زلزال بقوة 6.2 درجات يضرب جنوبي تشيلي    الأخضر يغادر إلى أستراليا السبت استعدادا لتصفيات مونديال 2026    القبض على مواطن في جازان لترويجه (11) كجم "حشيش"    نونو سانتو يفوز بجائزة مدرب شهر أكتوبر بالدوري الإنجليزي    أربع ملايين زائر ل «موسم الرياض» في أقل من شهر    ترقية بدر آل سالم إلى المرتبة الثامنة بأمانة جازان    جمعية الدعوة في العالية تنفذ برنامج العمرة    «سدايا» تفتح باب التسجيل في معسكر هندسة البيانات    الأسهم الاسيوية تتراجع مع تحول التركيز إلى التحفيز الصيني    انطلاق «ملتقى القلب» في الرياض.. والصحة: جودة خدمات المرضى عالية    تقرير أممي يفضح إسرائيل: ما يحدث في غزة حرب إبادة    خطيب المسجد النبوي: الغيبة ذكُر أخاك بما يَشِينه وتَعِيبه بما فيه    فرع هيئة الهلال الأحمر بعسير في زيارة ل"بر أبها"    بطلة عام 2023 تودّع نهائيات رابطة محترفات التنس.. وقمة مرتقبة تجمع سابالينكا بكوكو جوف    نيمار: 3 أخبار كاذبة شاهدتها عني    أمانة الطائف تجهز أكثر من 200 حديقة عامة لاستقبال الزوار في الإجازة    رفع الإيقاف عن 50 مليون متر مربع من أراضي شمال الرياض ومشروع تطوير المربع الجديد    المودة عضواً مراقباً في موتمر COP16 بالرياض    مبارة كرة قدم تفجر أزمة بين هولندا وإسرائيل    خطيب المسجد الحرام: من صفات أولي الألباب الحميدة صلة الأرحام والإحسان إليهم    في أول قرار لترمب.. المرأة الحديدية تقود موظفي البيت الأبيض    دراسة صينية: علاقة بين الارتجاع المريئي وضغط الدم    5 طرق للتخلص من النعاس    «مهاجمون حُراس»    حسم «الصراعات» وعقد «الصفقات»    محافظ محايل يبحث تطوير الخدمات المقدمة للمواطنين    شرعيّة الأرض الفلسطينيّة    لحظات ماتعة    محمد آل صبيح ل«عكاظ»: جمعية الثقافة ذاكرة كبرى للإبداع السعودي    فراشة القص.. وأغاني المواويل الشجية لنبتة مريم    جديّة طرح أم كسب نقاط؟    الموسيقى.. عقيدة الشعر    في شعرية المقدمات الروائية    الهايكو رحلة شعرية في ضيافة كرسي الأدب السعودي    ما سطر في صفحات الكتمان    البنك المركزي السعودي يخفّض معدل اتفاقيات إعادة الشراء وإعادة الشراء المعاكس    حديقة ثلجية    الهلال يهدي النصر نقطة    متى تدخل الرقابة الذكية إلى مساجدنا؟    لصوص الثواني !    مهجورة سهواً.. أم حنين للماضي؟    «التعليم»: تسليم إشعارات إكمال الطلاب الراسبين بالمواد الدراسية قبل إجازة الخريف    فصل الشتاء.. هل يؤثّر على الساعة البيولوجية وجودة النوم؟    منجم الفيتامينات    قوائم مخصصة في WhatsApp لتنظيم المحادثات    أُمّي لا تُشبه إلا نفسها    الحرّات البركانية في المدينة.. معالم جيولوجية ولوحات طبيعية    جودة خدمات ورفاهية    الناس يتحدثون عن الماضي أكثر من المستقبل    من توثيق الذكريات إلى القصص اليومية    الأزرق في حضن نيمار    نائب أمير الشرقية يطلع على جهود اللجنة اللوجستية بغرفة الشرقية    أمير الباحة يستقبل مساعد مدير الجوازات للموارد البشرية و عدد من القيادات    أمير تبوك يبحث الموضوعات المشتركة مع السفير الإندونيسي    التعاطي مع الواقع    ليل عروس الشمال    ولي العهد يستقبل قائد الجيش الباكستاني وفريق عملية زراعة القلب بالروبوت    ولي العهد يستقبل قائد الجيش الباكستاني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"كمال جنبلاط : الرجل والاسطورة" للكاتب الروسي ايغور تيمو فييف . انتخاب الياس سركيس والدخول السوري وسقوط النبعة ومخيم تل الزعتر 9 من 10
نشر في الحياة يوم 13 - 11 - 2000

تحدث الكاتب الروسي ايغور تيموفييف حلقة السبت 11/11/2000 عن تمرد أحمد الخطيب وانقلاب الأحدب وصعود القتال الى الجبل لحسم الحرب، ويتطرق الكاتب الى رفض جنبلاط تسوية "الوثيقة الدستورية" ومطالبته باسقاط الرئيس سليمان فرنجية الامر الذي زاد من ضغوط سورية عليه. وهنا الحلقة التاسعة.
كان ربيع 1976 بالنسبة الى كمال جنبلاط فترة الخيار الأخلاقي البالغ المسؤولية. فالتحدي السافر الذي واجه به دمشق يبدو لبعض المراقبين في يومنا الحاضر مغامرة محكوما عليها بالفشل مسبقا، بل لعلها أقرب إلى الجنون. فهو عندما راهن على الحسم العسكري ألقى في حومة الرهان بكل ما يملك. وهو ربما لم يكن يتصور بالكامل العواقب المحتملة لتصرفاته. بالطبع لا يستطيع أحد، سوى أكثر أنصاره تبصرا وأدقهم قراءة للمستقبل، أن يوضح أسباب انسياقه وراء سيكولوجية الفرصة الأخيرة التي أغوته بالمخاطرة الطائشة من أجل الهدف المنشود....
في اليوم التالي بعد اللقاء الفاشل مع جنبلاط، استدعى الرئيس حافظ الأسد السيد ياسر عرفات وعدداً من أعضاء قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، وكان له معهم لقاء طويل عسير. وعرض على الفلسطينيين تفصيلا جوهر خلافه معه وطالبهم بلهجة شديدة أن يوقفوا فورا التعاون العسكري مع الحركة الوطنية اللبنانية....
بعد العودة من دمشق مارس عرفات نشاطا مكثفا لوقف إطلاق النار. ففي 29 آذار مارس 1976 زار كلا من المفتي الشيخ حسن خالد وشيخ عقل الدروز محمد أبي شقرا وأبلغهما نتائج محادثاته السورية على أمل أن يساعداه في التأثير على جنبلاط ليخفف من تشدده. وفي اليوم ذاته علم أن السوريين قرروا وقف المساعدات العسكرية إلى القوات المشتركة، وكخطوة أولى في هذا الطريق جمدوا إرسال دفعة كبيرة من الأسلحة الثقيلة والذخائر بمبلغ إجمالي مقداره 12 مليون دولار. وتأكيدا لجدية نيات دمشق، استولت وحدات "الصاعقة" على مطار بيروت الدولي في بداية نيسان ابريل، بينما حاصرت السفن الحربية السورية موانئ صور وصيدا وطرابلس.
وسدد الحظر السوري ضربة موجعة إلى جنبلاط الذي كانت فصائله المقاتلة تعاني أصلا شحاً في السلاح والذخيرة. وفي هذا الموقف المعقد وافق زعماء الحركة الوطنية على وقف إطلاق النار لمدة 10 أيام مكنت مجلس النواب من إجراء التعديل الدستوري اللازم لانتخاب رئيس الجمهورية قبل الأوان. ونتيجة للاتفاق بين الطرفين المتحاربين، خفتت المعارك من بداية نيسان وحل هدوء نسبي في مختلف الجبهات. إلا أن جنبلاط المستاء من العقوبات السورية كان متشددا للغاية. ففي الأسبوع الأول من نيسان وجّه أكثر من مرة انتقادا لاذعا الى سورية وتناول مسألة حساسة بالنسبة إلى دمشق هي موضوع مشاركة مصر والأقطار العربية الأخرى في تسوية النزاع اللبناني. فقد ضم جنبلاط صوته إلى أصوات المعترضين على اقتراحات الأمين العام للأمم المتحدة كورت فالدهايم حول بحث الشأن اللبناني في مجلس الأمن الدولي، وأيد بإصرار مبادرة مجلس الأمن القومي المصري لمرابطة قوات عربية رمزية في لبنان، واستحسن فكرة مشاركة الأقطار العربية على نطاق واسع في التوسط لإحلال السلام.
كل ذلك أثار رد فعل عصيبا للغاية لدى دمشق. كان السوريون يخشون أن يحاول اليسار اللبناني في آخر لحظة، إفشال جلسة مجلس النواب فعمدوا إلى عرض عضلات. فحشدوا على حدودهم مع لبنان قوات كبيرة في 8 نيسان 1976، وصباح اليوم التالي عبرت 40 دبابة سورية الحدود في نقطة المصنع الحدودية الجمركية وتوغلت في الأراضي اللبنانية كيلومترات عدة. وردا على تصرف دمشق هذا، بعث جنبلاط برقية إلى الأمين العام للجامعة العربية ناشده فيها اتخاذ التدابير الفورية لوقف احتلال القوات السورية لبنان.
وفي 10 نيسان أقر مجلس النواب بجلسته في قصر العسيلي، وب 67 صوتا، تعديل المادة 73 من الدستور تجيز انتخاب رئيس الجمهورية قبل 6 اشهر من انتهاء ولاية الرئيس الحالي. ورغم تغيّب جنبلاط عن الجلسة ابدت الأحزاب الوطنية والتقدمية في بيانها بتاريخ 11 نيسان 1976 ارتياحها الى هذه البوادر الأولى في اتجاه التسوية السلمية، ومبدية حسن نية في تمديد الهدنة حتى نهاية نيسان. إلا أن ميليشيات "الجبهة اللبنانية" اعتبرت هذه الالتفاتة من جانب الحركة الوطنية محاولة لكسب الوقت نظرا الى الشح في الأسلحة والذخائر، فنشبت معارك ضارية من جديد في اليوم عينه على مختلف خطوط المواجهة.
وعلى رغم محاولات عرفات المتكررة التخفيف من حدة الخلاف بين الرئيس الأسد جنبلاط، استمر التدهور في العلاقات بينهما. فأثناء افتتاح المؤتمر العام الثاني لاتحاد شبيبة الثورة في 12 نيسان هاجم الرئيس الأسد جنبلاط بشدة، من دون أن يذكره بالاسم، واعتبره من الزعماء السياسيين الذين يتاجرون بالمبادئ ويراهنون على الدين من أجل بلوغ أهدافهم المغرضة. ولمّح الى انه لن يسمح بالحسم العسكري للازمة في لبنان بأي حال. تلقفت الأحزاب والمنظمات الموالية لسورية هذا الموضوع فشنت حملة مركّزة على جنبلاط متهمة إياه بالسير بالأمور عمدا إلى تقسيم لبنان. وكان رئيس الوزراء رشيد كرامي أول من أطلق السهم المسموم. ففي 28 آذار، فور اذاعة نبأ فشل مفاوضات دمشق، أدلى كرامي بتصريح صحافي مستفيض وسّع فيه الفكرة السورية في شأن التقسيم الذي زعموا ان جنبلاط يخطط له بهدف تكريس سلطته في قسم من أراضي البلاد. وفي أثر كرامي انخرطت في الحملة الصاخبة للتشهير بجنبلاط منظمة حزب البعث العربي الاشتراكي في لبنان و"الصاعقة" وجماعات مثل "اتحاد قوى الشعب العامل" التي كانت انبثقت من الحركة الوطنية وشكلت "جبهة الاحزاب التقدمية والقومية" الموالية لسورية.
وعلى رغم أن خطاب الرئيس الأسد الذي لقي صدى واسعاً لدى الرأي العام اللبناني ترك أثره في سمعة جنبلاط، إلا أن جنبلاط تلقى الضربة بشجاعة ثم ما لبث ان انتقل إلى الهجوم المضاد حالما توافرت له الفرصة. وعندما بدأ اقتحام الكتائب لمواقع الحركة الوطنية في ضهور الشوير في 14 نيسان أدلى جنبلاط بتصريح أكد فيه أن القوى الوطنية لم تبادر الآن ولا سابقا إلى إراقة الدماء وأن مشاركتها في الحرب اقتصرت دوما على الدفاع عن النفس....
وحتى منتصف نيسان صار جنبلاط يدرك بوضوح أن موقف دمشق من الحركة الوطنية اللبنانية تبدل مئة في المئة وأن من أبرز خصائص نهج القيادة السورية الجديدة دق إسفين بين الحركة والفلسطينيين، مما أدى إلى إحراج قيادة منظمة التحرير....
في 14 نيسان 1976 عرض عرفات على جنبلاط مشروع تسوية وضعه بالاشتراك مع صائب سلام وكان ينوي أن يطرحه على بساط البحث مع السوريين أثناء المحادثات المقرر إجراؤها في اليوم التالي. ونص المشروع على إيجاد حل وسط في شأن الوجود العسكري السوري بلبنان في مقابل موافقة القيادة السورية على إلغاء "الوثيقة الدستورية" وإدراج ممثلي أطراف النزاع ضمن اللجنة العسكرية العليا التي تستأنف أعمالها.
وفي 15 نيسان دعي قادة منظمة التحرير، وفي مقدمهم عرفات، إلى دمشق وأمضوا هناك ليلة مسهدة بحثوا فيها مع الرئيس الأسد وفريقه السياسي في شروط اتفاق يؤمن تطبيق المخطط السوري للتسوية في لبنان. إلا أن السوريين رفضوا اقتراحات عرفات. وبعد محادثات استغرقت ست ساعات فرضوا عليهم مشروعهم لاتفاق من سبعة بنود لم يرد فيه أي تلميح إلى حل وسط مع القوى اليسارية. وإلى التعهد بالمساعدة على بقاء الهدنة حتى انتخاب رئيس الجمهورية الجديد في أقل تقدير. اضطر الفلسطينيون إلى الموافقة على استئناف عمل اللجنة العسكرية العليا في تركيبتها السابقة وعدم قبول أية محاولات ل"تعريب" النزاع أو "تدويله"، وهي المحاولات التي تعني مرابطة قوات دولية أو عربية في لبنان.
وقابل جنبلاط مخطط التسوية السوري الجديد بمنتهى البرود. ففي بيان أقر بمبادرة منه بعد مناقشة اتفاق دمشق في جلسة مشتركة للحركة الوطنية والمقاومة الفلسطينية لم يحظ بالتأييد من بين البنود السبعة سوى البند الأول الذي ينص على وقف إطلاق النار وبقاء الهدنة طوال الفترة اللازمة لانتخاب رئيس الجمهورية الجديد واستقالة سليمان فرنجية. أما البنود الستة الأخرى فلم يرد ذكرها في البيان إطلاقاً....
واشتد التنافس على الرئاسة وبخاصة بين الياس سركيس وريمون اده. ففي 4 نيسان أعلن سلام فور عودته إلى بيروت بعد المحادثات مع الرئيس الأسد، أن السوريين مصرون على ترشيح سركيس كونه منذ بداية الأحداث وقف بعيدا عن النزاع ولم يفضّل أحد الأطراف المتحاربين على سواه. إلا أن لجنبلاط رأيه بهذا الخصوص، فهو يعتقد أن خيار السوريين نابع من رغبتهم في تنصيب رئيس لا يتمتع بأي تأييد يذكر لا في البلاد ولا في الجيش الذي كان دوما السند الرئيسي للشهابيين. وفي هذه الظروف يجد رئيس الدولة المنتخب نفسه مضطرا للجوء إلى حماية دمشق، مما يحوّل لبنان عمليا إلى محمية سورية....
قبل يوم من الانتخاب لم يعد أحد يشك في فوز سركيس بنسبة عالية. وإدراكا منهم أن عدم اكتمال النصاب هو الوسيلة الوحيدة للحيلولة دون تطور الأحداث بحسب السيناريو السوري، علق أنصار اده آمالهم على مقاطعة الانتخاب. وصباح السابع من أيار مايو عقد جنبلاط في مقر الحزب التقدمي الاشتراكي جلسة طارئة لجبهة النضال الوطني وطرح موضوع التغيب عن الجلسة. إلا أن الآراء اختلفت حتى بين أعضاء كتلته، وأعلن بهيج تقي الدين الذي يتمتع بأرفع منزلة بين النواب، أنه بصفته لاحزبياً لا يعتبر نفسه ملزماً بالتقيد بالقرارات الحزبية، ولذا سيشارك في الانتخاب بل وسيصوت لمصلحة الياس سركيس. وقبيل المساء، في الجلسة الموسعة للحركة الوطنية، أيد زعماء الأحزاب مبادرة جنبلاط وناشدوا النواب مقاطعة الانتخاب. واتخذت قرارا مماثلا كتلتا سلام اده وكذلك عدد من النواب المؤازرين والمستقلين. وكانت آمال أنصار العميد اده في نجاح الخطة التي وضعوها ترتبط الى درجة كبيرة بتأييد عرفات وبعض زعماء فتح الذين وعدوا ببذل قصارى جهودهم لإحباط الانتخاب.
إلا أن دمشق استدعت عرفات بصورة عاجلة قبيل التصويت. وبلهجة شديدة كلفته أن يتخذ كل التدابير لتأمين النصاب وسير الانتخاب. وفور عودته إلى بيروت توجه عرفات إلى منزل سلام وأبلغه الى أن الموقف تبدل فجأة وأنه مضطر أن ينفّذ تعليمات السوريين المتشددة. وكانت تلك هي الكارثة بعينها....
وعلى رغم غياب نحو ثلث النواب، انتخب سركيس رئيسا للجمهورية في 8 أيار بأكثرية 66 صوتا من أصل 69. وعندما كانت أجراس كسروان تقرع فرحا وصفارات البواخر تطلق صفيرا مستديما والرصاص يلعلع عشوائيا في الهواء، أطلق من بيروت الغربية رصاص ليس مثل ذلك الرصاص. فقد قام مقاتلو "المرابطون" والحزب التقدمي الاشتراكي بمحاولة لتطويق فندق "كارلتون" الذي غدا مقراً لسركيس خلال فترة الانتخاب، إلا أن فصائل "الصاعقة" وجيش التحرير الفلسطيني وصلت في الوقت اللازم وصدت المحاولة. وعلى اثر ذلك نشبت معارك ضارية بين الطرفين تكبدا خلالها خسائر جسيمة. وفي المساء وصف زعماء الأحزاب في الجلسة الطارئة للحركة الوطنية انتخاب رئيس الجمهورية ب"التزوير المفضوح للإرادة اللبنانية"، وأعلنوا رفضهم الاعتراف بنتائجه.
وتشجعت ميليشيات "الجبهة اللبنانية" بالنصر السياسي فاستأنفت القتال في اليوم التالي واستولت على نقاط سكنية عدة كانت تحت سيطرة "القوات المشتركة". وردا على ذلك انتقلت الحركة الوطنية و"جيش لبنان العربي" والفلسطينيون إلى الهجوم المضاد في كسروان والمتن الشمالي. وبدأ من جديد تبادل القصف المدفعي المدمر بين بيروت الشرقية والغربية. وعلى اثر ذلك اجتاحت المعارك الطاحنة كل أرجاء لبنان في أيام معدودة....
بعد انتخاب سركيس أخذت العلاقات الفلسطينية - السورية تتدهور بسرعة كبيرة. ففي 9 أيار استدعى رئيس الدائرة السياسية لمنظمة التحرير فاروق القدومي السفراء ورؤساء الممثليات الديبلوماسية العرب وأعلن لهم عن قرار منظمة فتح في دخول المعارك إلى جانب الحركة الوطنية ضد ميليشيات "الجبهة اللبنانية" في جبل لبنان....
في 12 أيار 1976 أعلنت المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية و"جيش لبنان العربي" تشكيل قيادة مشتركة تولت مهمات تنسيق العمليات الحربية ومهمات ضد الميليشيات المسيحية في جميع الجبهات. وبعد أيام أكّد أبو أياد تصميم الفلسطينيين على القتال في صف اليسار في خطاب ألقاه أمام طلبة الجامعة الأميركية في بيروت وقال كلمته الشهيرة: "الطريق إلى فلسطين تمر عبر جونيه"....
الدخول السوري
في الأول من حزيران يونيو 1976 اجتاحت القوات السورية لبنان من ثلاثة اتجاهات: على طريق دمشق - بيروت من جهة وادي البقاع زحفت ببطء وحدات الفرقة المدرعة المختارة لاحتياط القيادة العامة المكلفة تسديد ضربة مضادة من الأعماق في حال قيام الإسرائيليين باختراق على مرتفعات الجولان. وعبرت الحدود اللبنانية في منطقة عكار وحدات معززة بالدبابات وقوامها 2000 عنصر توجهوا جنوبا مهددين مواقع الفلسطينيين والحركة الوطنية في ضواحي طرابلس. ووصل رتل ثالث معزز بالمدرعات أيضا إلى جزين وواصل تحركه في الاتجاه الغربي وصولا إلى صيدا ذات الموقع الاستراتيجي المهم.
وجاء التدخل العسكري السوري ليشكل خطرا على مخططات جنبلاط. فعلى رغم المعارك الدموية التي شهدها النصف الثاني من أيار ودفعت البلاد، على ما يبدو، نحو الفوضى والاضطراب، لاحت في الأفق السياسي آنذاك بوادر فرصة فعلية للحوار بين الأطراف المتحاربين. وبفضل اتصالات الرئيس سركيس المكثفة مع جميع القوى السياسية والديبلوماسية غير الرسمية للفلسطينيين الذين لهم صلات قديمة وثابتة مع الأوساط المسيحية، بدا كأن الأمور تحركت من نقطة الجمود. وكانت الإشارات التي بعث بها بعض زعماء "الجبهة اللبنانية" تدل على استعدادهم للتباحث مع كمال جنبلاط في شأن سبل تجاوز الأزمة بمراعاة متطلبات البرنامج المرحلي. إلا أن بداية الحوار فشلت وأحبطت اثر حادثين مفاجئين ومتتابعين في الأسبوع الرابع من أيار. ففي 25 منه جرت محاولة لاغتيال العميد اده، وبعد يومين قتلت ليندا الأطرش شقيقة كمال جنبلاط في منزلها بشارع سامي الصلح في بيروت الشرقية. وعلى اثر ذلك اتخذ القتال في جميع الجبهات نطاقا وضراوة لا مثيل لهما. وبدا كأن الخيط الواهي الذي امتد بشق النفس بين الطرفين المتحاربين قد انقطع. وما لبث ان قبض على قتلة ليندا الاطرش في اليوم التالي، وأدلى بيار الجميل بتصريح أكد فيه نية الكتائب والوطنيين الأحرار معاودة الاتصالات، فور التحقيق في الحادث، من اجل مدّ الجسور مع جنبلاط....
في تلك اللحظات كان كمال جنبلاط واثقا حقا من أن الحوار الذي بدأ سيستمر، رغم التدخل العسكري السوري، وسيسفر في القريب العاجل عن اتفاق سياسي يستجيب شروطه. ومنذ البداية دعت الحركة الوطنية والمقاومة الفلسطينية إلى صد الجيش السوري بكل السبل الممكنة بما فيها الإضراب العام، وناشدتا الأقطار العربية والرأي العام العالمي أن تساعد لبنان وتدعمه. وفي 2 حزيران 1976 اتخذ قرار بتشكيل القيادة المشتركة لقوات الحركة الوطنية والمقاومة الفلسطينية و"جيش لبنان العربي".
إلا أن مبررات التفاؤل كانت تتلاشى يوما بعد يوم. ففي غضون الأسبوع الأول من حزيران واصل السوريون زيادة عديد قوات التدخل، وسرعان ما بلغت 12 ألف عسكري. وفي 6 حزيران نشبت في البقاع الغربي أولى الاشتباكات الخطيرة بين السوريين والفصائل الفلسطينية والحركة الوطنية المرابطة هناك. وفي نفس اليوم شن مقاتلو فتح في بيروت بمبادرة من أبو أياد، عملية استغرقت ست ساعات استهدفت نزع سلاح المنظمات والجماعات الفلسطينية الموالية لسورية. وكانت هذه، بحسب المعلومات المتوافرة، تستعد لضرب مواقع الأحزاب اليسارية وحلفائها الفلسطينيين بهدف إيجاد ذريعة لهجوم الجيش السوري على بيروت. وخلال العملية دمّرت مكاتب "الصاعقة" وجيش التحرير الفلسطيني ومنظمة حزب البعث واتحاد قوى الشعب العامل....
وفي 7 حزيران تحركت القوات السورية صوب بيروت وصيدا. إلا أن الرتل الزاحف على طريق دمشق - بيروت واجه مقاومة عنيدة من القوات المشتركة في بحمدون. أما الرتل الأخير الذي تحرك من جزين، فقد بلغ ضواحي صيدا في المساء. إلا أن كتيبة الدبابات المتقدمة والتي دخلت المدينة للاستطلاع، وقعت في مكمن نصبه الفلسطينيون وجنود "جيش لبنان العربي" فأصيبت دباباتان وتم الإستيلاء على أربع دبابات أخرى وأسر طواقمها، وعرضت في ما بعد على الجمهور بين غنائم الحرب. أمّا بقية الدبابات فقد تمكنت من مغادرة المدينة والالتحاق بالقوات الرئيسية التي اتخذت مواقع لها في الضواحي....
وخلافاً لتوقعات جنبلاط، لم يلق دخول الجيش السوري الأراضي اللبنانية استنكارا من جانب الرأي العام العالمي. فقد كان إيجابيا تماما موقف الولايات المتحدة من التدخل السوري، إذ أعربت الإدارة الأميركية عن أملها بأنه سيكون عاملا لتوطيد الاستقرار في لبنان. وجاء الموقف الفرنسي مماثلا للموقف الاميركي. الا ان موقف الاتحاد السوفياتي كان مفاجأة أليمة بالنسبة إلى كمال جنبلاط. فعلى رغم الإحراج الذي واجهه رئيس الوزراء السوفياتي اليكسي كوسيغين وهو في دمشق في الفترة بين 1 حزيران و4 منه فقد أكد البيان الرسمي عن زيارته عزم الطرفين على "مواصلة الجهود المشتركة لوقف إراقة الدماء واحلال السلام والأمن في لبنان"، ولم يتضمن البيان كلمة واحدة عن اجتياح القوات السورية للأراضي اللبنانية. وردا على أسئلة كمال جنبلاط المستغرِبة نشر السفير السوفياتي في لبنان الكسندر سولداتوف يديه متنهدا ثم كرر القول المكرر في شأن ضرورة العلاقات الودية مع الشقيقة سورية....
وعند أواسط حزيران لم يعد يخامر زعماء "الجبهة اللبنانية" شك في أن توازن القوى تغير كثيرا لمصلحتهم بمجيء الجيش السوري. فزعماء "الجبهة اللبنانية" الذين زادتهم حماية دمشق حماسة لم يعودوا يفكرون بالتسوية السياسية والحلول الوسط، وباتوا، كما تشير كل الدلائل، عازمين على تصفية الحسابات القديمة من خلال الحرب.
في 21 حزيران 1976 وصلت إلى لبنان الكتيبتان السورية والليبية من قوات الأمن العربية، وأعلن الرائد عبدالسلام جلود الذي استأنف مهمة الوساطة أن الرئيس حافظ الأسد وعد بسحب القوات السورية من خلدة وصيدا وطرابلس وصوفر ومنطقة البقاع وعكار وضهر البيدر في غضون أربعة أيام. وأثار انعطاف الأحداث على هذا النحو رد فعل فوريا لدى زعماء "الجبهة اللبنانية" الذين باتوا يخشون جلاء السوريين وتطبيع العلاقات مع الفلسطينيين. وفي اليوم عينه حاصرت الميليشيات المسيحية تساندها وحدات من الجيش اللبناني، مخيمي تل الزعتر وجسر الباشا. وفي فجر 22 حزيران نشبت معارك ضارية على مشارف المخيمين. ورغم الشح في الأغذية ومياه الشرب فقد صمد حماة المخيمين ولم يفكروا في الاستسلام، وتصدوا للميليشيات المسيحية بمقاومة مستميتة. ورغم ذلك تم اجتياح مخيم جسر الباشا في 28 حزيران، فيما ظل تل الزعتر، وفيه أكثر من 30 ألف نسمة، آخر جيب للفلسطينيين في الشطر المسيحي من بيروت.
وبعد محاولات عدة فاشلة لفك الحصار عن تل الزعتر راحت القيادة المشتركة لقوات الحركة الوطنية والمقاومة الفلسطينية و"جيش لبنان العربي" تخطط لتسديد ضربة إلى الأماكن المكتظة بالسكان المسيحيين لتبعد إليها عن المخيم المحاصر جزءا من قوات "الجبهة اللبنانية" وتخفف الضغط عليه. وكان ينبغي العثور على موقع للهجوم بعيد نسبيا عن مواقع القوات السورية....
واقترنت اخفاقات "القوات المشتركة" باشتداد مواقف الزعماء المسيحيين الذين أخذوا يكررون إعتبارا من نهاية حزيران، مطالبهم السابقة في شأن تقليص الوجود الفلسطيني في لبنان من خلال توزيع الفلسطينيين، بنسب معينة، على الأقطار العربية المجاورة. وفور اقتحام مخيم جسر الباشا أدلى الشيخ بشير الجميل بتصريح في هذا المعنى، وبعد أيام كرر الفكرة كميل شمعون....
وخلال شهر تموز يوليو واصل جنبلاط حملته المكثفة من اجل انسحاب القوات السورية من لبنان، حتى باتت مهاجمته النظام السوري في مقالاته وتصريحاته الصحافية تزداد حدة من حين الى آخر، واتخذ بعضها طابع الإهانة الصريحة. وسرعان ما جاءت الخطوة الجوابية من جانب دمشق. ففي 20 تموز ألقى الرئيس الأسد خطاباً مطولاً كشف فيه النقاب عن تفاصيل محادثاته مع جنبلاط أثناء لقائهما في آذار. صور الرئيس الأسد جنبلاط سياسياً متعطشاً إلى السلطة والثأر من الموارنة على زعامتهم طوال قرن ونصف قرن تقريبا في لبنان. وأثارت أقوال الأسد صدى واسعا بين الموارنة، ونزلت على الأوساط المسيحية نزول قطرات الندى على تربة أضناها الجفاف، على حد قول أحد كبار مسؤولي الكتائب.
إلى ذلك استمر الوضع العسكري للقوات المشتركة يتردى من سيئ إلى أسوأ، وتدهور بخاصة بعدما حاول السوريون تطويق مواقعها في منطقة ضهور الشوير.
ولكي يستعيد جنبلاط المبادرة مهما كلف الثمن، حاول اقناع عرفات بضرورة الانتقال إلى الهجوم. وكان ذلك مهما بخاصة من اجل توفير إمكان التحدث من مواقع القوة في المفاوضات مع الجميل، وهي مفاوضات كانت فرصتها واقعية تقريبا بفضل جهود الأب يواكيم مبارك.
إلا أن عرفات كان ينظر إلى الاوضاع من زاوية أخرى. فعلى رغم مرور أكثر من شهر على قرار الجامعة العربية تشكيل قوات الأمن العربية، كان العمل في هذا الاتجاه بطيئا للغاية، ولم تصل الى لبنان حتى ذلك الوقت سوى قوات رمزية عاجزة عن التأثير جذريا في الموقف. ولم تسفر عن نتيجة أيضا مناشدة جنبلاط المتكررة ملوك الدول العربية ورؤساءها من التدخل ووضع حد للاحتلال السوري للبنان....
واعتبر جنبلاط الاتفاق الفلسطيني - السوري الذي وقع في 29 تموز، بعد أسبوع من محادثات صعبة، محاولة لدق إسفين في العلاقات بين منظمة التحرير والحركة الوطنية، وحرمان الأخيرة الدعم العسكري الفلسطيني. ونص البيان المشترك على وقف إطلاق النار وتقيد منظمة التحرير بأحكام اتفاق القاهرة 1969. وتضمن صيغة غامضة جدا في شأن عدم التدخل في الشؤون الداخلية للبنان، وهي صيغة فسرها كلا الطرفين على هواه. إذ أكد الفلسطينيون أن المقصود هو انسحاب الجيش السوري من لبنان، بينما قصد السوريون على وجه التحديد مسألة فك التحالف السياسي والعسكري بين منظمة التحرير وجنبلاط والحركة الوطنية. إلا أن أكثر ما هز زعماء الحركة الوطنية وقادة جبهة الرفض والتصدي الفلسطينيين وتنظيماتها في نص البلاغ هو التقويم الرفيع من منظمة التحرير لموقف سورية حيال نضال الشعب الفلسطيني ومساعدتها لحركة المقاومة في نضالها ضد "العدو الصهيوني"....
أجهض اتفاق 29 تموز الفلسطيني-السوري منذ البداية، وذلك لجملة أسباب أهمها أن الفلسطينيين أصروا على فهمهم الخاص للبند المتعلق بعدم التدخل، وأكدوا بوضوح أنهم لا ينوون مغادرة مواقعهم في عينطورة وبعض مناطق جبل لبنان ما لم يسحب السوريون قواتهم. ثم إن الاتفاق السلمي بين سورية ومنظمة التحرير تعرّض، على نحو مفاجئ بالنسبة الى دمشق، للانتقاد من جانب زعماء "الجبهة اللبنانية" الذين أقلقتهم آفاق التقارب الفلسطيني-السوري. وإلى ذلك لم تتمكن اللجنة الثلاثية اللبنانية-السورية-الفلسطينية التي تألفت لتنفيذ الاتفاق من مباشرة عملها الطبيعي. فالجلسة الأولى التي عقدتها في 30 تموز كادت ان تكون أول وآخر جلسة لها، ما دامت المعارك الطاحنة اندلعت مجددا بعد بضعة أسابيع على كل خطوط المواجهة.
في 5 آب اغسطس سقط حي النبعة الفلسطيني-الشيعي تحت ضربات الميليشيات المسيحية، وفي 12 منه اقتحمت فصائل الكتائب ونمور حزب الوطنيين الأحرار مخيم تل الزعتر. وعلى رغم الاتفاق الذي وقع بين منظمة التحرير و"الجبهة اللبنانية"، بوساطة الدكتور حسن صبري الخولي وممثل الصليب الأحمر ببيروت، في شأن التقيد بجميع الأصول الدولية لدى إخلاء السكان، فقد أخلي 12 ألف شخص فقط من المخيم، فيما وقع أكثر من 1500 ضحايا المجزرة التي دبّرها المقاتلون المسيحيون ونشرت أبرز الصحف العالمية صورها.
الاربعاء: اغتيال كمال جنبلاط.
* صدر عن "دار النهار" وتنشر "الحياة" فصولاً منه بالتزامن مع صحيفة "النهار".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.