سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
"كمال جنبلاط : الرجل والاسطورة" للكاتب الروسي ايغور تيموفييف . انتقال المقاومة الى لبنان وعدوان نيسان واشتباكات أيار وبدء الاستعدادات لخوض الحرب 5 من 10
} تحدث الكاتب الروسي ايغور تيموفييف حلقة الاربعاء 1/11/2000 عن خلفيات توقيع اتفاق القاهرة، وبروز جبهة اليسار اللبناني المتحالفة مع المقاومة الفلسطينية، وأزمة الثقة بين جنبلاط والشهابية وصعود سليمان فرنجية الى سدة رئاسة الجمهورية. وهنا الحلقة الخامسة. بعد شهر واحد من انتخاب سليمان فرنجية رئيساً للجمهورية حصلت في الأردن أحداث كانت لها انعكاسات مأسوية في تاريخ لبنان. فحتى العام 1970 تعززت مواقع المقاومة الفلسطينية وفصائلها المسلحة في الأردن الى درجة فقدت معها الحكومة والجيش هناك السيطرة على الموقف نهائياً في بعض المناطق. ففي شمال المملكة الأردنية الهاشمية حيث القواعد الأساسية للفدائيين انتقلت السلطة في الواقع إلى منظمة التحرير الفلسطينية. ونشأت في البلاد ازدواجية في الحكم. وزادت في توتر الموقف دعوات المنظمات الفلسطينية اليسارية المتطرفة الى إسقاط النظام الملكي. أعلن الملك حسين الأحكام العرفية، مستغلاً ردود فعل المجتمع الدولي والرأي العام السلبية على خطف مقاتلي الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ثلاث طائرات ركاب تابعة لشركات غربية في أيلول سبتمبر 1970 الى مطار صحراوي في الاردن. وفي 17 منه قصفت وحدات من الجيش قواعد الفدائيين العسكرية بالمدفعية. وعلى مدار الأيام التسعة التالية تمكن من أن يلحق هزيمة ماحقة بالفصائل الفلسطينية المسلحة. كان أيلول عام 1970 "أسود" بكل معنى الكلمة. فما إن توقف إطلاق النار في الأردن حتى هز العالم العربي في 28 منه نبأ وفاة الرئيس جمال عبدالناصر. وجرت اضطرابات واسعة طوال أيام الحداد الثلاثة. وفي تلك الأيام الأخيرة من تولي كمال جنبلاط مهمات وزير الداخلية، بذل قصارى جهده ليقلل إلى الحد الأدنى من أضرار القلاقل. وطبقاً للتعليمات، تغاضى رجال الامن عن التظاهرة العفوية التي انطلقت في بيروت الغربية في اليوم الأول من الحداد، إلا أن مشاعر الجماهير في يوم التشييع انفجرت وتعذر تفادي وقوع ضحايا في الاشتباكات مع قوات الامن.... أدرك جنبلاط أن وفاة عبدالناصر المفاجئة ستنتج في العالم العربي حتماً عواقب وخيمة ليس بالإمكان تصور أبعادها في تلك الأيام المفعمة بالأسى والحداد. وفي شأن خلافة الرئيس عبدالناصر، كان جنبلاط يميل إلى أنور السادات الذي تعرف اليه في الخمسينات ثم تعاون معه في إطار حركة التضامن الافروآسيوية. بالطبع كان عارفاً بالاحتكاك الذي طرأ على العلاقات بين عبدالناصر والسادات في الآونة الأخيرة، إلا أنه لم يعتبره خطيراً إلى هذا الحد. وكان واثقاً من أن السادات سيواصل عن جدارة واستحقاق رسالة الرئيس الراحل، وأن مصر ستحتفظ بدور الزعامة في النضال من أجل الاشتراكية ووحدة الصف العربي. انتقال المقاومة الى لبنان في تشرين الأول اكتوبر 1970، بعد انتقال مقر منظمة التحرير الفلسطينية إلى لبنان، توارد عليه آلاف الفلسطينيين الذين نجوا من حمام الدم في الأردن. وكان رئيس الوزراء صائب بك سلام وسائر الزعماء السنة راضين عن الموجة الجديدة من اللاجئين لاعتقادهم أنها ستساعد على تغيير التناسب السكاني في البلاد لمصلحة المسلمين. وإلى ذلك، حاولت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية أن تأخذ عبرة من الفاجعة الأردنية كيلا تتكرر في لبنان الذي غدا بالنسبة اليها القاعدة الرئيسية الوحيدة التي ليس وراءها مجال لانسحاب أفراد المقاومة مهما حدث. وكان لبنان من جوانب عديدة المكان الأفضل، في تصورات زعماء الثورة الفلسطينية، لمواصلة الكفاح المسلح. فهم فيه تحت مظلة اتفاق القاهرة الذي ضمن لهم وجوداً شرعياً ويسّر أمر تسليح المقاتلين وتدريبهم والتحضير لشنّ عمليات فدائية عبر الحدود. ولم يكن اقل أهمية من ذلك أن حركة المقاومة الفلسطينية في لبنان تتمتع بتأييد الأهالي المسلمين، وهو عند أكثر فئات السكان فقراً تأييد إجماعي مطلق يبرر القول بنشوء "تركيبة فلسطينيةلبنانية سنية". ثم أن بيروت بمواصلاتها المتطورة هيأت إمكانات واسعة للعمل الدعاوي والنشاط الديبلوماسي لمنظمة التحرير الفلسطينية، وهو العمل الذي أولاه زعماؤها منذ بداية السبعينات بالغ الأهمية.... وفي فترة قصيرة نسبياً أحرزت حركة المقاومة الفلسطينية نجاحات ملموسة. وأدت الائتلافات بين مختلف المنظمات الفلسطينية والأحزاب اللبنانية المتقاربة عقائدياً والمرتبطة بالمعسكر الاشتراكي أو الأنظمة العربية، إلى تعزيز مواقع المقاومة، اذ أمنت لها البعد الدولي الذي هي بأمس الحاجة إليه.... وهكذا تحولت منظمة التحرير الفلسطينية تدريجاً، وبفضل الروابط المتينة مع حلفائها المحليين، لاعباً متنفذاً جداً على المسرح السياسي اللبناني، ولم يعد بالإمكان حل أية مسألة داخلية من دون أخذ مصالحها في الاعتبار. عقب تولي سليمان فرنجية مهمات الرئاسة أقدم الفلسطينيون على محاولة لاختبار متانة اتفاق القاهرة. واعتبرت قيادات بعض المنظمات الفلسطينية وفاة الرئيس عبدالناصر الذي كان الضامن الخارجي لاتفاق القاهرة، إشارة إلى تشديد الضغوط على السلطات اللبنانية بهدف تضييق نطاق الاتفاقات التي قيّدت نشاط تلك المنظمات في لبنان، وصولا إلى إزالة القيود التي تثقل عليها.... بحلول عام 1972 صار الفلسطينيون في بيروت يشعرون بأنهم بين أهليهم. فالبزة العسكرية باتت عنصراً معتاداً في حياة المدينة. ولم يعد أحد يدهش إذا رأى جماعة من الفدائيين يخترقون بكامل عدتهم باب مطعم صغير أو مقهى وسط العاصمة. وكانت سيطرتهم على الأحياء الإسلامية سبباً في تقويض القاعدة التقليدية لسلطة الزعماء السنة.... وتجلى هذا الاتجاه بخاصة أثناء انتخابات 1972، فللمرة الاولى في الحياة النيابية اللبنانية أفلح ممثلو بعض الأحزاب اليسارية العقائدية في الحصول على مقاعد في مجلس النواب. وفي بيروت فاز نجاح واكيم الناصري اليساري البالغ السادسة والعشرين من العمر وتفوق كثيراً على المرشح الذي زكاه صائب سلام. وفي طرابلس حصل عبدالمجيد الرافعي الامين العام لحزب البعث العربي الاشتراكي الموالي للعراق على العدد اللازم من الأصوات النيابية للتفوق في صراع شديد للغاية على الشخص الذي رشحه رشيد كرامي. وفي بداية السبعينات ترسخت علاقات الثقة المتبادلة بين جنبلاط وزعماء منظمة التحرير الفلسطينية، حتى أن الأوساط الصحافية المحلية وصفته بالقائم بأعمال الثورة الفلسطينية في لبنان. وكان لتأييد جنبلاط أهمية تفوق التقدير بالنسبة إلى منظمة التحرير نفسها. وليس ثمة شك، بالطبع، في أن النفع كان متبادلاً. فالتحالف الاستراتيجي مع الفلسطينيين ساعد على تعزيز نفوذ جنبلاط شخصياً في الاوساط الإسلامية، ورسخ بالكامل دوره كمنظّر وزعيم فكري للقوى الوطنية والتقدمية. في تشرين الثاني نوفمبر 1972 جرى حدثان أثبتا أن شهرة كمال جنبلاط تعدت حدود لبنان. ولعله بات السياسي اللبناني الوحيد الذي يتمتع باعتراف دولي واسع. ففي حفل مهيب أقيم بمركز الاونيسكو في الحادي والعشرين من الشهر المذكور تسلم كمال بك جائزة لينين "للسلام والصداقة بين الشعوب". وهي كانت في ذلك الزمان من الجوائز الدولية المرموقة. وفي الكلمة التي ألقاها الجراح السوفياتي الشهير نيكولاي بلوخين، نائب رئيس لجنة جوائز لينين، ثمّن وقدّر رفيع التقدير مساهمة كمال جنبلاط في تطوير حركة التضامن الأفروآسيوية وخدماته الكبيرة في النضال من أجل السلام والتفاهم بين الشعوب. وبعد أسبوع عقد في بيروت المؤتمر الوطني العربي الذي حضره مندوبون عن مصر والجزائر والمغرب وسورية والعراق ولبنان وأقطار عربية أخرى، إضافة إلى نحو مئة وفد عن الدول الاشتراكية والأحزاب الشيوعية في الدول الغربية والمنظمات الديموقراطية الدولية. واتخذ ممثلو 47 من الأحزاب والمنظمات السياسية العربية ذات التوجهات الاشتراكية والوطنية والديموقراطية قراراً بتأسيس "الجبهة العربية المشاركة في الثورة الفلسطينية"، وانتخبوا كمال جنبلاط بالإجماع أميناً عاماً لها. سلام وحكومة الشباب أسند الرئيس سليمان فرنجية مهمات رئاسة الوزارة من جديد إلى صديقه وحليفه القديم صائب بك سلام. وكانت تلك أول خطوة يقدم عليها في مكافحة الشهابية. وتألفت الحكومة من خارج مجلس النواب فدخلها 12 وزيراً من التكنوقراطيين الشباب الذين أعلنوا فوراً ضرورة "الثورة من فوق" بهدف تفادي الثورة المختمرة تحت. وحاول رئيس الوزراء أن يوحي للجميع أن التمسك بالإصلاحات ليس من صلاحيات النهجيين الشهابيين والمعارضة اليسارية، ويدلل على أن تركيبة الزعماء التقليديين المتحالفين مع البورجوازية الكبيرة التي تسلمت مقاليد الحكم هذه المرة، مهتمة بتقدم البلاد وازدهارها لا أقل من اهتمام الشهابيين. وقوبلت خطط التكنوقراطيين الطموحة، ومعظمهم من خريجي الجامعة الأميركية وأساتذتها، بالتهليل والابتهاج موقتاً. ولم يستهجنها سوى المعجبين بكل ما هو فرنسي إدراكاً منهم لزحف النفعية البرغماتية الأميركية وغزوها لبنان. بدأ "تفكيك الشهابية" في البنى السلطوية بحملة التطهير في المكتب الثاني. فقد أوكلت إلى الكثير من مسؤوليه مهمات ديبلوماسية في الخارج، وفرّ أشرسهم إلى سورية وكانوا يأملون في البقاء هناك إلى حين تبدل الأمور. وكلفت جماعة من ضباط الجيش الموالين للعهد انشاء جهاز مخابرات جديد. ولم يتفاد الجيش نفسه حملة تطهير مماثلة، فقد أعيد اليه العماد اسكندر غانم صديق رئيس الجمهورية. إلا أن حمى التسريح مست الجهاز الإداري بمقدار أكبر، اذ أبعد الشهابيون عن المناصب ذات الاهمية الواحد تلو الآخر، اللهم ما عدا الياس سركيس، فقد ظل في منصب حاكم المصرف المركزي. وملئت الشواغر حالاً بموظفين من حاشية الرئيس الجديد أو من أبناء بلدته زغرتا، الامر الذي أثار تقولات وملامة في المجتمع الذي شم رائحة الفساد المعروفة. واستاءت صالونات بيروت ومحافلها السياسية بخاصة من تعيين طوني فرنجية ابن رئيس الجمهورية وزيراً للبريد والبرق، اذ لم تقف سمعته المتردية حائلاً دون صعوده السريع. وشعر كمال جنبلاط بالمرارة والألم لتعيين صائب سلام رئيساً للوزراء. ولا يقتصر سبب ذلك على حنث الرئيس فرنجية بوعده قبيل الانتخاب في شأن تولي جنبلاط مهمات وزير الداخلية ولا على بقاء كمال بك خارج السلطة عموماً. فالأخطر من ذلك أن صائب سلام افاد من علاقاته الودية مع ياسر عرفات، فسعى رأساً إلى "عزل" كمال جنبلاط وحلفائه اليساريين عن قيادة حركة المقاومة الفلسطينية ودق إسفين بينها وبينه. وعلى رغم وجود عدد من الوزراء المؤهلين والنزيهين والراغبين حقاً في الاصلاح، فقد كان جنبلاط واثقاً من أن مبادراتهم الطموحة ستصطدم حتماً ب"جدار المال" الأصم الذي تحطمت عليه في حينه آمال الرئيس فؤاد شهاب. وسرعان ما صدق ظنه. فقد يئس وزير التربية غسان تويني من إمكان تجاوز مقاومة خصوم المستجدات التي جاء بها، فقدم استقالته بعد مئة يوم من تعيينه. ولم يبق في منصبه أمداً طويلاً خليفته في هذه الوزارة الدكتور نجيب أبو حيدر الأستاذ في كلية الطب بالجامعة الأميركية الذي عجز عن تلبية مطالب المدرسين والطلبة المضربين. أما الوزير هنري أده الذي حل محل ابي حيدر، فقد فُصل لمجرد أنه حاول العودة إلى برنامج غسان تويني. وهذا ما حدث أيضاً لوزير المال الياس سابا الذي قادته إلى الاستقالة جهوده الإصلاحية، شأن محاولات وزير الصحة اميل بيطار لتحديد أسعار ثابتة لأهم الأدوية. وبات واضحاً في بداية عام 1972 أن تجربة صائب سلام غير المألوفة انتهت إلى الفشل، فاضطرت "حكومة الشباب" إلى الاستقالة فور الانتخابات النيابية الجديدة. وعلى نقيض "حكومة الشباب"، ألف صائب سلام وزارة أخرى من سياسيي الجيل الأقدم الذين كان كثيرون منهم على شفير العجز البدني، كما قال كمال صليبي متهكماً. ولم يكن سهلاً الافتراض أن حكومة من هذا النوع يمكن أن تحول دون الكارثة الاقتصادية الداهمة. فالنمو السنوي للدخل القومي الذي بلغ معدله 5،10 في المئة في السنوات 1960-1965 انخفض إلى 5،2 في المئة عام 1970، وتجمد عند نقطة الصفر عام 1974 وأخذ التضخم النقدي في مطلع السبعينات يتصاعد بوتائر رهيبة، حتى بلغ بحلول عام 1973، 23 في المئة وابتلع كل العلاوات المتواضعة التي تمكن الموظفون والاجراء من الحصول عليها تعويضاً لغلاء المعيشة السريع. وقبيل عام 1975 ارتفعت أسعار الرز والخضر والفواكه أكثر من مرتين، وحتى فنجان القهوة التقليدي صار من الكماليات بالنسبة الى الفئات الفقيرة، فبات ثمنه ليرة كاملة بعدما كان 25 قرشاً. وغدا ارتفاع ايجار المساكن مصيبة على الكثير من العائلات التي اضطرت الى ترك منازلها وانتقلت للعيش في أكواخ. وفي "حزام البؤس" الذي يطوق بيروت بأكواخه المبنية من صناديق الخشب المعاكس وألواح الصفيح المضلع، كان يقيم في منتصف السبعينات نحو 40 في المئة من المزارعين السابقين الذين نزحوا من الجنوب ووادي البقاع هرباً من الجوع وبوار المواسم فضلاً عن نيران الإسرائيليين. في النصف الأول من السبعينات اجتاحت لبنان موجة شديدة من الاحتجاجات الاجتماعية. ففي بداية تشرين الثاني 1972 كان اضرب عمال غندور في بيروت، وطالبوا بيوم عمل من ثماني ساعات، ودفع الإجازات المرضية المترتبة على الإصابة أثناء الدوام، وزيادة الأجور بنسبة خمسة في المئة، وإدخال جميع العمال في الضمان الاجتماعي، وإلغاء التفتيش في المداخل والأبواب، ووقف التسريح التعسفي، وكذلك تأمين حق الانتساب إلى نقابة مستخدمي معامل الحلويات. وردت السلطات بالقوة على مطالب العمال. فأطلق فصيل من الأمن الداخلي، استدعته إدارة المعمل في الشيّاح، النار على المضربين العزل. ولقي عامل وعاملة مصرعهما، فيما أصيب خمسة آخرون بعيارات نارية نقلوا على أثرها إلى المستشفى. ولم يكن أقل قسوة التنكيل بمزارعي التبغ في المناطق الجنوبية الذين حاولوا الذود عن حقوقهم في الصراع مع شركة الريجي الحكومية التي تحصر فيها إدارة جميع معامل التبغ في البلاد. واستخدمت السلطات وحدات الجيش في كانون الثاني يناير 1973 لتفريق تجمع أمام مكتب شركة الريجي في النبطية. ولقي شخصان مصرعهما وجرح 15، واعتقل العشرات ونقلوا إلى مراكز التوقيف. تحول العنف فعلاً يومياً معتاداً. ويبدو أن الحكومة التي تمثل مصالح كبار الإقطاعيين والاوليغارشية المالية والتجارية لم تجد في الحوار مع الشعب وسيلة أفضل من الرصاص والفصل والتسريح. وعندما اندلعت الحركة الفلاحية في عكار ضد تعسف الإقطاعيين عام 1974 دفعت السلطات ضدها بآلاف الجنود مزودين المدرعات والدبابات والهليكوبترات كأن المطلوب ليس تهدئة مواطنين بلغ بهم اليأس أبعد حدوده، بل صد جيش معاد غزا لبنان. وكان جنبلاط منذ توليه مهمات وزير الداخلية عام 1969 حاول اقرار برنامج المساعدات الحكومية لفلاحي عكار المنطقة التي تعتبر من أكثر مناطق البلاد تخلفاً. إلا أن هذا البرنامج الذي نص على دفع تعويضات نقدية وبناء المساكن وتطوير البنى التحتية في عكار، وضع كالعادة في أدراج النسيان، ولم تعد إليه الحكومة مجدداً على رغم كل جهود جنبلاط.... تميزت الحركة الاضرابية في لبنان بالمشاركة الفاعلة من الطلبة الذين قامت صلات وثيقة بينهم وبين الحزب التقدمي الاشتراكي وسائر الأحزاب والمنظمات اليسارية. وفي بداية السبعينات كانت على رأس حركة الشبيبة الديموقراطية اللجنة التنفيذية لاتحاد الطلاب اللبنانيين ورئيسها أنور الفطايري عضو الحزب التقدمي الاشتراكي. وكان للجامعة اللبنانية الدور الأول في توحيد الطلبة من أجل تدعيم المطالب الاجتماعية للعمال والمستخدمين. وفي نهاية كانون الثاني 1973، وتلبية لنداء اللجنة التنفيذية لاتحاد الطلاب اللبنانيين، أقام طلبة بيروت تظاهرة تضامن مع إضراب المعلمين. وانتهت التظاهرة باشتباك مع قوات الأمن جرح فيه 25 طالباً و6 من رجال الشرطة. كان جنبلاط في تلك الفترة يعتقد أن جميع عناصر الوضع الثوري توافرت في لبنان عشية عام 1975. ففي حرم الجامعة الأميركية والجامعة اللبنانية كانت شعارات القومية العربية وأفكار التمرد المقتبسة عن باكونين وماركوزه وتشي غيفارا وماركس تلهب المشاعر وتسخّن الأذهان، حتى غدت "الثورة" كلمة السر بالنسبة الى جيل اللبنانيين الشباب.... في ربيع 1973 شهد لبنان أحداثاً غدت تحذيراً رهيباً من الحرب الأهلية الآتية. ففي فجر العاشر من نيسان ابريل قام فريق كوماندوس إسرائيلي من 30 شخصاً بإنزال من جهة البحر في أحد البلاجات الخالية في منطقة الرملة البيضاء ببيروت. وكان ينتظرهم مخبرون محليون في ست سيارات أستؤجرت مسبقاً من وكالة "لينا كار". توجه عدد من النسافين إلى محلة الفاكهاني وفجروا هناك مقر الجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين. ومضت جماعة أخرى في اتجاه شارع فردان حيث تقع قبالة ثكنة لقوات الأمن الداخلي بناية تستأجرها منظمة التحرير الفلسطينية لمسؤوليها القياديين. فأطلق القتلة النار على الحراس واقتحموا البناية صاعدين السلم. في ذلك الصباح استشهدوا في شققهم محمد يوسف النجار رئيس اللجنة السياسية العليا لشؤون اللاجئين في لبنان، وكمال ناصر الممثل الرسمي لمنظمة التحرير الفلسطينية، وكمال عدوان عضو اللجنة المركزية لفتح. ووقع ضحية هذه الجريمة أيضاً زوجة النجار وضابطان من قوى الأمن اللبنانية سارعا إلى مكان الحادث فور سماعهما إطلاق النار. وبعدما نفذ رجال الكوماندوس عمليتهم الخاطفة ببرود أعصاب، استقلوا سياراتهم من جديد. ثم غادروا لبنان بحراً دون عائق. وكان اللبنانيون تعرضوا خلال السنوات الأخيرة لهزات موجعة كثيرة، إلا أنهم اعتبروا ما حدث في 10 نيسان إهانة للكرامة الوطنية. وهذا هو الشعور الطاغي حتى عند الفئات المعارضة للوجود الفلسطيني في لبنان. فقد اتصل رئيس الوزراء صائب سلام حالاً بقيادة منظمة التحرير وحمّل قائد الجيش اللبناني مسوؤلية الحادث، لأنه لم ينفذ أمر الحكومة بإبادة فريق الكوماندوس، ووعد بعزله. وبلغ نبأ المكالمة مسامع رئيس الجمهورية، فاعتبر وعد رئيس الوزراء تطاولاً على صلاحياته السلطوية.... وقال سلام في ما بعد إنه حاول في ذلك اليوم إقناع الرئيس فرنجية بضرورة تنحية العماد اسكندر غانم معللاً رأيه بتعذر تفادي الاشتباكات بين الفلسطينيين والجيش اللبناني إن لم يتم عزل قائده. ورداً على رفض رئيس الجمهورية القاطع سلمه كتاب استقالته. لم يبدر من جنبلاط رد فعل سلبي على إستقالة وزارة صائب سلام التي قبلها رئيس الجمهورية في 13 نيسان 1973. ففي التصريحات التي أدلى بها إلى الصحف آنذاك انتقد بشدة شكاوى رئيس الحكومة من سكوت الجيش وقال إن رئيس الوزراء، وهو وزير الداخلية في الوقت عينه، ملزم قبل كل شيء باستخدام قوى الأمن التي في عهدته، وإن اتهاماته لقائد الجيش ما هي إلا محاولة لإلقاء تبعة أخطائه الشخصية على كاهل الغير. وإلى ذلك، استنكر جنبلاط موقف العماد اسكندر غانم الذي كان صرح أن الدستور لا يجيز لرئيس الوزراء أن يصدر أوامر إلى الجيش، فهو خاضع لرئيس الجمهورية مباشرة. وألقى جنبلاط المسؤولية الكاملة على العهد متهماً إياه بالعجز عن حماية لبنان من التطاولات الخارجية، وعن ضمان أمن فصائل المقاومة الفلسطينية الموجودة في أراضيه.... في 12 نيسان احتشد في ساحة النجمة اكثر من 250 ألف شخص لتشييع الزعماء الفلسطينيين الشهداء. وبمحض المصادفة وصل جنبلاط إلى الساحة في الوقت الذي وصل فيه الشيخ بيار الجميل الذي كان يتصور أن حضوره مراسم التشييع يخفف من توتر الموقف نوعاً ما. تصافح الرجلان ومضيا معاً إلى المسجد وسط عاصفة من تصفيق الجمهور. آنذاك كان جنبلاط ينوي إلقاء كلمة في الجموع أعد لها مسبقاً، لكنه لم يفعل لشدة الزحام. عجلت أحداث 10 نيسان المأسوية عملية الاستقطاب في البلاد. ففي المعسكر المسيحي تعالت أصوات تطالب بوضع حد للوجود الفلسطيني المسلح. وشعرت قيادة منظمة التحرير بالقلق الشديد من احتمال تطور الأحداث بحسب السيناريو الأردني. إلا أن الفلسطينيين في لبنان، خلافاً للأردن، يتمتعون بتأييد الكثير من السكان ولديهم قدرة عسكرية كبيرة، فما كانوا ينوون الرضوخ للتهديد والوعيد. وفي 14 نيسان دمرت انفجارات قوية مستودعات مصفاة الزهراني التابعة لشركة التابلاين قرب صيدا، والحقت الضرر بقسم من أنبوب النفط في منطقة النبطية. ومع أن منظمة التحرير الفلسطينية نفت مسؤوليتها عن هذا العمل الإرهابي وأكدت أنه من فعل الإسرائيليين، شككت مخابرات الجيش اللبناني في هذه الرواية ولمحت إلى أصابع فلسطينية مدّعية أنها عثرت على آثارها في الحادث. وفي 30 نيسان قبض في مطار بيروت على فلسطينيين حاولوا تهريب متفجرات في حقائب بطائرة تتأهب للإقلاع إلى احدى الدول الأوروبية. وفي 1 أيار مايو اعتقلت دوائر الأمن خمسة فلسطينيين مسلحين بتهمة محاولة شن هجوم على السفارة الأميركية. ورداً على ذلك خطف مقاتلو الجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين ثلاثة من أفراد الجيش في منطقة الحرج وأعلنوا أنهم لن يفرجوا عن الرهائن إلا بعد أن تطلق السلطات المعتقلين الفلسطينيين لديها. وتأزم الموقف إلى أقصى حد. فوجّهت السلطات إنذاراً إلى الفلسطينيين تنتهي مدته ظهر الثاني من أيار، وبذلك أكدت استعدادها لاستخدام القوة في حل الخلاف معهم. وفرض الجيش حصاراً على منطقة الطريق الجديدة ومخيمي صبرا وشاتيلا. وصباح 2 أيار التقى جنبلاط رئيس الجمهورية وناشده التحلي بالصبر والتروي، ووعد بإلقاء كل ثقله للإفراج عن الرهائن. ووفى جنبلاط بوعده، إلا أن ذلك لم يخفف من حدة الموقف. ففي الوقت الذي أفرج فيه الفلسطينيون عن الجنود اللبنانيين ونقلوهم إلى منزل جنبلاط، اندلعت معارك ضارية في منطقة المخيمين التي يطوقها الجيش. كانت تلك أول اشتباكات طاحنة على هذا المقدار من الاتساع. وفي 3 أيار 1973 قصف الفلسطينيون المطار الدولي بالصواريخ من معسكر برج البراجنة. فردّ الجيش بقصف المعسكر من الجو. وكالنار في الهشيم اجتاحت البلاد كلها العمليات الحربية التي استخدمت فيها الأسلحة الثقيلة. وشرعت قوات الأمن الداخلي في حملة اعتقالات واسعة للفلسطينيين من خارج المخيمات. وكانت مخاوف زعماء منظمة التحرير الفلسطينية من تكرار "أيلول الأسود"، وتأكدت فجأة على لسان الرئيس سليمان فرنجية. فقد أعلن في جلسة لحكومة أمين الحافظ الجديدة أنه مستعد للتفاوض مع الفلسطينيين لكنه أضاف: "لكننا لن نرضى أن يكون في لبنان جيش احتلال". في بداية أيار وصل إلى لبنان وسطاء عرب هم محمود رياض الأمين العام لجامعة الدول العربية، وعبدالحليم خدام وزير الخارجية السوري، وعبدالخالق السامرائي المبعوث الشخصي للرئيس العراقي. إلا أن المعارك في بيروت اندلعت من جديد مساء السابع من أيار عندما أحيل اتفاق وقف إطلاق النار على مجلس الوزراء لاقراره، فقررت الحكومة اللبنانية إعلان حال الطوارئ في البلاد. طالب جنبلاط فوراً برفع حال الطوارئ التي تخول الجيش اللبناني الإمعان في التضييق على الفلسطينيين. كما طالب باستقالة وزارة أمين الحافظ وتأليف حكومة وطنية قوية تضع حداً لإراقة الدماء، كما دعا إلى عقد قمة عربية عاجلة لبحث الموقف بلبنان. في تلك الأيام كان جنبلاط على اتصال دائم بزعماء المقاومة الفلسطينية والوسطاء العرب. وقابل المفتي والبطريرك الماروني وشيخ عقل الدروز. كما بذل، من جهة أخرى، قصارى جهده لمساعدة الفلسطينيين المحاصرين في المخيمات. وتلبية لطلب عرفات كلف جنبلاط زاهر الخطيب وداود حامد ايصال السلاح والذخيرة إليهم. في صبيحة 18 من أيار نزل الرئيس فرنجية عند الضغوط العربية المكثفة وأمر الجيش بوقف القتال. وفي اليوم عينه وقع في فندق ملكارت بيروت بروتوكول لتسوية العلاقات بين السلطات اللبنانيةوالفلسطينيين على أساس اتفاق القاهرة. وبموجب هذا البروتوكول تعهدت منظمة التحرير الفلسطينية تجميد العمليات الفدائية على الحدود وعدم استخدام لبنان قاعدة لتنفيذ أعمال إرهابية في الخارج. وتألفت لجنة من ممثلي الجيش والقيادة الموحدة للتشكيلات الفلسطينية المسلحة من اجل متابعة تنفيذ الاتفاقات والحل العاجل للمشكلات الطارئة. وبنتيجة أزمة أيار 1973 طرأ على الوضع في لبنان تبدلان قادا البلاد تدريجاً إلى مزالق الحرب الأهلية. فمن جهة نشأ لدى المسيحيين الذين تأكدوا من عجز العهد عن إرغام الفلسطينيين بالقوة على احترام السيادة اللبنانية، "مركب خوف" من تصاعد قدرات التحالف بين المسلمين والفلسطينيين. ودفعهم مركب الخوف هذا إلى الالتفاف حول السياسيين اليمينيين الأكثر تشدداً، والذين دعوهم إلى حمل السلاح لحماية لبنان المسيحي من دون الاعتماد على الحكومة. ومن جهة أخرى أقنعت أحداث أيار الفلسطينيين الذين لا يمكن أن ينسوا المأساة الأردنية، بأن الضمان الكفيل باستمرارهم في لبنان هي تقوية العلاقات مع حلفائهم السياسيين المحليين ومواصلة تعزيز قدراتهم العسكرية. واعتباراً من صيف 1973 أخذ المسيحيون يتسلحون بكل السبل. فأعلنت في المناطق المارونية حملات جمع التبرعات لاقتناء السلاح. وفي الجبال بوشرت اقامة معسكرات للتدريب والرماية. وراح شبان في بزات عسكرية يتدربون على القتال في إشراف ضباط من الجيش. ومن طريق قنوات الجيش اللبناني تسلمت التشكيلات المسيحية اليمينية عام 1974 أول دفعة كبيرة من بنادق كلاشنيكوف الرشاشة ومدافع الهاون عيار 60 ملم من تشيكوسلوفاكيا. وعندما بدأت العمليات الحربية ربيع 1975 تسلمت مدافع من عيار 120 ملم. ومن أواخر 1973 باشر الفلسطينيون هم أيضاً تسليح حلفائهم المسلمين واليساريين وتدريبهم. تجنب هؤلاء، خلافاً للمسيحيين، الإعلان عن استعداداتهم الحربية، إلا أنهم تمكنوا في أشهر معدودة من تشكيل ميليشيات عدة غير كبيرة، لكنها مؤهلة تماماً للقتال. يصدر قريباً عن "دار النهار" وتنشر "الحياة" فصولاً منه بالتزامن مع صحيفة "النهار". الاثنين: ارهاصات الحرب اللبنانية