خصصت مجلة "ايكونوميست" البريطانية الرصينة احد اغلفتها الاخيرة للهجرة، معلنةً بشكل قاطع أن سكان أوروبا واقتصادهم لا يتجددون إلا بالمهاجرين. ف"الأخيرون الذين غالباً ما يساء إليهم، ضروريون في صورة متزايدة". وهذا لم يكن غير واحد من التعليقات التي استدعاها، ولا يزال، تقرير الأممالمتحدة قبل اشهر قليلة حول شيخوخة السكان الأوروبيين. لكن في هذا الوقت بالذات يطلق وليم هايغ قائد "حزب المحافظين" البريطاني حملة تخويف ضد المهاجرين وطالبي اللجوء، وتستجيب للحملة القطاعات الأشد تخلفاً والأقل تعليماً، فتصوّت لحزبه في الانتخابات المحلية الأخيرة. وقبل أسبوعين كان سيلفيو بيرلوسكوني وائتلافه، قد عزفا على وتر الهجرة في الانتخابات المحلية الايطالية، وحققا انتصاراً مدوياً. صحيح ان موضوع المهاجرين والأجانب لم يكن سبب انتصار اليمين الايطالي. كذلك يبدو الموضوع اياه أضعف بكثير من أن ينتشل المحافظين البريطانيين من التردّي الذي يعانونه. والحال أن نشوة الانتخابات المحلية، ومصدرها توجيه رسالة اعتراض وتحذير لتوني بلير، هي ما لا يجوز المبالغة في اشتقاق نتائج الانتخابات العامة منها. مع هذا يبدو كأن اليمين الأوروبي، على تفاوت اطرافه، يراهن على تحويل هذا الموضوع موضوعاً مركزياً للحياة السياسية الوطنية. ففي ظل طغيان التفتت والجزئية على القضايا المطروحة، يُعوّل على كراهية الأجانب أن تتحول مادة الاصطفاف جمعاً وانقساماً على نطاق الوطن. وربما استند الرهان هذا على افتراض مؤاده اكساب الحياة السياسية "جدية" القضايا بعدما تردت إلى "استعراض تلفزيوني"، على ما يقول كثيرون من نقاد الديموقراطية المباشرة في أقصى اليمين وأقصى اليسار. لكن الدرس الذي علمتنا إياه النمسا، وجزئياً اسبانيا بعد إل ايجيدو، قابل للتلخيص التالي: إذا صح ان العولمة تُطلق الهويات الصغرى، وتُكسبها احياناً صبغة فاشية، فإن هذه العولمة اياها ترسم سقفاً واطئاً جداً لتلك الهويات... أقله في أوروبا الغربية والولايات المتحدة. ذاك ان المجتمعات الأخيرة لا تملك ترف الاستجابة لايديولوجياتها الخام، أو ما دون ايديولوجياتها، اذ انخراطها العميق في الاقتصاد المعولم لا يحتمل مغامرات كهذه. وها هي المانيا اليوم محيّرة بين ما سمته "نيوزويك" الأميركية "الاقتصاد الجديد والسياسة القديمة": فهي تفتقر إلى عشرات آلاف المهندسين والتقنيين الذين يمكن الاتيان بهم من الهند والصين وغيرهما لكي تستطيع المنافسة دولياً، إلا أن الحركات المناهضة للأجانب تقف في وجه توفير الإقامة والعمل الدائمين لهم. وكثيرون يرون اليوم ان الخلاف سوف يُحل، في النهاية، لمصلحة المنفعة العقلانية لبلدان الغرب واقتصاداتها. والمسألة التي تتجاوز المصالح هي ان اية سياسة اخرى لا بد ان تُخلّ باحد مقوّمات المجتمع الليبرالي، الا وهو ابقاء التدخل الحكومي في حدّه الادنى. وينبىء بمثل هذا الخطر شعارٌ كذاك الذي يُطرح في المانيا: "فلننجب اكثر بدل ان نستورد العمالة". فما يعنيه هذا ان سياسات التشنج لا تكتفي بالاخلال بالمصالح الاقتصادية، بل تدعو الدولة الى برمجة حياة المجتمع... وهذا كله لصدّ تحول لم يعد يمكن صدّه. الا ان كسب المعركة هذه هو ما لا ينبغي استسهاله، او افتراض حصوله من دون ذيول مُرّة. وفي الاطار هذا ثمة مسؤوليات على الدول المصدّرة للعمالة، وعلى المهاجرين، يسع الوفاء بها ان يقلل الاكلاف ويقصّر الطريق. والمؤسف ان ضعف الاصوات الافريقية التي تدين ما يحصل في زيمبابوي، ووَهَن ثقافتنا المقارنة بين مجتمع تعددي نطلبه في "الغرب" ودفاع عن مجتمع استبدادي في "الشرق"، وهزال التربية المدنية لدى اعداد كبرى من المهاجرين، كلها لا تخدم الهدف المرجوّ بقدر ما تخدم نقيضه العنصري.