غادر جمال الأتاسي هذه الدنيا وقد أخذ منها كل الذي كان يمكن أن يطلبه من هو مثله لنفسه، فهو لم يكن يطلب مالاً، وللمال طرقه المفتوحة، ولا هو طلب الأبهة ومظاهر السلطان وامتيازاته، ولا البسطة في العيش والرفاه، أسعده الله في أولاه وآخرته بما هو أهم عنده من ذلك كله وهو أن جعله في حياته ومماته رجل عطاء مفهوماً من أمته وشعبه في ما أضمر ونوى وفي ما تحرك له وسعى وخاطب به الناس والأوطان. وكان يمكن لسبب أو آخر أن لا يتم له ذلك فيحرم منه كما حصل لكثير من العظماء والمناضلين في تاريخ العالم الذين قضوا محرومين حتى من أن يكونوا مفهومي الدعوة والقصد. فليس في سورية اليوم ولا في أمة العرب من لا يعرف أن هذا الإنسان الكير بنفسه وضميره وعقله عاش وقضى طاهراً نقياً منزهاً حتى عن الإحساس بالنزاهة، جريئاً في الحق حتى الشهادة، محباً راعياً للأجيال، متواضعاً في عزة، لا يريد إلا العدل في الناس والسيادة للعرب على أرض العرب والوحدة والحرية لأمتهم العظيمة، والحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية لكل فرد منهم، فالعرب لم يخلقوا إلا ليكونوا في مقدمة الأمم أهل علم واختراع وآداب ورسالة خالدة، واسرائيل لم تكن يوماً ولن تكون فلسطين. والقدس ومكة والقاهرة ودمشق وبيروت وبغداد والرياض والجزائر وصنعاء والرباط وغيرها هي عواصم في قارات العالم وأرض حضارة ورسالات من حقها أن تتوحد وتصنع الحياة السعيدة المجيدة لها ولغيرها. ذلك ما كان يحرك جمال الأتاسي وما فهمه الناس عنه فأرضاه منهم هذا الفهم، وهو كل ما رجاه وما كسب، وقد فتح عينيه على الحياة في حمص في بيت وطني من عائلة كبيرة فيها من كان أباً للناس ومؤسس دولة ومقيم دستور، وفيها منشئو الأحزاب من الرعيل الأول، الى أن انتقل فتى طليعياً في دمشق من جيل فذ كان أول الجديد في وطنه لا آخر القديم. وان من يأتي الى دمشق في يوم كيوم الراحل العظيم جمال الأتاسي هذا، مسوق الى أن يستحضر بعفويته وبإرادته تلك الأسماء التاريخية المتوهجة وتلك المجاميع المؤمنة التي ساهمت في أن تجعل من سورية، قديماً وحديثاً، ذلك القطر المتميز في ماضي العرب وحاضرهم ومستقبلهم بلا شك. ومن خصائص سورية أنه يستحيل أن يكون كبيراً فيها من ليس كبيراً في دنيا العرب. والدكتور جمال الأتاسي الكبير هنا وهناك وجه مضيء لسورية في البلاد العربية، سوف يشع ما أشرقت العروبة على هذه الأرض. إنه الحاضر بقوة عند تمثل مكان سورية في الوطن العربي، كما هو حاضر في أي علاقة ثنائية، ربطت أو تربط بين سورية ومصر، أو سورية وفلسطين، أو سورية والعراق أو سورية والجزائر بل سورية وأي قطر عربي. قضى جمال الأتاسي عمراً في العمل السياسي الحزبي، ينشط في الأحزاب ويؤلف الأحزاب، ينتسب وينسب. وفي أيام الدراسة عمل في تكتيل الطلاب نقابياً وفكرياً. لكن هذا الانغماس المديد في العمل ضمن مجموعة والإصرار عليه لا يتناقض مع أن يكون قد قدم بشخصه وسيرته شهادة صارخة على كم يمكن لفرد أن يضيف أو ينقص في حياة أمة. كان الإنسان المميز فكراً وحضوراً الجامع نشأة وتكويناً وإرادة في شخصه وعمله بين الحداثة والأصالة، عميق الجذور في كليهما، معنياً بحاضر الأمة ومستقبلها طارحاً حول هذا المستقبل وكيفية مواجهته أعمق الأسئلة وأصدقها. اختار في حياته أصعب المسالك من أجل ما يعتقد أنه حق لشعبه وأمته، فكان علماً وقدوة في الناس ورمزاً. لبى دائماً نداء الخط الأمامي في النضال من أجل بني قومه، فشارك عام 1941 في نصرة ثورة رشيد عالي الكيلاني في العراق ضد الإنكليز كما شارك في معركة الاستقلال السوري في حمل السلاح ضد العدوان الفرنسي العسكري على البرلمان السوري. حافظ حتى آخر نفس على براءة التأسيس الأولى ولم يدع الزمن والمصاعب وتعب الرفاق وتلال الاجتهاد المتخاذل تدخل روحه. فكان دائماً المجدد المستشرف تسعفه ثقافته الواسعة ونفرته من الرخص والاستسهال وتحصنه بالكبرياء والتواضع معاً، واستلهامه أولاً وآخراً روح البسالة التي لا يتصف بها إلا المنذرون ليفتدوا معاني الحياة وقيمها الكبيرة. هذا الطبيب لعقل الأمة ونفسها وليس لأفرادها فحسب، مهندس أيضاً في تصور وتشكيل العلاقات الأخوية التي شدت وتشد دمشق الى سائر العواصم العربية. قوميته حب للعربي القريب والبعيد. والكتابات الأخيرة التي كتبها جمال الأتاسي كذكريات عن زياراته الأولى الى لبنان تشهد على دقته في رصد الينابيع المتعددة التي خرجت منها الروافد المختلفة لنهر العروبة الخالد، فكأنه لا يغيب عن نفسه الكبيرة شيء، بل كأنه يدعو لا إلى الديموقراطية داخل الأقطار العربية فقط بل أيضاً الى الديموقراطية بين الأقطار العربية في علاقتها ببعضها بعضاً. على أن الحاضر في حسابه وفي كل حال هو مصر. وكانت جريدة الجماهير التي صدرت أثناء الوحدة والتي ترأس تحريرها وحشد لها نفراً من أفضل كتاب العرب أصدق تجل للضمير العربي في تلك المرحلة - المنعطف وأنصع مخاطبة للأمة في واحد من مفترقات طريقها الأكثر أثراً في مصيرها. وعندما لم يجد وسيلة للاستمرار في الصدور، كان عنوان مقاله الافتتاحي "الصمت موقف". بعد سقوط الوحدة ساهم بإشرافه على جريدة "البعث" في محاولة إنقاذ تاريخية لروح الوحدة. وكانت مقالاته ومقالات رفاقه حاسمة التأثير في جعل حكم الانفصال مستحيلاً. ولمناسبة مرور عام على وفاة الرئيس عبدالناصر كتب في جريدة "النهار" اللبنانية عمّا سماه "ناصرية المستقبل". في فجر ثورة الثامن من آذار مارس، حين تولى وزارة الإعلام في حكومة الأستاذ صلاح بيطار وأثناء زيارة لي إلى دمشق، كرر لي الطلب في أن أبقى في دمشق أكتب فيها في جريدة "البعث" وفي سياسيات الإذاعة السورية متلطفاً شارحاً لي طلبه بالقول: "إني أخشى أن يكون المصري والسوري منفعلين سلباً أو إيجاباً في هذه الفترة وأن يكونا بالتالي غير موضوعيين تماماً في الرؤية الى التواقع وفي كيفية استعادة الوحدة، فلا بد من الاستعانة بإخوان عرب لعلهم يرون ما يجري بذهن أصفى وأقل تأثراً بالتفاصيل والحساسيات، فهم أيضاً معنيون بما يجري من سجال غير سليم بين العاصمتين". وقد أعجبني منه ومن رئيس الحكومة هذا الضمير المرهف وتلك النزاهة المطلقة التي يخشى فيها المناضل الثوري على نفسه من أن يكون الانغماس قد عطل عنده جزءاً من الرؤية وانحاز به، من غير أن يعلم، عن الموضوعية التامة.ولم أتمالك من أن ألبي النداء تحت تأثير سحر هذا الكم من النقاء النادر في السياسة والذي عرفني أكثر بنوعية هذا السياسي المناضل المتجرد والمبطن بحس ديموقراطي في غاية الرهافة، هيهات أن نجده عند غير القلة من آباء الديموقواطية في أرقى بلدان العالم. إن المنطلق القومي الذي تمسك به جمال الأتاسي إبان الوحدة المصرية - السورية وبعدها تتأكد صحته في هذه الآونة بالذات التي تشبه تلك الأيام في الخطورة والتي أصبحت فيها الحاجة فائقة لمواجهة مرحلة تخطيط نهائي لأوضاع المنطقة. والدليل الصارخ هو أن سياسة تفكيك المسارات وإيجاد الخلافات العربية - العربية أصبحت هي المدخل الذي تريد إسرائيل أن تنفذ منه للتخريب على آخر احتمال لقيام سلم عادل في المنطقة. ونخطئ الظن إذا اعتبرنا سياسة تفكيك المسارات سياسة مقتصرة على الفصل بين لبنان وسورية وحدهما، فالمصلحة الإسرائيلية ومصلحة من معها هي تفكيك كل المسارات العربية من دون استثناء القريب منها والبعيد. فحتى الدول العربية التي عقدت معها إسرائيل اتفاقات ومعاهدات يراد لها أن لا تقوم علاقة بينها وبين العرب الآخرين. إن سياسة تفكيك المسارات تشملها هي الأخرى على رغم كل المظاهر. ذلك أن الجميع يكون أضعف إذا كان وحده وممنوعاً عليه أن يجد سبيلاً يقوى فيه بأن يمد يده لأي عربي آخر. من هنا وإصراراً على بقاء قدرة الحكومات والشعوب العربية على توحيد قواها، كان جمال الأتاسي متحمساً للتضامن، ومنه مشاركته في المؤتمر القومي العربي والمؤتمر القومي الإسلامي. إن امتداد عطائه العملي والفكري على مساحة عمر طويل بكامله، وانتشار هذا العطاء على أقطار الأمة كلها القريب منها والبعيد، وشموله فئات اجتماعية وطبقات متعددة، وثقافته الواسعة وذهنه المتوقد وخلقيته الصارمة، كل ذلك جعل لكلمته وموقفه وزناً خاصاً في كل مجلس وفي كل موقع. وإذا كان من صفاته جلال الماضي فإن من أبرز ميزاته الانشغال الجاد بالحاضر والمستقبل بل كان لا يوازي اهتمامه بما حوله ومن حوله إلا اهتمامه بالمستقبل. كيف لا ومرور الزمن أكد له أن العقلية الوحدوية التي يؤمن بها ويفتقدها الكثيرون هي وحدها القادرة على بناء أي تكافؤ مع أعداء الأمة ومع إسرائيل تحديداً لاسيما في عصر العولمة هذا وهي وحدها القادرة على إعطاء صاحبها حس الجدية في القدرة على حل التناقضات العربية وإيقاف التشرذم وهي وحدها السبيل الى سلم عادل. كان رحمه الله متحمساً للمقاومة في لبنان، وكان يتفاءل ويفرح وهو يسمع أخبار إنجازاتها وأخبار تقارب اللبنانيين في نظرتهم إليها واتفاقهم على دعمها، ويرى في ذلك برهاناً على أن النضال في وجه إسرائيل هو من صلب مصلحة وكرامة جميع اللبنانيين كما هو من مصلحة وكرامة كل عربي. وكان يعتبر ولادة المقاومة واستمرارها شهادة لشعب لبنان وبراءته مما يصوره به الأعداء والمغرضون، بل كان يرى ولادة هذه المقاومة شهادة للديموقراطية التي تميزت بها الحياة اللبنانية تاريخياً. وكما خشي جمال الأتاسي بحق على الوحدة من أن يذهب بها منطقا المزايدة والمناقصة في الماضي، وجدناه في أيامه الأخيرة يخشى من أن تضعف المزايدة والمناقصة المواجهة القومية فتنجح سياسة تفكيك المسارات لينتكس خط السلام العادل، كما نجحت في الماضي حركة الإجهاز على الوحدة فبدأ التراجع الاستراتيجي عنها نتيجة الأخطاء هنا وهناك. وإني أشعر أن رائحة زكية تفوح من هذا المكان مكان الاحتفال في دمشق لتصل الى كل مكان ونحن نتحدث عن هذا الضمير النقي والروح الطاهرة والسيرة المكرسة لكرامة الأمة وإنسانها. ولا يسعني إلا أن أشكر منظمي الاحتفال بذكرى الراحل العظيم مقدماً العزاء لسورية المجاهدة وللأمة العربية قاطبة، خصوصاً لعائلة الراحل في شخص شقيقه الأستاذ نادر وكريمته الآنسة سراب وآل الأتاسي ورفاقه وحاملي رسالته في وحدة هذه الأمة وحريتها وعزتها على مدى الأزمان. * كاتب ومفكر لبناني. والنص كلمة ألقاها في تأبين الراحل جمال الأتاسي قبل أيام في دمشق.