تعرفت للمرة الأولى عن كثب الى العميد ريمون إده، خريف العام 1972، مع بدء الدورة النيابية العادية فور انتهاء الانتخابات النيابية ومن خلال مزاولتي مهنة الصحافة وتكليفي تغطية النشاطات المجلسية، جلسات واجتماعات لجان ولقاءات سياسية كانت تعقد على الغالب ما بين فندقي السان جورج وفينيسيا. كان العميد واحداً من الأقطاب البارزين الى جانب الرؤساء كميل شمعون وصائب سلام ورشيد كرامي، والسادة كمال جنبلاط وبيار الجميل وجوزف سكاف والرئيس كامل الأسعد الذي أخذ نجمه يسطع كرئيس للمجلس النيابي خلفاً لصهره صبري حماده. ولم يمض وقت على انتخابه عضواً في المجلس النيابي، كواحد من أشد الموالين لرئيس الجمهورية سليمان فرنجية، باعتباره أدى دوراً أساسياً مع الأخير ومع سلام والأسعد في إنشاء تكتل الوسط النيابي المعارض للشهابية التي أوصلت شارل حلو الى سدة الرئاسة، ونجحت في تأمين فوز فرنجية خلفاً له، في وجه منافسه "النيو شهابي" الياس سركيس، حتى بدأ يعد العدة للانتقال الى صفوف المعارضة. وأطلق أول إشارة لمعارضة فرنجية، في العشاء السنوي الذي أقامه حزب الكتلة الوطنية في كازينو لبنان، فأكد في خطاب ألقاه أنه أبو هذا العهد وأن انتقاده له يأتي من موقع الأبوة. في ذلك اليوم، بدأت تتشكل أول نواة غير مباشرة للمعارضة من كرامي وجنبلاط إضافة الى إده، على رغم علاقته الوطيدة بسلام، وبعدها بادر عدد من النواب الجدد بالانضمام الى صفوف المعارضة التي بقيت تحت سقف الندوة البرلمانية. عرف عن العميد أنه ديموقراطي ولا يحبذ العنف ويكره استخدام السلاح بديلاً من لغة الحوار، وكانت له مواقف من المعارك التي حصلت بين الجيش اللبناني والفلسطينيين ربيع العام 1973 عند المداخل المؤدية الى المخيمات الفلسطينية في بيروت وضواحيها. ولم ينفك يوماً عن المطالبة بإلغاء اتفاق القاهرة، الناظم الوحيد للعلاقات اللبنانية - الفلسطينية، وكانت له جولات وصولات على هذا الصعيد، بدأها بحملته العنيفة على الاتفاق الذي وقع بين الحكومة اللبنانية، ومنظمة التحرير الفلسطينية برعاية الرئيس جمال عبدالناصر، معتبراً أن لبنان تنازل بذلك عن سيادته الكاملة، ووافق على قيام دولة فلسطينية ضمن الدولة اللبنانية. والمعلوم أن العميد يكاد يكون النائب الوحيد الذي أعلن في شدة معارضته اتفاق القاهرة، وحمل على الرئيس شارل حلو لموافقته على الاتفاق الذي وقع في عهد حكومة رشيد كرامي، وظل يطالب بعقد جلسات سرية للاطلاع على حرفية الاتفاق الذي لم ينشر. حتى أن العميد كان يغمز على الدوام من قناة الشيخ بيار الجميل لموافقته على الاتفاق، واتهامه له بأنه قبض ثمنه توزيراً لكتائبيين في الحكومات التي شكلت في آخر عهد الرئيس حلو مع أنهما كانا في حلف واحد يجمعهما مع شمعون، وعرابه النائب كاظم الخليل، وقد نجح هذا الحلف في خوض معركة انتخابية شرسة ضد ما سمي باللوائح الشهابية في انتخابات العام 1968. وظل إده يجهر بانتقاداته لاتفاق القاهرة، ولم تفلح صداقته لسلام وجنبلاط في تليين موقفه ومن تحذيراته للسماح في إقامة "فتح لاند" في العرقوب منطقة حاصبيا - مرجعيون وقد حاولا مراراً ترتيب لقاءات منفردة تجمعه برئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات، لكنه أصر على رفضها، معتبراً أن هذه القضية لا تخضع للمساومة. ومع اندلاع الحرب في لبنان في نيسان ابريل 1975، كان إده في طليعة الذين حذروا من إغراق البلد في فتنة ليس في مقدور أحد التكهن بنهايتها. وشعر بعد أيام على اندلاعها أنها ستمتد الى المناطق اللبنانية جميعاً. وذات يوم كان إده يتناول الغداء في السان جورج مع عدد من الأصدقاء، عندما اقترب منه السفير الأميركي الذي كان موجوداً إلى طاولة ثانية في الفندق نفسه، وهمس في أذنه ناصحاً إياه ب"الانسحاب" لأن رقعة المعارك أخذت تتوسع واقتربت من منطقة الفنادق". رفض إده الأخذ بالنصيحة وبقي في الفندق وقتاً أطول، الى أن أجبره الأصدقاء على مغادرته، الى منزله في محلة الصنائع، ليوجه من هناك النداء تلو الآخر لوقف الحرب. وحاول العميد أن يقاوم اندلاع الحرب وراح يتنقل بين المعابر عبر خطوط التماس وصولاً الى بلاد جبيل، ومعه مرافقه الدائم كرم حردان من دون حراسة أو مواكبة، مع أنه تعرض مرات عدة، لمحاولات اغتيال. واللافت أن منزله في بيروت تحول ما يشبه المخفر، يعج بالمواطنين، مسيحيين ومسلمين، يسألونه التدخل لإطلاق أقاربهم الذين خطفوا على المعابر أو في المناطق التي بدأت تشهد فرزاً على أساس طائفي. وكان يستجيب فوراً ويبادر بالتدخل لدى لجان الارتباط اللبنانية - الفلسطينية المشتركة. حتى أنه لم يأبه للتهديدات والإنذارات التي تلقاها مباشرة بالهاتف أو عبر القنوات الديبلوماسية، وبدلاً من أن يستكين بعض الوقت، استجابة للذين يطلبون منه الصمت، أخذ يدلي بمواقف حادة ضد المتحاربين ومن يدعمهم، لا بل كان يضطر الى عقد أكثر من ندوة صحافية في اليوم الواحد لهذه الغاية. وراهن العميد، وهو البرلماني العريق على دور المجلس النيابي من أجل إنقاذ الموقف، وكان يقصد ساحة النجمة للقاء النواب الذين يحاذرون العبور، وحاصره رصاص المتحاربين مرات عدة، وكان أبرزها يوم تنادى النواب الى توقيع عريضة تقضي بتقصير ولاية الرئيس فرنجية، وقد وقعها العدد المطلوب لكنها بقيت حبراً على ورق، واستمر الوضع آخذاً في التدهور. ولم تفلح الوساطات العربية من خلال جامعة الدول العربية ومثيلتها السورية في وقف الاقتتال. وأدرك العميد في وقت مبكر أن الحرب لن تنتهي سريعاً وأحس ربما بمعلومات لديه، بأنها ارتبطت كلياً بالوضع في المنطقة وأن الاحتقان ما هو إلا نتاج مباشر لتأزم الأوضاع في الشرق الأوسط، من دون أن يغيب عن باله وجود مؤامرة لتفريغ لبنان من مسيحييه، مستذكراً على الدوام "نصائح" وزير الخارجية الأميركي هنري كيسنجر بهجوم من العيار الثقيل ومتوقفاً أمام إخفاق هيئة الحوار الوطني في التأسيس لإصلاحات سياسية تنهي النزاع العسكري. ومع أنه متابع دقيق لمجريات الأحداث السياسية ولخفاياها السرية، رفض الاستلام أو الرضوخ لمشيئة القضاء والقدر التي خطط لها لحرق لبنان أو لتفتيته لمصلحة إقامة "وطن بديل" للفلسطينيين. ولا يخفى على أحد كيف تنادى سلام وكرامي وجنبلاط وآخرون لعقد اجتماع في منزل إده بعد دقائق على إعلان تشكيل الحكومة العسكرية برئاسة الزعيم نورالدين الرفاعي، فتم الاتفاق على تشكيل "جبهة الاتحاد الوطني" التي دعت فوراً الى إسقاط الحكم العسكري مستفيداً بذلك من دور القيادات الروحية وبالأخص من علاقته بالبطريرك أنطونيوس بطرس خريش والإمام السيد موسى الصدر. ونجحت "جبهة الاتحاد الوطني" في إسقاط الحكومة العسكرية بعد أيام على ولادتها، في وقت لم تنجح الضغوط العسكرية التي مورست عليه من قصف مباشر على منزله ومحيطه في الصنائع، وكان يتحدث عبر الهاتف وبكل شجاعة مع ضباط من الجيش اللبناني المنقسم على نفسه، مؤكداً لهم أن قذائفهم لن ترهبه، وأنه باق في البيت ولن يغادره. وكان إده أيضاً، بعد إعلان الوثيقة الدستورية التي توصل إليها فرنجية مع القيادة السورية حين زار دمشق والتقى الرئيس حافظ الأسد، يميل الى التشاؤم، معتبراً أن الحرب لن تتوقف ما دامت أغراضها لم تتحقق على رغم كل الوساطات والجهود العربية والمحلية. وما ان اقتربت ولاية فرنجية من نهايتها، حتى أعلن عزمه على خوض الانتخابات الرئاسية الأولى، مدعوماً في الدرجة الأولى من سلام وجنبلاط ونواب في مقدمهم حسين الحسيني وحسن الرفاعي وألبير منصور وآخرون مستقلون، وقد خاضها بالمعنى السياسي للكلمة ضد الياس سركيس بعدما تراجعت "فتح" في اللحظة الأخيرة عن رغبتها في قطع الطريق، بكل الوسائل، على إمكان انعقاد جلسة الانتخاب. وبقي العميد صامداً في منزله في أحلك الظروف الأمنية، يدير من مكتبه اتصالاته لوقف المجازر أو لإطلاق المخطوفين، واضطر الى قضاء أيام عدة، وحيداً لصعوبة الوصول الى منزله من شدة القصف العشوائي المتبادل الذي لم يوفر مقر إقامته. ولم يغادر الصنائع، إلا لزيارة القاهرة، بدعوة شخصية من الرئيس المصري أنور السادات الذي نصحه بالهجرة، وقد تقاطعت النصيحة مع معلومات دقيقة كان تلقاها من وجود خطة منظمة لاغتياله، نجا منها في آخر مرة لحظة نزوله من السيارة لدخول منزله. وبالفعل رضخ إده للنصيحة، وقرر الانتقال الى منفاه القسري في باريس مصطحباً "صديقه الوحيد" خارطة لبنان الواحد الموحد. فهي كانت شغله الشاغل ولا تفارق مكتبه المتنقل ما بين عدد من الفنادق الباريسية، حتى أنه أحجم عن تلبية دعوتين كانتا وجهتا إليه لحضور مؤتمري الحوار الوطني اللذين عقدا في جنيف في تشرين الأول اوكتوبر 1983، وفي لوزان في آذار مارس 1984. وهكذا رحل العميد "العنيد" حافراً في ذاكرة اللبنانيين تاريخاً حافلاً بالأدوار على الساحة الوطنية، مختاراً العزوبية بملء إرادته، ليتفرغ حتى آخر رمق من حياته للدفاع عن وحدة لبنان وسيادته اللتين كان يعبر عنهما بمواقف شجاعة يزودها للصحافة اللبنانية.