الظاهرة غير مسبوقة، لكنها مفهومة نوعاً ما. فأن تشهد العاصمة اليونانية أثينا 4 مؤتمرات حول الهجرة خلال أسبوع واحد، مسألة قياسية بكل المعايير، لكنها توضح أن قضية الهجرة صارت تشغل الكثير من الجهات الرسمية وغير الرسمية، وأنها لا بد من أن تناقش وتثار بشكل كبير وعلى مستوى واسع. مؤتمرات تراوحت بين الرسمي الحكومي والشعبي الميال الى الثورة والاحتجاج على السياسات الحكومية، ثم الشعبي الميال إلى النشاطات السلمية وممارسة الضغوط على الحكومات لتعديل سياساتها تجاه الهجرة والمهاجرين. أكبر المؤتمرات انعقد في دار الأوبرا اليونانية بعنوان Global Forum on Migration and Developement وضم المئات من الرسميين وممثلي المؤسسات الدولية، وهؤلاء استأثروا بنسبة كبيرة من الاهتمام الإعلامي المحلي والدولي. هذا المؤتمر ربط للمرة الأولى بين الهجرة والتنمية، على الأقل على الصعيد النظري، بحسب قول منظميه والمشاركين فيه. خلال يومين متتاليين ألقيت عشرات المحاضرات ومئات المداخلات والتعليقات من الوفود والمشاركين حول موضوعات الهجرة والتنمية وحقوق المهاجرين والعمال والعلاقات بين دول الشمال ودول الجنوب وتقديم العون للأخيرة كي تستطيع الاحتفاظ بمواطنيها، بخاصة الكفاءات العلمية والمهنية وعدم دفع أصحابها الى الهجرة. الغربيون الذين تحدثت معهم «الحياة» أكدوا أن المؤتمر يعني لهم الكثير خصوصاً لدول جنوب أوروبا كاليونان وإيطاليا وإسبانيا التي تعتبر بوابة أوروبا الجنوبية، وتحولت بعد توقيعها اتفاقية دبلن الثانية إلى مستودعات مهاجرين. فالاتفاقية تعطي الحق لدول الشمال الغنية بإرجاع المهاجرين إلى أول دولة أخذت بصماتهم فيها. أما الوفود الجنوبية فكان تركيزها أكثر على قضايا تنمية البلاد المصدرة للهجرة وإصلاح التعليم وإيجاد فرص للعمل تضمن عيشاً مقبولاً للشباب الذي يجازف بحياته من أجل الجنة الموعودة في دول الشمال، ما قد يساعد مستقبلاً في تخفيف موجات الهجرة بعض المشاركين اعتبروا في حديث مع «الحياة» أن هذه الرؤية من الطرفين تختصر الهجرة في خسارة مزدوجة، فالجنوب يخسر الكفاءات الشابة، والغرب ينفق على إيوائها أو إرجاعها. لكن ثمة رأياً آخر يعتبر أن للهجرة وجهاً آخر جيد لا يصح إهماله، فالجنوب يستفيد من تحويلات أبنائه المالية والشمال يستفيد من خبراتهم وشبابهم وحيويتهم لتوفير معاشات التقاعد والتأمين الصحي لأجيال أوروبا التي تتجه كل يوم باتجاه الهرم العمري والتناقص العددي. إلى جانب الهموم الدولية ظهرت هموم مناطقية في المؤتمر مثل اللغات المحلية والمشاريع التنموية والاقتصادية المشتركة بين دول الشمال والجنوب والدوافع المحلية للهجرة مثل عوامل البيئة والمناخ والكوارث الطبيعية والجفاف. المشاركة العربية في المؤتمر كانت واسعة وشملت معظم الدول العربية، وكان للوفود العربية أكثر من مشاركة، كما كانت لها جلستان على هامش المؤتمر نوقشت خلالهما هموم عربية مثل حضور اللغة العربية في المحافل الدولية والاستفادة من الخبرات العربية المهاجرة من خلال إتاحة المجال لها للعودة والإبداع في أوطانها. المجموعة العربية طرحت كذلك رؤيتها في بيان صادر باسمها دعت فيه إلى تفعيل قرارات المحافل الدولية حول الهجرة، والدعوة إلى ميثاق أخلاقي بين شركاء الهجرة الدوليين، يركز على المسؤولية الجماعية تجاه سياسات الهجرة، صون حقوق المهاجرين والتكامل بين الهجرة والتنمية، وأكد البيان أهمية فئات مثل الشباب والمرأة في مسألة ربط الهجرة بالتنمية، كما أكد ضرورة دعم قطاعات التعليم والبحث العلمي والصحة. وطالبت الرؤية العربية بمواجهة الهجرة بتنمية البلدان المصدرة لها وربط الجاليات العربية المهاجرة بمشروعات تنموية في بلادها الأصلية وتسهيل عودة المهاجرين العرب من خلال إعادة دمجهم في مجتمعاتهم. ولم تغب الرؤى الوطنية التي تتقاطع مع الرؤى المشتركة، فالوفد السوداني طرح قضية الكفاءات العلمية السودانية التي تهاجر الى أوروبا، معتبراً أن هناك أولوية لإعادتها الى السودان لتنقل الخبرات التي اكتسبتها في بلاد المهجر. واعتبر وزير الدولة السوداني لشؤون الهجرة كرار التهامي أن على المنظمات الدولية والدول الأوروبية مساعدة الدول المصدرة للهجرة من خلال مشاريع الشراكة وتسهيل عودة المهاجرين من أبنائها الذين اكتسبوا الخبرات والمعارف الضرورية لنهضة بلادهم. وأشار حسن إبراهيم المهندي مدير المكتب الفني للجنة الدائمة للسكان في قطر إلى التجربة الفريدة لقطر في مجال استيعاب المهاجرين الأجانب، مستشهداً بإحصاءات للأمم المتحدة تظهر أن نسبة الأجانب في قطر تصل إلى 87 في المئة، وهي أعلى نسبة للأجانب داخل أي دولة من دول العالم. أما الوفد الفلسطيني فأكد وجود خصوصيات للهجرة الفلسطينية مقارنة بهجرات سائر الشعوب اذ إنها تتم بشكل قسري يمنع الفلسطيني اللاجئ من العودة الى بلاده للمساعدة في تعميرها وتنميتها. وعرض مدير عام المغتربين في وزارة الخارجية اللبنانية هيثم جمعة برنامجاً تنموياً مشتركاً بين لبنان والأمم المتحدة يتوجه بشكل خاص لمساعدة الأسر اللبنانية على التنمية وتشجيع الإنتاج المحلي بخاصة الأغذية البعيدة عن الكيماويات، وأشار إلى توجه لإشراك المهاجرين في البرنامج المذكور. المؤتمر الثاني كان من تنظيم الشبكة الأوروبية لمكافحة العنصرية(ENAR) وناقش بشكل مركّز أوضاع المهاجرين في الدول الأوروبية المختلفة بمشاركة ضيقة اقتصرت على ممثلي الدول الأوروبية في الشبكة المذكورة. وأشار رئيس الشبكة محمد عبدالعزيز في لقاء مع «الحياة» إلى أن اليسار يمارس ضغوطاً لتوحيد سياسات الهجرة الأوروبية، مشيراً في هذا الصدد إلى أن اليسار الأوروبي ينحاز أحياناً الى اتخاذ إجراءات ضد الهجرة لأسباب انتخابية، وهو ما جعل البرلمان الأوروبي الأخير يميل نحو يمين الوسط الذي اتخذ دائماً سياسات معارضة للهجرة، معتبراً أن اليسار ليست له مواقف ثابتة في هذا المجال بينما لا يستطيع اليمين وقف الهجرة لأسباب عملية واقتصادية لكنه يريد في المقابل مهاجرين بلا حقوق ولا هوية. الاقتصاد له دوره المهم في مؤازرة الهجرة أو معاداتها بحسب عبدالعزيز، اذ إن المواطن الذي يتمتع باقتصاد جيد يميل الى التعامل مع الهجرة بالمبادئ والأخلاق، لكنه في حال الضيق الاقتصادي سيعارض الهجرة وينحي عليها باللوم في مشكلاته اليومية. معاوية أحمد رئيس منتدى المهاجرين في اليونان أشار إلى الأوضاع المزرية التي يعاني منها المهاجرون في اليونان مثل حرمانهم من كثير من الحقوق وإعاقة اندماجهم في المجتمع بسياسات حكومية وبيروقراطية طاغية، مشيراً في النهاية إلى قرارين إيجابيين للحكومة الاشتراكية الجديدة وهما منح الجنسية اليونانية للجيل الثاني من المهاجرين، وتسهيل سفر الأجانب الحاصلين على الوثيقة قبل النهائية للإقامة اليونانية طوال فترة العام بعدما كانت فترة السماح تلك تنحصر بالأعياد الرسمية. وناقش المهرجان الثالث الذي عقدته مجموعة People, s Global Action قضايا مشابهة لتلك التي ناقشها المؤتمران الأولان، بخاصة قضايا تمكين المرأة وقضايا التنمية، وكان الحضور فيه مقتصراً كذلك على المنظمات غير الحكومية، لكن الحضور فيه كان أوسع من مؤتمر مجموعة ENAR . أما المؤتمر الرابع فقد كان سلسلة من الكلمات والتظاهرات والاحتجاجات قام بها مناهضو العولمة مثل منظمة «أوقفوا الحرب» ومنظمات يسارية، وتجمع هؤلاء في كلية الاقتصاد وسط أثينا، حيث ألقي العديد من الخطابات المنددة بالسياسات الحكومية «القمعية» للدول الأوروبية، كما جابت تظاهرات مساندة للأجانب أنحاء عديدة من العاصمة أثينا.