توفي في دمشق مساء الخميس الدكتور جمال الاتاسي، الطبيب النفسي والسياسي ابن العائلة المعروفة في مدينته حمص عن عمر يناهز 88 عاماً. وكان اسم الاتاسي قد برز للمرة الاولى في 1963 حين سمّي وزيراً للاعلام في حكومة شكلها الراحل صلاح الدين البيطار، بعيد انقلاب 8 آذار مارس الذي حمل البعث الى السلطة. لكن جمال الاتاسي كان لعب ادواراً سابقة يعرفها البعثيون والمحيطون بهم وحدهم، فضلاً عن ادواره غير السياسية كرئاسته مستشفى ابن سينا للأمراض النفسية في دمشق. فهو كان من اوائل من انتسبوا الى البعث الذي ربطته علاقة وثيقة بمؤسسيه ميشيل عفلق والبيطار، حتى صار الابرز في القيادة الثانية التي تلي القيادة التاريخية مباشرة. ومن موقعه هذا، ولا سيما بصفته العقل الثقافي - الايديولوجي للحزب، رعى بالاشتراك مع رفيقه عبدالكريم زهور، محاولات التجديد الثقافي التي عرفها البعثيون السوريون في الخمسينات، فانتشرت حركة ترجمة في وسطهم، كما شاعت افكار اراد بها الاتاسي مقارعة الماركسية وزحفها من خلال الحزب الشيوعي السوري. في هذا السياق حضّ رفاقه وتلامذته على معرفة اليمين الوجودي ممثلا بمونييه، والاطلاع على نقد اليسوعي كالفيس للماركسية. ودائماً كانت مراجع جمال الاتاسي فرنسية تبعاً لتخرجه من باريس فضلاً عن زواجه الاول من فرنسية انجبت له ابنته سوزان، قبل ان يتزوج للمرة الثانية من ابنة عمه. كذلك تولى الاتاسي شخصياً تأسيس العلاقة التي ربطت البعث، منذ 1956، برابطة الشيوعيين اليوغوسلاف بوصفها طرفاً "قومياً تقدمياً" لم تحل ماركسيته دون وقوفه في وجه موسكو. وقد حمّل الاتاسي النشرات الحزبية الداخلية والتثقيفية التي كانت في عهدته، مبدأ الانفتاح على الحداثة والعداء للماركسية في آن. غير أنه بعد الانفصال في 1961 تحوّل الى الناصرية، وكان البعث قد حُلّ منذ قيام الوحدة. اما ما قاده في الاتجاه هذا فاعتباره أن الوحدة هي، دون سواها، وسيلة النهضة، وانه مهما كانت اخطاء عبدالناصر تبقى الوحدة الأهم. وفي تلك الفترة أشرف على اصدار جريدة "البعث" وخطها السياسي، كما أصدر كراسي "في الفكر السياسي" حيث ظهرت اسماء جديدة رعى الاتاسي تقديمها العام. وكان الابرز بين هؤلاء ياسين الحافظ والياس مرقص ممن "تحمّل" ماركسيتهما ما داما قوميين وناقدين للأحزاب الشيوعية. ومع انقلاب آذار عاد جمال الاتاسي الى البعث المُعاد تنظيمه في مَن عادوا، الا ان حزبه القديم كان قد أمسى عدداً من الاحزاب التي تتعايش بقلق داخل جسم واحد. وهو لم يُطل بقاءه مع رفاقه اذ سريعاً ما انحاز الى الناصريين الذين اشتبكوا دموياً مع البعث، بحيث انهار مشروع بناء وحدة ثلاثية كان يفترض ان تضم مصر والعراق وسورية. مذّاك شرع المعارض، وأمين عام "الاتحاد الاشتراكي العربي"، جمال الاتاسي يزيد جرعة نقده للنظام ومآخذه على تركيبه الاهلي، فيما يزيد جرعة تمسكه بالناصرية. وفي هذا السياق تولى الامانة العامة ل"التجمع الوطني الديموقراطي" الذي انشىء اواخر السبعينات وضم قوى عدة بينها حزبه، وكان من ابرز اركان هذا التجمع رياض الترك الذي اطلق سراحه أخيراً بعد سجن مديد. وفي تلك الغضون طرح التجمع "الطريق الثالث"، او ما اسماه "طريق الديموقراطية" بديلاً من السلطة والاسلاميين. على ان الاتاسي ظل يمثّل، في نظر كثيرين، معارضة قومية وأخلاقية وجدت هي نفسها من ينتقدها لتأثّرها بمصادرها الأهلية والتجمعية. * يشيّع جمال الاتاسي بعد ظهر السبت في مسقط رأسه، حمص حيث ولد في نيسان ابريل 1922، ويوارى في مدافن العائلة.