أكثر من 500 ألف طالب وطالبة يعودون لمقاعد الدراسة بتعليم مكة    "تلال" تختتم مشاركتها في "سيتي سكيب الرياض" بتوقيع اتفاقيات إستراتيجية لتعزيز جودة الحياة في مشاريعها    وزير الرياضة يشهد ختام منافسات الجولة النهائية للجياد العربية (GCAT)    "المواصفات السعودية" تنظم غدًا المؤتمر الوطني التاسع للجودة    "الأرصاد"سماء صحو إلى غائمة على جازان وعسير والباحة ومكة والمدينة    المكسيكي «زوردو» يوحّد ألقاب الملاكمة للوزن الثقيل المتوسط لWBO وWBA    «الطاقة»: السعودية تؤكد دعمها لمستقبل «المستدامة»    نفاد تذاكر مواجهة إندونيسيا والسعودية    منتخب هولندا يهزم المجر برباعية ويلحق بالمتأهلين لدور الثمانية في دوري أمم أوروبا    شمال غزة يستقبل القوافل الإغاثية السعودية    اللجنة المشتركة تشيد بتقدم «فيلا الحجر» والشراكة مع جامعة «بانتيون سوربون»    اليوم بدء الفصل الدراسي الثاني.. على الطريق 3 إجازات    20,124 مخالفاً في 7 أيام وإحالة 13,354 إلى بعثاتهم الدبلوماسية    «إعلان جدة» لمقاومة الميكروبات: ترجمة الإرادة الدولية إلى خطوات قابلة للتنفيذ    5 فوائد صحية للزنجبيل    اختلاف التقييم في الأنظمة التعليمية    مهرجان الزهور أيقونة الجمال والبيئة في قلب القصيم    المتشدقون المتفيهقون    الإستشراق والنص الشرعي    بيني وبين زوجي قاب قوسين أو أدنى    أهم باب للسعادة والتوفيق    الفرصة المؤكدة و مغامرة الريادة في كفتي ميزان    أغرب القوانين اليابانية    «مزحة برزحة».. هل تورط ترمب ب«إيلون ماسك» ؟    البيان المشترك الصادر عن الاجتماع الثاني للجنة الوزارية السعودية- الفرنسية بشأن العُلا    14% نموا في أعداد الحاويات الصادرة بالموانئ    أمن واستقرار المنطقة مرهون بإقامة دولة فلسطينية مستقلة    اكتشاف تاريخ البراكين على القمر    «واتساب»يتيح حفظ مسودات الرسائل    عروض ترفيهية    محافظ محايل يتفقد المستشفى العام بالمحافظة    شارك في الطاولة المستديرة بباكو..الجاسر: 16 مليار دولار تمويلات البنك الإسلامي للمناخ والأمن الغذائي    مشاركة مميزة في "سيتي سكيب".. "المربع الجديد".. تحقيق الجودة ومفهوم "المدن الذكية"    إطلاق النسخة الرابعة من «تحدي الإلقاء للأطفال»    السخرية    المؤتمر العالمي الثالث للموهبة.. عقول مبدعة بلا حدود    وزير الدفاع ونظيره البريطاني يستعرضان الشراكة الإستراتيجية    أشبال الأخضر يجتازون الكويت في البطولة العربية الثانية    ضمن منافسات الجولة ال11.. طرح تذاكر مباراة النصر والقادسية "دورياً"    منتخبنا فوق الجميع    الابتسام يتغلّب على النصر ويتصدّر دوري ممتاز الطائرة    دخول مكة المكرمة محطة الوحدة الكبرى    رحلة قراءة خاصة براعي غنم 2/2    الحكمة السعودية الصينية تحول الصراع إلى سلام    حكم بسجن فتوح لاعب الزمالك عاما واحدا في قضية القتل الخطأ    ابنتي التي غيّبها الموت..    ألوان الأرصفة ودلالاتها    وطنٌ ينهمر فينا    المرتزق ليس له محل من الإعراب    خطيب المسجد الحرام: احذروا أن تقع ألسنتكم في القيل والقال    أمير تبوك يطمئن على صحة الضيوفي    ختام مسابقة القرآن والسنة في غانا    المؤتمر الوزاري لمقاومة مضادات الميكروبات يتعهد بتحقيق أهدافه    الزفير يكشف سرطان الرئة    أمير الباحة يكلف " العضيلة" محافظاً لمحافظة الحجرة    تركيا.. طبيب «مزيف» يحول سيارة متنقلة ل«بوتوكس وفيلر» !    مركز عتود في الدرب يستعد لاستقبال زوار موسم جازان الشتوي    عبدالله بن بندر يبحث الاهتمامات المشتركة مع وزير الدفاع البريطاني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مئة سنة على تجديد التراث الإسلامي . سيف الدين عبدالفتاح: جامعة القاهرة التجديد ليس تبديداً والتقليد من أهم معوقاته جمال سلطان: مجلة المنار الجديد معظم الجهود تنويعات في رحلة الانسلاخ من التراث
نشر في الحياة يوم 15 - 05 - 2000

} مرّت اكثر من مئة سنة على محاولات تجديد التراث وانتهت في معظمها إلى فشل يكرر نفسه.
وجّهت "الحياة" في السياق المذكور اسئلة تناولت تقييم تلك التجارب ومدى تجاوبها مع حاجات العصر، وحدود صلة الفكر العربي الحديث بالتراث الاسلامي.
وهنا اجوبة استاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة سيف الدين عبدالفتاح ورئيس تحرير مجلة "المنار الجديد" جمال سلطان.
يقول استاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة الدكتور سيف الدين عبدالفتاح: في البداية نستطيع ان نحدد مفهوم التجديد في اطار ما يمكن تسميته بوصل ما انقطع وذلك في اطار العلوم التراثية والقدرات التي تتعلق بتطويرها بما يجيب على المستحدث من المشكلات. وواقع الامر أننا سنجد بالنسبة إلى مفهوم التجديد من يحاول مهاجمته في اطار أنه قد يمارس عمليات تبديد، الا ان ذلك ليس مسوغاً بأي حال من الاحوال للوقوف عند حدود التقليد. فكما ان التجديد ليس هو التبديد، فانه كذلك يعتبر التقليد من اهم معوقاته. وهنا يجب ان نربط مفهوم التجديد بمفهوم الإحياء: "يا ايها الذين آمنوا استجيبوا لله ورسوله اذا دعاكم لما يحييكم" ذلك ان التجديد ليس من معانيه ان يقطع اتصاله بما مضى ولكنه يستفيد منه ويستثمره ويراكم عليه ويزنه، حتى يتصل التراث بالواقع ويتصل الواقع بالتراث. وفي هذا السياق فليس هناك من مبرر لمن يرفضون التجديد لأن البعض يمارس تجاوزات في هذا المقام، علينا اذاً بدلاً من ان نبدد مفهوم التجديد ان نضع جملة الضوابط المنهجية التي تتعلق بمجالات التجديد وقضاياه المتنوعة.
وليس كل من ادعى التجديد يُسلم له، فالتجديد كما قلنا لا بد وان يكون موصولاً بالأصل لا يتجاوزه ولا ينتهك ثوابته، إن القاعدة الذهبية التي يؤكدها ابن القيم الجوزيه في هذا السياق، هي اننا لا بد ان نعطي للواقع حقه من الواجب، وان نعطي للواجب حقه من الواقع. فكل هذه التيارات التي اقحمت التحليلات المادية والماركسية بدعوى تجديد التراث، هي في الواقع لم تجدده وانما بددته لمصلحة ايديولوجيات معاصرة. واخطر الامور هو تسييس التراث وأدلجته، إن صح هذا التعبير.
ويشار في هذا الصدد إلى محاولات الذين استقوا مفهوماً للعقلانية من داخل التراث الغربي وأرادوا ان يسقطوه على التراث الاسلامي فبدأوا يوزعون ذلك على مناطق معينة من التراث بشكل شديد الانتقائية، مثل ان ابن رشد رائد التنوير، وان المعتزلة هم العقليون الوحيدون في الاسلام، هذه الانتقائية الشديدة تعبر عن عدم فهم لمفهوم العقل وأدواره ووظائفه في اطار الرؤية الاسلامية. إن العقل والوحي ليسا من الثنائيات المتصارعة كما أراد الفكر الغربي أن يؤكد ولكنها من الثنائيات المتزاوجة التي تثمر تجديداً لا يعبر عن تعارض بين العقل والنقل، وليس مؤلف ابن تيمية "درء التعارض بين العقل والنقل" إلا واحداً من القرائن التي تدل على ذلك الاتجاه. "والعقل من وراء الوحي ملبياً"، كما يقول الشاطبي في "الموافقات"، كما ان تقديم العقل على الوحي هو من جملة التقدم بين يدي الله ورسله. وانا ارى للوحي والعقل ادواراً متكاملة لا متصارعة.
- حاولت المدارس الفكرية المعاصرة في وقت من الأوقات ان يُحصر الاسلام في رأي هنا او هناك لتأييد سياسات موقته، مثل القول بالاشتراكية الاسلامية او الديموقراطية الاسلامية، والامر في تصوري يجب الا يعالج على هذا النحو، فهناك مفاهيم برزت في العصر الحديث تتطلب من المسلم ان يتخذ موقفاً منها، هي بحق مفاهيم الموقف، ليس من ضرورة تدفع هؤلاء ان يضفوا صفة الاسلامية على هذه المفاهيم. وقضية المفاهيم هي في اعتقادي أعقَد من ان تُضفى عليها صفة هنا او هناك.
كذلك المدارس التي جعلت الاسلام مقصوراً على العرب، انما تريد بذلك ان تحتكر الاسلام، وتحصر رحابته في ظل مفهوم قومي ضيق، وفي واقع الامر فان ذلك أيضاً، هو من اتجاهات التبديد لا التجديد، تبقى المدرسة التي نؤكد عليها وترى ان التجديد عملية ممتدة لها من الدواعي او الضرورات بمقدار ما تضع من ضوابط.
والتجديد بهدف احيائي لا يهدر ذاكرة أمة بل يستثمرها في اطار فهم الواقع، ورؤية المستقبل. ومن غير هذه الواصلة فان المسلم يفقد إما وعيه بذاته او وعي الموقف او وعيه بغيره - والامر يتعلق بمحاولة السعي والوعي في عملية التجديد.
الا ان بعض الاسلاميين ينظر إلى عملية التجديد باعتبارها حكراً عليهم في مسائل تتعلق بتسيير الحياة وتدبير امورها، على رغم ان الإسلام يدعو المسلم إلى ان يتعلم امور حياته ويتدبرها ويستشير بصددها. ذلك ان الرؤية الشورية في عملية التجديد هي من القواعد الضامنة لفاعليته ونجاعته، كما ان البعض في اطار ما يرونه من تفلت المجتمع من الاسلام والتراث يأخذون الناس بالشدة ويضيّقون عليهم ويجعلون من ذلك التضييق اصلاحاً على رغم ان عليهم ان يتعاملوا مع ذلك المجتمع في سياق من الود والتراحم: فما دخَل الرفق في شيء إلا زانه، وما دخَل العنف في شيء إلا شانه. والامور في الاصلاح تؤخذ بالتدريج، وإلا لازداد الناس تغلقاً وسُد في وجوههم، بفعل البشر باب التوبة، على رغم ان الله سبحانه جعله مفتوحاً ابداً، فهو التواب الرحيم.
- لا شك في ان هناك اجتهادات بدأت تبرز ضمن كتابات في المرحلة الاخيرة تتسم بقيمة عالية تأخذ في اعتبارها وجهات الاختلاف: الزمان، المكان، الانسان، اذ قدمت في مجالات متعددة من مثل الاقتصاد او القضاء او المرأة او في النظام السياسي ما يعبر عن اجتهادات شديدة القيمة. فنظرة إلى اجتهادات المستشار طارق البشري في ولاية المرأة، وفي ولاية غير المسلمين، وفي موضوع المواطنة، تبيّن انه يعبّر عن اجتهادات ذات رؤية منظومة تحاول ان تتعرف على طبيعة الواقع المعاش ومعادلاته، وفي اطار يستوعبه الاسلام بقواعده وقوانينه وقيمه اذ يقدم رؤى متميزة في ذلك المقام. وكذلك اجتهادات الشيخ محمد مهدي شمس الدين ومحمد حسين فضل الله حول قضايا المرأة وولايتها، وكذلك المواطنة والتعددية، فهي امور تستحق التأمل والتقدير.
واجتهادات الدكتور محمد سليم العوا حول المؤسسية وفلسفة النظام العقابي في الإسلام والمنظومة القضائية من منظور الاسلام التي تعبّر عن اجتهادات مهمة من ناحية المؤسسة، كذلك اجتهادات فهمي هويدي حول الكثير من المفاهيم من مثل مفهوم الديموقراطية والتعددية والظاهرة الحزبية والمجتمع الاهلي، انما تعبّر عن آراء غاية في الاهمية. كذلك اجتهادات الدكتور رفعت العوضي في فلسفة النظام الديموقراطي وربط ذلك بمؤسسات. وأيضاً الدكتور حسين غانم والدكتور عبدالرحمن يسري والدكتور شوقي دنيال التي تعبّر عن منظومة تكتيكية واجتهادية تحقق مقاصد جوهر الشرع ولا تقفز على حقائق الواقع.
والاجتهادات التي يقوم عليها الدكتور علي جمعة في مقاصد الشريعة وطرائق تفعيلها انما تعبّر عن اجتهادات مهمة في ذلك المقام. وكذلك الاجتهادات في الامور بالمعاملات البنكية التي يسهم فيها الدكتور جمال عطية لتدخل ضمن هذا الخط الاجتهادي الذي يتضمن رد الناس رداً جميلاً إلى دينهم وتراثهم، وفهم الواقع الذي يعيشونه بمتغيراته.
وليست تلك الاسماء الا نماذج من هذه المدرسة التي تحاول ان تؤكد وتؤصل معنى التجديد في قضايا واقعية - وليس لأحد يأتي باجتهاد أو تجديد مخالف، أن يرمي هؤلاء بالتهم او المطاعن، فهذه ليست الا حيلة المقلد العاجز. فالقضية ليست في رفض التجديد ولكن في رفض أدعيائه والتقليد لن يحمي الأمة لأن متغيرات الزمن تتسارع، وادعاء التقليد سيجعلنا خارج الزمن مشهودين لا شاهدين، مفعول بنا لا فاعلين، فهل نستطيع ان نوصل آليات لعملية التجديد ومناهج وادوات وقواعد واصول وضوابط بما يضمن لهذه العمليات التجديدية استمراريتها وقدرتها على العطاء؟. ذلك ان هذه الكلمات التجديدية ليست إلا كلمات طيبات كشجرة طيبة تؤتي أكلها كل حين.
الفكر التغريبي
يقول رئيس تحرير مجلة "المنار الجديد" جمال سلطان: يلاحظ ان "اسئلة النهضة" التي كانت تتردد منذ مئة عام هي نفسها التي نرددها اليوم: الحديث عن الهوية والانتماء وشروط النهضة وتحرر المرأة وعن القديم والجديد في الادب ولماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم الغرب.
ماذا يعني ذلك؟ إنه يعني ان الاجوبة التي تمثل الاجتهادات المعاصرة لحل مشكلات الواقع لم تستطع ان تقدم حلولاً مقنعة يرتضيها العقل والوجدان العربي المعاصر. واستطيع ان اقول إن هذه الاجتهادات عطلت النهضة المرتجاة وعقّدت السبيل اليها اكثر من ذي قبل.
على سبيل المثال موضوع التنمية. انت عندما تقيم مشروعات للتنمية في واقع لا يزال الضمير الشعبي والوجدان العام فيه يتأسس على الدين، ثم تضع أنت كل خطط النهضة على اساس عزل الدين، هذا المقوم الخطير لتحريك طاقات الشعوب للعطاء والاخلاص والتفاخر، فأنت بذلك تضع حاجزاً سميكاً ما بين القواعد العامة في المجتمع وبين مشروعات التنمية التي انتهت إلى كونها مجرد افكار تتداولها النخبة وتحاول فرضها قسراً على الواقع وتجريعها للشعوب بالعنف والقسوة.
ثم بعد 30 أو 40 عاماً تعترف النخبة بأن هذا كله كان سراباً... راجع معي، إن شئت، التجارب التي تأسست على الاشتراكية منذ منتصف القرن وحتى سنوات قليلة خلت في مصر والعراق والجزائر وليبيا... وغيرها.
خذ على سبيل المثال تجربة تحرر المرأة. كانت المرأة العربية مثل الرجل أصابها قدراً كبيراً من الركود الفكري والتخلف الحضاري والعلمي. وكانت فعلاً تحتاج إلى نقلة مهمة ولكن كيف طرحت مسألة تحرر المرأة؟
طرحت من البداية على انها نزع الحجاب. لقد اختزل العقل التغريبي مشكلة المرأة العربية في الغطاء الذي تغطي به رأسها، وبالتالي فقد تعطلت حركة تحرر المرأة عقوداً طويلة في المجتمع العربي بسبب هذا المدخل الخاطئ لجهة أن المجتمع نظر إلى التحرر على انه نوع من الفجور والانفلات الاخلاقي، وحتى يومنا هذا مازال الوجدان الشعبي العربي اذا سمع عبارة "امرأة متحررة" فإنه يترجمها ذهنياً إلى: "امرأة عديمة الخلق والحياء".
اما بالنسبة إلى مسألة التعليم، فنلاحظ ان التعليم كان شرطاً ضرورياً لتحرر المرأة، ولكن العقل التغريبي عندما طرح مطلب التعليم ربطه منذ البداية بالاختلاط، وبالتالي فقد عقّد مسيرة تعليم المرأة وعطلها عقوداً طويلة، لأن الاسرة العربية وجدت نفسها امام خيارين: اما ان تبعث ببناتها إلى التعليم وتضحي بسلامة أمنها الاخلاقي واما ان تحافظ على شرفها وأخلاقها على حساب حرمان البنت من التعليم. ولم تكن هناك ضرورة على الاطلاق لفرض هذه المحنة على الاسرة العربية أو على المجتمع العربي ولكن العقل التغريبي لم يكن ينظر إلى الواقع وانما كان مشدوداً إلى قيم وأفكار غربية بهرته ويريد ان يبذرها في واقعه من دون أي نظر أو تقدير لخصوصيات البناء الحضاري المختلفة بين أمة وأخرى التي على اساسها تختلف أيضاً شروط النهضة.
- تستحضرني مقولة المستشرق الفرنسي المعاصر شارل بيلا، عندما سأله صحافي جزائري: ماذا تقرأ الآن، الادب العربي القديم أم الادب العربي الحديث؟ فقال: قطعاً القديم. فسأله ولماذا لا تقرأ الحديث؟ فقال لأنه أدب أوروبي مكتوب بلغة عربية.
في الواقع هذا مدخل يلخص لنا صلة الفكر العربي الحديث بالتراث، لأن الذي حدث هو انه لم يكن هناك تواصل مع التراث او حتى رغبة في التجديد بمعنى استيعاب التراث ثم التجديد من خلاله بما يتواءم مع العصر، وانما كانت هناك رؤية سلبية للغاية تجاه التراث العربي - الاسلامي والشعور بأنه قيد وبأنه عبء. ولذلك كانت معظم الجهود التي ترعى تجديداً للتراث هي في صميمها تنويعات على رحلة الإنسلاخ من التراث والهروب منه.
واذكر على سبيل المثال ان الباحث العربي الطيب تيزيني وضع مؤلفاً ضخماً من أجزاء عدة اسماه "من التراث إلى الثورة: نحو نظرية مقترحة في قضية التراث العربي"، ذكر فيه بالنص مُلخصاً هدفه ان دراسته هذه هي "تصفية حساب مع هذا التراث". ولك ان تتخيل كامل الابعاد النفسية والفكرية التي تقف وراء هذه العبارة.
وأذكر لك من تجارب اخرى، على سبيل المثال، الدراسة التي وضعها علي أحمد سعيد أدونيس "الثابت والمتحول بحث في الاتباع والابداع عند العرب"، وكانت عبارة عن عملية هدم منظم لمعالم التراث العربي الاسلامي. وتعبير الهدم ليس من عندي ولكن هو النص الحرفي لكلام أدونيس نفسه في هذا الكتاب، إذ أنه قال في مقدمة الجزء الثالث منه وعنوانه "صدمة الحداثة" ملخصاً الغاية من جهده في هذا البحث قائلاً "واذا كان التغيير يفترض هدماً للبنية القديمة التقليدية فإن هذا الهدم لا يجوز أن يكون بآلة من خارج التراث العربي وانما يجب ان يكون بآلة من داخله. إن هدم الأصل يجب أن يمارس من الاصل ذاته".
كان أدونيس مهموماً بتأسيس رؤية جديدة للحداثة الادبية فكتب في مؤلفه السابق يقول إن الحداثة ظاهرة تتمثل في تجاوز القديم العربي لكي تصهره في قديم أشمل يوناني - مسيحي - كوني.
فالذهنية العربية كانت مشدودة إلى الهدم وتصفية الحساب وكل هذا مؤشر واضح على ان الغاية لم تكن تجديد التراث انما البحث عن صيغة للهروب منه والإنسلاخ عنه.
- وبالنسبة إلى تجاوب تجارب تجديد التراث مع حاجات العصر اعتقد انها فشلت في ممارسة تجاوب فاعل وراشد مع حاجات العصر، لأنها ببساطة اتخذت موقف التابع والمقلد واللاهث تجاه الابداعات العصرية التي افرزها العقل الاوروبي القديم والجديد، على حد سواء. فالعصر كان هو العصر الاوروبي وكان التجاوب مع العصر في الوعي العربي الجديد لا يعني أن أشارك في صوغ العصر الذي نعيش فيه، وانما كان التصور هو أن أعايش او استسلم للعصر الذي صاغة الآخرون.
وبالتالي كانت التجارب التي تحاول ربط التراث العربي - الاسلامي بالعصر الجديد هي محاولات لتطويع التراث العربي بما يجعله مبرراً لمنطق وقيم العصر الاوروبي الجديد.
هذا الحكم يشمل كل تلك التجارب حتى الفكر الاسلامي الحديث نجد انه انجذب إلى هذا المأزق لجهة أن جهوده توقفت عند متابعة ورصد ونقد التيارات الفكرية التغريبية التي تعاطت مع قضايا التراث.
طه حسين، مثلاً، في كتابه "مستقبل الثقافة في مصر" نجده يلح على ان مصر ترتبط تاريخياً وحضارياً بشمال البحر المتوسط وليس بالمشرق. واصبح من الشائع والمعروف لدى القارئ العربي عبارة طه حسين الشهيرة، "ان سبيل النهضة هو ان نسير سير الاوروبيين وان نتبع طريقتهم حلوها ومرها حسنها وسيئها".
واذكر ان طه حسين أيضاً، عندما كان في باريس سنة 1925، كان يرسل مقالات للنشر في مصر جمعها في كتاب سماه "من بعيد"، أحد هذه المقالات وهو بعنوان "سارة برنار" كتب فيه يتغزل في فن سارة برنار وهي ممثلة مسرحية، ويقول للقارئ العربي: "إنها لم تكن تخيّل للنظارة انها تقبل أو تعانق على المسرح، بل كانت تقبل وتعانق في الحقيقة وتأتي من الافعال ما هو ابلغ في الدهشة من ذلك". ثم يعلق طه حسين على ذلك قائلاً: "كنت ارى ذلك واتساءل متى نرى في مصر نابغة كسارة برنار، او على الاقل متى تصل مصر إلى الرقي الحضاري الذي يجعلها تقدر فن واحدة مثل سارة برنار".
فتخيل معي كيف كان منطق التحضر عند شخصية في حجم طه حسين، لقد كان منطق التحضر والعصرانية عنده هو ان أذوب في القيم التي ارتضاها الغرب الحديث.
والآن اذا تجاوزنا القرن العشرين نجد ان المؤسسة الثقافية العربية مازالت مشدودة إلى المنطق نفسه. فعلى سبيل المثال كانت هناك اخيراً مفارقة صارمة تمثلت في ان "المجلس الاعلى للثقافة في مصر" اقام احتفالاً صاخباً بذكرى مرور قرنين على ميلاد الاديب الروسي بوشكين، في حين رفض المجلس نفسه ان يحتفل بمرور مئة عام على صدور مجلة "المنار" للشيخ محمد رشيد رضا، وهي حدث تاريخي في الثقافة العربية الحديثة. لأن تجربة رشيد رضا و"المنار" هي التجربة الفريدة التي حاولت التجديد من خلال التراث العربي الاسلامي.
سيف الدين عبدالفتاح
الدكتور سيف الدين عبدالفتاح، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، المستشار الأكاديمي للمعهد العالمي للفكر الإسلامي مقره في القاهرة سابقاً، وعضو مؤسس لمركز الدراسات الافريقية، وعضو في مركز الدراسات الإسلامية والتوثيق. شارك في عدد من المؤتمرات الدولية في ماليزيا والإمارات العربية المتحدة وبريطانيا، وصدر له عدد من المؤلفات منها تنمية العلاقات الدولية في المنظور الإسلامي، وأشرف حتى الآن على عشر أطروحات للماجستير والدكتوراه.
جمال سلطان
تخرج جمال سلطان في كلية التربية - جامعة الزقازيق وعمل في مجلة "مختار الإسلام" وفي مركز الدراسات الإسلامية في مالطة، وأسس مجلة "الأسرة".
يعمل حالياً رئيساً لتحرير مجلة "المنار الجديد" وصدر له 30 كتاباً في التغريب وتجديد الفكر الإسلامي. وهو وكيل مؤسسي "الحزب الاجتماعي الإسلامي" في مصر.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.