفي هذا السياق سجل صموئيل بيرغر تحفظه على نسبة النجاح، لاقتناعه بأن الاسرائيليين انشغلوا في تحليل صحة الاسد وسلوكه الشخصي، الأمر الذي انساهم بأن المعايير المطبقة على حكّام الغرب لا تنطبق عليه. والدليل كما يقول الشرع انه لا يفعل إلا ما يعلنه... ولا يعلن إلا ما يفعله. الاقتراح الاسرائيلي الذي حمله كلينتون الى قمة جنيف يطالب بأن تكون الحدود مع سورية هي الحدود التي تقررت عام 1923، بينما تصرّ دمشق على الانسحاب الى حدود الرابع من حزيران يونيو 1967، تنفيذاً للقرار 242 المطالب في البند الأول "بأن تنسحب القوات الاسرائيلية من أراض احتلت خلال النزاع الحديث". والمعروف ان خط الحدود الدولية يبقي بحيرة طبريا ونهر الأردن ومنطقة الحمة تحت السيادة الاسرائيلية، بينما يعيد خط الرابع من حزيران سيطرة سورية على منطقة الحمة والضفة الشمالية - الشرقية لبحيرة طبريا وعلى قسم من نهر الأردن. لهذا السبب تطالب حكومة باراك بالعودة الى حدود الانتداب مدعية ان سورية ضمت بالقوة العسكرية أراضي واقعة غربي الحدود خلال صدامات جرت بين عام 1948 وعام 1951، وان القرار 242 يمنع ضم الأراضي أو احتلالها بالقوة المسلحة. وتستند اسرائيل في حجتها الى موافقة سورية على انسحاب القوات المحتلة لجنوب لبنان، الى الحدود الدولية، أي حدود الانتداب عام 1923. ومثل هذه الحدود اعتمدت في المفاوضات مع مصر والأردن. وعندما أُثيرت مشكلة "طابا" لجأت محكمة العدل الدولية الى شرعية الحدود الدولية. وهي الحدود التي رسمتها حكومتا الانتداب بعد ان نجحت فرنسا في إبعاد خط الحدود عن نهر الليطاني، كما اقترحت بريطانيا حسب توصية بن غوريون. وبعد مباحثات شاقة رضيت بريطانيا بترسيم حدود أرض اسرائيل وفق الصيغة التوراتية القائلة: "من دان - اسم نهر - حتى بئر السبع، أرضك يا اسرائيل". ولقد تقرر المسح النهائي للحدود عام 1923 بواسطة ضابطين خبيرين العقيد يوكوم البريطاني والعقيد فيليه الفرنسي. وبعد رسم الحدود على الخرائط جرى "تعليمها" على الأرض فوق تسعين حجراً، من رأس الناقورة حتى سهل اليرموك. تعليقات الصحف الفرنسية ألقت الكثير من الشكوك على الدور المريب الذي لعبه كلينتون، خصوصاً بعد الاتصال المفاجئ الذي أجراه باراك مع جاك شيراك وأمين عام الاممالمتحدة كوفي انان. ولقد حدث الاتصال قبل أربعة ايام من موعد انعقاد القمة، الأمر الذي يؤكد ان رئيس وزراء اسرائيل حسم موقفه قبل اجتماع الرئيسين. وتقول معلومات الاممالمتحدة ان باراك أبلغ كوفي انان بموعد انسحاب قواته من الجنوب تنفيذاً للقرار 425، كما طلب منه ايضاً زيادة أفراد القوات الدولية بطريقة تمكنها من الانتشار على طول الحدود لاقامة حزام واق ضد هجمات المقاومة اللبنانية أو الفلسطينية. وفي هذا السياق تتعاون الحكومة الاسرائيلية مع الإدارة الاميركية بهدف اقناع مجلس الأمن بضرورة اصدار قرار شبيه بالقرار 161 الصادر عام 1961. أي القرار الذي يسمح لقوات الاممالمتحدة باستخدام القوة العسكرية عند الحاجة، تماماً كما فعلت في الكونغو عام 1962 لضرب حركة تشومبي. وبما ان اسرائيل تطمع في استغلال دور القوات الدولية واعتباره بديلاً من دور قوات انطوان لحد، فهي عازمة على تحويلها من قوة ردع الى قوة هجومية بحيث تطلب تزويدها بالسلاح الثقيل كالمدفعية البعيدة المدى والدبابات. ولقد اتصل باراك قبل أربعة ايام من موعد قمة جنيف بالرئيس الفرنسي شيراك متمنياً عليه تعزيز قواته بقوات اضافية، نظراً للدور التاريخي الذي تضطلع به فرنسا في لبنان. خطورة الموقف الاسرائيلي الجديد انه يحمل في طياته سلسلة أهداف غير معلنة منها: أولاً، الانسحاب الى حدود عسكرية يعتبرها الجيش الاسرائيلي حدوداً أمنية بدل الحدود الدولية. ثانياً، سيتحمل لبنان مسؤولية حماية الحدود عملاً باتفاق الهدنة 1949 الذي ينظم العلاقات الأمنية في غياب اتفاق سلام. وإذا حدث وخرقت المقاومة اللبنانية أو الفلسطينية، التي ذكرها الرئيس لحود، اتفاق الهدنة، فإن الرأي العام الدولي لن يدعم موقف لبنان كما فعل في "تفاهم نيسان". ومثل هذا العمل سيعطي اسرائيل العذر لتوجيه ضربات موجعة. ثالثاً، ان الانسحاب الاحادي الجانب يعيد الخلاف السوري - الاسرائيلي الى نقطة الصفر بحيث تضطر دمشق الى تذكير اسرائيل باحتلال الجولان وذلك عبر صواريخ المقاومة. ولقد حذر الوزير ديفيد ليفي من اعتماد هذا الاسلوب، لأن اسرائيل ستلجأ الى الخيار التركي لحماية أمنها. تشير الصحف الاسرائيلية الى الاجتماع الذي عقد بين ايهود باراك والسفير الاميركي مارتن انديك بهدف الاطلاع على آخر التطورات، وتزويد الرئيس كلينتون بالمطالب النهائية التي يقبل بها رئيس وزراء اسرائيل. ويعترف انديك بأن باراك تحدث عن تعهدات رؤساء الوزراء السابقين في شأن الانسحاب من الجولان، مؤكداً انه لن يتبرع بإرسال تعهد سياسي للأسد قبل الحصول على الاجوبة المتعلقة بمجالات التطبيع وترتيبات الأمن. ولما سأله انديك عن توقعاته لما قد يحدث في حال لم تستأنف المفاوضات، أجاب باراك بقوله: "لن يحدث أي شيء... سأعلن أمام الرأي العالمي بأننا حاولنا جهدنا، وبأن مسؤولية الفشل تقع على غيرنا. ولهذا باشرنا العد التنازلي للانسحاب من لبنان". في ضوء التعليقات التي نشرتها الصحف الاسرائيلية، يتضح ان موقف اللامبالاة الذي اتخذه ايهود باراك تجاه قمة جنيف، كان موقفاً مدروساً يصب في مصلحته الشخصية. ويبدو انه بادر الى التزام خط مقاطعة المفاوضات بعدما أبلغه مساعدوه بأنه سيخسر معركة الاستفتاء، وبأن الائتلاف الحكومي مشرف على الانفراط إثر الخلاف مع "شاس" وتهديد أربعة وزراء بالاستقالة في حال وافق على الانسحاب الى حدود الرابع من حزيران. ولكي لا يتهم بالتراجع وتفشيل قمة جنيف، اتفق مع كلينتون على طرح موضوع استئناف المفاوضات من زاوية يصعب على الأسد قبولها. واستناداً الى هذا السيناريو المفتعل وضع كلينتون الملامة على سورية لأنها رفضت الاقتراح الاسرائيلي المرفوض أصلاً... أجهزة الاعلام الاميركية والاسرائيلية باشرت أخيراً في تسريب أنباء مفادها ان الأسد لم يساعد بمواقفه المتشددة ايهود باراك، وبأنه اعطى خصومه السياسيين كل الأسلحة المتاحة للانقضاض عليه. ولقد استغلت المعارضة اليمينية بقيادة شارون رسالة الأسد الى المؤتمر الرابع عشر للاتحاد العالمي للنقابات المنعقد في نيودلهي عشية القمة، لتهاجم باراك وتطالبه بالانسحاب من المفاوضات. وتنص الرسالة التي قرئت في المؤتمر على التالي: "اننا في سورية والوطن العربي نواجه أعتى عدوان تعرض له وطن من الأوطان. هذا العدوان أداته اسرائيل التي قامت على أرض فلسطين بمساعدة القوى الاستعمارية، وتمددت من خلال اعتداءاتها الغادرة بمساعدة ودعم هذه القوى". ورأت اسرائيل في هذه الرسالة دعوة صريحة لانسحاب سورية من التزاماتها تجاه قمة مدريد... وإعلاناً رسمياً بأن اسرائيل ليس لها الحق في أرض فلسطين. ويفسر رابينوفيتش، رئيس الوفد الاسرائيلي السابق على المسار السوري، هذه الرسالة بأنها تعبير سياسي عن فتور حماس الأسد لاتفاق السلام، وبأنه يستطيع العيش والاستمرار من دونه. ويعتقد رابينوفيتش ان حسابات الرئيس السوري مختلفة جداً عن حسابات كلينتون أو باراك، لأنه يرى الصورة من خلال الوضع المحلي والاقليمي. وفي تقديره ان التراجع في قمة جنيف جاء نتيجة المتغيرات التي تتم على الصعيد الداخلي في سورية بحيث يفتقد المبعدون عن السلطة فرصة انتقاد خطوات التطبيع مع اسرائيل. وفي كل الاحوال، فإن التطورات السلبية بعد قمة جنيف تزيد من احتمالات الصدام المسلح على الجبهة اللبنانية، وتسمح بعودة حال اللاحرب واللاسلم في المنطقة! * كاتب وصحافي لبناني