ومع أن كتاب (مستقبل الثقافة في مصر) يدور - بمجمله - حول مستقبل التعليم في مصر، بوصف التعليم هو الأداة الأكثر فاعلية في صناعة الثقافة بمعناها الشامل؛ إلا أن ما أزعج معارضي طه حسين، بل وربما كثير من مؤيديه، هو السؤال المحوري: ص 12"أمصر من الشرق أم من الغرب؟". وهو سؤال في عمق الهوية، لا يمكن أن تتسامح معه - كسؤال، فضلا عن جواب طه حسين عليه - قوى التقليد، ومراجع الرجعية، في مصر آنذاك . ردود الفعل المتشنجة تجاه هذا الطرح، لا تقرأ هذا السؤال؛ كما أراد له طه حسين، وإنما تقرأ السؤال هكذا: أمصر مع الإسلام أم مع الغرب المسيحي ؟. وكل كتابات الرافضين لطه حسين، تعيد وتبدئ؛ لتصل إلى برمجة وعي المتلقي؛ كي يقرأ سؤال طه حسين، بنفس لاهوتي؛ لا بنفس ثقافي. لقد كان طه حسين يطرحه في سياق ثقافي أنثروبولوجي. وهو حريص على عدم اختلاط السياقات. لهذا، فهو يؤكد - صراحة - هذا السياق الخاص، بقوله ص 12"وأنا لا أريد بالطبع الشرق الجغرافي والغرب الجغرافي، وإنما أريد الشرق الثقافي والغرب الثقافي". طه حسين، يريد أن يؤكد أنه إنما يريد: هوية الوعي ونمط الرؤية، وليس يريد الثقافة، كما هي في الخطاب الفكري المباشر، الذي يتبدل ويتشكل، ويظهر ويختفي، في لحظات قصيرة من عمر الثقافة العامة. كما أنه - من ناحية أخرى - لا يقصد بالشرق: الشرق القريب المتاخم لمصر، كفلسطين والشام والعراق والساحل الشرقي للبحر الأحمر، وإنما يقصد أمم الشرق الكبرى، الصين والهند واليابان، بوصفها أمما ذات زخم ثقافي خاص، يؤثر على طبيعة رؤيتها للأشياء، وتصوراتها للحياة، سلوكا وغاية . إن طه حسين لا يسأل عن التأثيرات الهامشية التي تطبع علاقات الأمم؛ بعضها ببعض، وإنما يسأل عن الثقافة كأداة رؤية، أي ك( عقل). يقول ص 13"فهل العقل المصري شرقي التصور والإدراك والفهم والحكم على الأشياء، أم هو غربي التصور والإدراك والفهم والحكم على الأشياء ؟ وبعبارة موجزة جلية أيهما أيسر على العقل المصري " أن يفهم الرجل الصيني أو الياباني، أو أن يفهم الرجل الفرنسي أو الإنجليزي؟ . إذن، لم يرد طه حسين بالثقافة: مجرد التأثر بالعواصف الفكرية العابرة، وإنما أراد تشكيل العقل، الذي يؤثر فيه ويحدده الانتماء الثقافي العام. وطه حسين يرى أن مصر لا تنتمي إلى الشرق، وإنما تنتمي إلى حضارة البحر الأبيض المتوسط. ويؤكد هذا، بأن علاقة مصر الثقافية - عبر تاريخها الطويل - لم تكن بالأممالشرقية: الهند والصين واليابان وشعوب آسيا الوسطى، وإنما كانت ذات علاقة وثيقة باليونان، وإلى حد كبير بالرومان. أي أن مصر كانت تتجه نحو الشمال، نحو الحضارات التي كانت تتخذ من البحر الأبيض المتوسط مجالا حيويا لها. ولا شك أن التاريخ، ووقائع الجغرافيا السكانية، كلها تؤكد رؤية طه حسين في هذا المجال. فمصر إلى عهد قريب جدا، لم تكن تمتلك نوافذ / موانئ، على البحر الأحمر، بينما كانت الإسكندرية مدينة شبه أوروبية، صنعتها شعوب الساحل الشمالي للبحر الأبيض المتوسط؛ لتكون لهم مركز تواصل مع شعب مصر، شعب الجنوب لهذا البحر، أو البحيرة الأوروبية الكبرى . هذا هو الواقع. وطه حسين يؤكده بشواهد من التراث اليوناني القديم، تؤكد عمق الصلة بين اليونان ومصر، وأن تأثير مصر على اليونان، لم يكن بأقل من تأثير اليونان في المصريين. بل يؤكد ص15أن "مصر قد عرفت اليونان منذ عهد بعيد جدا، وان المستعمرات اليونانية قد أقرها الفراعنة في مصر قبل الألف الأول قبل المسيح". بينما لم تكن ثمة صلات ثقافية عميقة، بين مصر والهند أو مصر والصين، أو بين مصر الفرس، بل هو يؤكد أن العقل المصري "لم يعش عيشة سلم وتعاون مع العقل الفارسي، وإنما عاش معه عيشة حرب وخصام" . هنا يأتي السؤال السياقي. فحين نشر طه حسين هذا الكتاب، وعبر عن هذه الرؤية المغايرة، هل كان المصريون يرون أنفسهم على هذه الصورة التي طرحها طه حسين ؟. يتألم طه حسين؛ لأنه يرى المصريين يرون أنفسهم شرقيين، أي يرون أنهم أقرب إلى الهند والصين واليابان وشعوب آسيا الوسطى، منهم إلى أوروبا. وهذا الشعور الذي يناهضه طه حسين، كان واضحا في بيئة المثقفين المصريين في النصف الأول من القرن العشرين. فهم يتحدثون عن الهند والصين واليابان، بوصفها شعوبا تشاركنا - آنذاك - واقعة التخلف، ومحاولة النهوض. بل تطرح وكأنها الشعوب الأقرب إلينا، في تقاليدها وعاداتها وأنماط تفكيرها. وطالما ردد المصريون قول أحمد شوقي: ولكن كلنا في الهم شرق . وإذا كان أحمد شوقي يرى نفسه منتميا؛ في سياق الثقافة الشرقية، في تقابل ضدي مع الثقافة الغربية، فإن طه حسين يرفض هذه الرؤية التقليدية السائدة عند مثقفي ذلك العصر، ويصرح - بجلاء - ص26"كانت مصر دائما جزءا من أوروبا، في كل ما يتصل بالحياة العقلية والثقافية، على اختلاف فروعها وألوانها". وواضح أن الجزئية هنا جزئية ثقافية، وليست جزئية جغرافية. وهذا رد حاد على الشعور الجماهيري، الذي لا يعي إلا إحداثيات التاريخ القريب، ولا يستحضر من الثقافة إلا ما يتردد على ألسنة سدنة التقليد . لا شك أن طه حسين يحاول ربط مصر بمصدر التقدم والحضارة: أوروبا، وأن ينأى بها عن محيطها المتخلف. إنها محاولة انتساب إلى عالم الحضارة والتقدم، لا عن طريق الادعاء الفارغ، أو الدعوة المجانية، وإنما عن طريق استحضار التاريخ الطويل، الذي طمرته قرون الظلام أو الإظلام، وفصلت الوعي الجماهيري عنه؛ حتى لم يعد يتذكر إلا ما أريد له أن يتذكره، من تاريخه القريب أو البعيد. إنها محاولة لإعادة الوضع الثقافي إلى طبيعته؛ عندما كانت مصر الساحل الجنوبي لأوروبا، وكانت أوروبا هي الساحل الشمالي لمصر، قبل أن تحدث القطيعة الكبرى على يد الاستعمار التركي، الذي وصل مصر به، وفصلها عن مجالها الثقافي الطبيعي. يرى طه حسين أن مصر كانت (حيّة) ثقافيا؛ عندما كانت نوافذها مفتوحة على أوروبا، وأنها بدأت بالنكوص، ثم أخذت في الانحطاط، بعد عزلها. وطه حسين يتهم الاستعمار التركي بهذا العزل أو الحجب الثقافي. وهو يرى في العنصر التركي عنصر جهالة وتجهيل، حتى أنه قضى - عندما سيطر - على كل مظاهر الحضارة الإسلامية، في البلاد التي تمكن من استعمارها. لقد تقدم المسلمون - نسبيا - في وقت ما. لكن كانت القرون الخمسة الأخيرة، قرون تخلف وانحطاط، بل وانسحاق، وكان ذلك - كما يقول طه حسين في هذا الكتاب - ص 27"حين أغار العنصر التركي على هذه الأقطار الإسلامية في حوض بحر الروم (يقصد: البحر الأبيض المتوسط) فردها إلى الانحطاط بعد الرقي، وإلى الجهالة بعد العلم، وإلى الضعف بعد القوة" . اتهام العنصر التركي - كجنس - بهذا الاتهام العام، تبدو فيه رائحة العنصرية المعممة. لكن، تبقى المشكلة أن وقائع التاريخ، منذ اكتشاف المسلمين لعالم الترك والمغول والتتر، تؤكد - بالوقائع المادية - حكم طه حسين. فالترك والمغول والتتر، رغم كونها شعوبا تفترق حينا، وتتداخل حينا، إلا أنها في التصنيف النهائي عنصر واحد، أو قسمات لوجه واحد. وهذا العنصر - كما يحكي التاريخ؛ وليس كما نحكم - استطاع تكوين إمبراطوريات واسعة، امتدت من سهول آسيا الوسطى إلى بلاد الشام. وامتدت بعض هذه الإمبراطوريات لأكثر من خمسة قرون كاملة. ومع هذا أبدعت في كل ما هو: (عضلي)، وكانت ملكة التوحش / القتال، أهم ملكاتها، وأبرز ما برعت فيه، بل كانت مبرر وجودها وهيمنتها. لكنها - وهنا المأساة - لم تبدع في أي مجال: (عقلي) على امتداد تلك القرون، واتساع تلك الإمبراطوريات، وتنوعها. بل كانت تمتلك عداوة طبيعية لكل ما هو عقلي، إلى درجة كانت هيمنتها على أية حضارة تمتلك تراثا عقليا، تعني قتل هذه الحضارة، بقتل تجليات العقل فيها. ولم تسد في مكان أو زمان، إلا تراجع فيه العلم في كل صورة، واضمحلت فيه الفنون بأنواعها، وانتشرت فيه الخرافة، ومظاهر التوثين - الواعي أو اللاواعي - للبشر أو للحجر. ولا يوجد استثناء حقيقي، ينفي هذا الحكم الواقعي، أو يزعزع من صلابته؛ رغم امتداد التجربة في الزمان والمكان . لهذا، لا أرى في حكم طه حسين، شيئا من العنصرية - وإن كانت الظاهر منه ذلك - وإنما هو حكم على الدلائل الأولية لوقائع التاريخ الذي عاصر طه حسين ذيوله الأخيرة. ومن يتأمل فترة الاستعمار العثماني للبلاد العربية؛ يجد أن القرون الأربعة لهذا الاستعمار، كانت أشد القرون ظلاما في تاريخ الإسلام، حتى تم الاصطلاح على تسميتها ب: عصور الانحطاط . هكذا هي قراءة طه حسين لتاريخ مصر، ولتاريخ علاقاتها مع غيرها، إيجابا وسلبا. وبما أنه يؤكد على أن حيوية مصر كانت مرتبطة - دائما - بانفتاحها على الضفة الشمالية لبحر الروم، وأن خمودها وتخلفها لم يكن إلا نتيجة انعزالها أو عزلها عن الاتصال بهذه الضفة، فإنه يؤكد أن بعث الحيوية في مصر من جديد لا بد أن يكون إلا بترسيخ هذا الاتصال، وتعميقه، إلى أقصى حد؛ شرط أن تبقى الهوية المصرية في معزل عن الاضمحلال . الحل الثقافي، ومن ثم، الحل الحضاري لإشكاليات التخلف، لا يكون إلا عن طريق توثيق الصلة بالعالم المتحضر: أوروبا. وهنا، يورد طه حسين الجملة الإشكالية، التي سيقرأوها أعداؤه باجتزاء نصي متعمد. وستكون هذه الجملة أشبه بالتهمة، التي سيرددها المتعاملون مع الثقافة بذهنية الاستجواب. يقول طه حسين ص 41يجب أن "نسير سيرة الأوروبيين ونسلك طريقتهم لنكون لهم أندادا ولنكون لهم شركاء في الحضارة، خيرها وشرها حلوها ومرها، وما يحب منها وما يكره، وما يحمد منها وما يعاب" . هذه الجملة، هي التي اتخذها التقليديون وثيقة اتهام. والإشكالية ليست في هذه الجملة المعزولة من سياق الكتاب: السياق الأصغر، ومن سياق إنتاج المؤلف: السياق الأكبر، وإنما هي إشكالية قراءة بالدرجة الأولى. إنها إشكالية القراءة المترصدة، القراءة التي لا تريد أكثر من تقديم: لائحة اتهام. لكن، أليست هذه الجملة ممعنة في التبعية، حتى لسيئات الغرب ؟. في ظاهرها نعم. فعندما تقرأ خارج السياقين: الأكبر والأصغر، فهي غير مقبولة. ومشكلة القراءة التقليدية أنها لا تعرف معنى القراءة بهذا المفهوم السياقي. وأذكر أن أحد هؤلاء التقليديين، اتهمني في كتاباتي بتهم كثيرة. وقبل الحوار معه، سألته عن مفهوم السياقين، واشتراطهما في إنتاج الدلالة، فزاغ بصره، واتسعت حدقتا عينيه باتساع مساحة جهله. فهو لم يعتد إلا على القراءة التراثية، التي تقيم الدلالة على أساس الجملة التي يسهل حفظها وترديدها؛ نتيجة كونها ثقافة المحفوظ والشفهي، لا ثقافة المفهوم والكتابي. طه حسين لم يرد بالشر والمر وما يعاب، المظاهر السلبية للحضارة الغربية، وإنما أراد ما ينتج عنها - بالضرورة - من نتائج سلبية، لا يستطيع أحد الانفكاك منها، عندما يتعامل معها كحضارة إيجابية في منحاها العام. ليس هذا تأويلا مني لكلام طه حسين، وإنما هذا ما يقوله بكل صراحة ووضوح. يقول في هذا الكتاب نفسه ص 53"فأنا لا أدعو إلى أن ننكر أنفسنا، ولا إلى أن نجحد ماضينا، ولا إلى أن نفنى في الأوروبيين. وكيف يستقيم هذا وأنا أدعو إلى أن نثبت لأوروبا، ونحفظ استقلالنا من عدوانها وطغيانها من أن تأكلنا" . إذن، فدعوته للشراكة مع أوروبا ليست دعوة للذوبان، وإنما للندية، والقوة التي تحفظ استقلال الأنا مقابل الآخر. وهذا النص لا يورده التقليديون؛ لأنه يفسد عليهم الاتهام المبيت الذي يضمنه لهم النص الأول مجتزأ. بل إنه يقول بعد عدة صفحات من النص الأول، موضوع الاتهام، في نص عميق الدلالة ص 47: "والرجل الفطن الذي يؤثر نفسه بالخير خليق بأن ينصح لنفسه في أمر دينه وفي أمر دنياه فيقبل على المعروف والإحسان، وينصرف عن المنكر والسوء ما وسعه ذلك. فإذا دعونا إلى الاتصال بالحياة الأوروبية ومجاراة الأوروبيين في سيرتهم التي انتهت بهم إلى الرقي والتفوق فنحن لا ندعو إلى آثامهم وسيئاتهم، وإنما ندعو إلى خير ما عندهم، وأنفع ما في سيرتهم". بل يقول - أيضا - في الصفحة نفسها: "لا ندعو إلى أن نكون صورا طبق الأصل للأوروبيين كما يقال فذلك شيء لا سبيل إليه ولا يدعو إليه عاقل" . يكاد طه حسين أن يكون تقليديا في هذين النصين، بل فيهما النغمة نفسها التي تتكرر في كثير من خطابات الأصولية الإسلامية المعاصرة. ومع هذا يبقى طه حسين متهما في دينه ووطنيته عند هؤلاء. إن طه حسين، في هذا الكتاب الكبير الذي قدمه كبرنامج للتعليم، يرتد - أحيانا - إلى محافظ شديد المحافظة، خاصة عندما يتحدث عن المدارس والمعاهد الأجنبية في مصر. فهو يشكك فيها؛ من حيث أنها قد تقوم بتحويل ولاء الطلاب عن أوطانهم إلى أوطانها، أو أنها قد تمارس التبشير الديني، الذي قد يؤثر - كما يرى - على عقيدة الطلاب. يقول ص 67"ومن الأولويات التي أن من حقنا ومن الحق علينا أن نتثبت بالملاحظة والتفتيش أن المدارس الأجنبية لا تنحرف بالتلاميذ عن عقيدة آبائهم، ولا تتخذهم موضوعا للدعوة والتبشير" . هذا الارتياب من قبل طه حسين بالمدارس الأجنبية، إلى درجة مطالبته لوزارة المعارف في مصر بالملاحظة والتفتيش عليها، لا شك أنه من أثر الثقافة الأزهرية الأولى، التي تقبع في الأعماق اللاشعورية لطه حسين. ومع أننا مع طه حسين في مطالبته لهذه المدارس بتدريس الدين واللغة والوطنية لطلابها، على نحو الإلزام، إلا أن هذا التشكيك المتكرر فيها على امتداد صفحات الكتاب، يؤكد أن طه حسين لم يتحرر كليا من ثقافته التقليدية الأولى . طه حسين في هذا الكتاب، مهتم إلى حد كبير، بحماية الدين واللغة والولاء الوطني، من أية مؤثرات أجنبية، قد تتسلل من خلال هذه المدارس والمعاهد الأجنبية. وهذا مقبول؛ إلا أن تحوله إلى ما يشبه الهوس، قد يرتد عكسيا، ويصبحا تشكيكا بثقافة الآخر، بل وبكل سلوكيات هذا الآخر. وهذا وإن لم يرد طه حسين، إلا أن سلوكه المتحفظ جدا تجاه المدارس الأجنبية، قد يؤدي إلى هذه النتيجة، التي تغذي أكثر الأفكار راديكالية في العالم العربي . قد لا تصدق الجماهير التي تعودت التلقي الشفهي من رموز التقليد، التي تكيل الاتهامات لطه حسين، أن طه حسين في هذا الكتاب وقف ضد الدعوة إلى جعل التعليم مدنيا خالصا، وأن يكون التعليم الديني متروكا للأسرة. إن طه حسين الذي يقول في هذا الكتاب ص 68"من غير المعقول أن يطلب إلى المصريين الآن أن يقيموا التعليم العام في بلادهم على أساس مدني خالص، وأن يترك تعليم الدين للأسرة". بل قد لا يدركون أن طه حسين في هذا الكتاب ص 188، دعا - وبكل حماس - إلى الاهتمام اللغة العربية وحمايتها من مزاحمة اللغات الأجنبية لها في المرحلة الابتدائية. بل ربما لا يتصورون - نتيجة هيمنة خطاب الأصولية - أن طه حسين، ص 70، افتخر بإسلامية مصر، وأنها حامية التراث الإسلامي، بل حامية لعدة قرون، وأنها لا بد أن تتحمل مسؤوليتها الآن في هذا المضمار . لقد كان هذا الكتاب الذي رفضه الكثيرون، مجرد إسهام تنويري، من قبل طه حسين في النهوض. وهوية طه حسين الدينية والقومية والوطنية ظاهرة في هذا الكتاب إلى درجة التماهي مع خطاب المحافظين، خاصة عندما يتحدث في ص 375عن ضرورة التعاون الثقافي والتعليمي بين الأقطار العربية. ومع كل هذا، ومع أنه في هذا الكتاب، يتسامح مع معارضيه ومتهميه في دينه ووطنيته، إلى درجة أن يصفهم في كثير من مواطن الخلاف معهم ب (المخلصين الأخيار)، إلا أن أحفاد هؤلاء (المخلصين الأخيار !) لا يزالون يحاربون طه حسين، ويحاولون تغييب تراثه، وإبعاده عن قنوات التأثير . لقد حاول طه حسين أن يقدم رؤيته لإصلاح التعليم، وصناعة ثقافة المستقبل. وطبيعي أن يصيب ويخطئ. وطبيعي - أيضا - أن تحاور أفكاره، فتقبل وترد. ولكن، ليس من الطبيعي ولا المبرر أن تتم مواجهة هذا الجهد التنويري، الذي يحاول النهوض بمستوى الوعي العام، بتهم التخوين والتفسيق والتبديع التكفير. إن مواجهة الفكر بهذه التهم، التي يستطيع كل أحد أن يتهم بها أي أحد، لا تدل إلا على الإفلاس المعرفي، الذي يتم الهروب منه بإلقاء التهم التكفيرية على ممارسي الفكر، وممتهني الثقافة .