توماس فريدمان، احد المع كتاب "نيويورك تايمز"، واحد اكثر انصار العولمة في آن. سافر في ارجاء المعمورة وقابل اناسا من فلاحي غابات الامازون البرازيلية الى اصحاب المشاريع الجديدة في اندونيسيا، ومن الطلاب الاسلاميين في طهران الى "سحرة" وول ستريت وسيليكون فالي. وخلاصة هذا التجوال المحموم كان كتابه "الليكسوس وشجرة الزيتون - فهم العولمة" فرّار ستراوس جيرو حول تلك المنظومة الجديدة التي تلعب الدور الاكبر في تشكيل عالمنا: العولمة. ففي الايام الماضية كان في وسع الكاتب او المعلق او المراسل ان يُعنى بسوق من الاسواق، او بسياسة بلدية من السياسات، الا ان السوق والسياسة اليوم هما الارض بما تشهده من دمج كوني يطاول التقنية والمال والتجارة والمعلومات، تاركاً تأثيراته على الأجور والفوائد ومستويات المعيشة والثقافة وفرص العمل والحروب، بل انماط الطقس والمناخ ايضاً. وهذا لا يعني، لفريدمان، ان نظام العولمة يفسر كل ما يجري تحت انوفنا، الا انه، وبلا قياس، اكثر الانظمة تأثيراً. الكتاب يبدأ بانفجار أزمة تايلاند المالية في 8 كانون الاول ديسمبر 1997. هذه الازمة التي ما لبثت ان اصبحت آسيوية انعكست انخفاضا في اسعار الذهب والنحاس والالومينيوم، كما انعكست انخفاضا في سعر السلعة الاهم: النفط. روسيا التي لم تكن تنتج شيئا ذا قيمة، كان لا بد ان تتثأثر، وكان التأثر عميقاً. والحال ان انهيار الاقتصاد الروسي ما كان له ان يرتّب هذا الاثر على الاقتصاد الكوني، اذ ان اقتصاد روسيا اصغر من اقتصاد هولندا. لكن، بما ان الاقتصاد كوني اكثر من اي وقت سابق، انتقلت العدوى الى البرازيل. هذا النظام الذي تنعكس نتائجه على مواطني الكوكب جميعهم تقريبا، ولد مع انهيار جدار برلين في 1989 الذي تعدت آثاره حدوده الموضعية، فازاح العوائق من امام حركة الكون، وتراجع الانقسام القديم الى عالم اول وعالمين ثان وثالث، لمصلحة انقسام جديد بين عالم سريع وآخر بطيء. فولادة وانتشار ما لا حصر له من وسائل الاتصال بدءاً بالتليفون الخليوي وانتهاء بالانترنت والكايبل، عملا على "دمقرطة التقنية" التي غدت في المتناول. ويكفي القول ان كمية المعلومات التي بات يمكن تخزينها في اسطوانة واحدة باتت تتزايد، سنويا، منذ 1991 بنسبة 60 في المئة، بينما انخفضت كلفة التخزين من 5 دولارات للميغا بايت الى 5 سنتات. وصار يمكنك لا ان تتلفن الى اي شخص فحسب، بل ان تتلفن من اي مكان تشاء، حتى ان احدى الدعايات لشركة تليفونات محمولة نصّت على ان تليفونها "كبير بما يكفي لتغيير صناعة بكاملها، وصغير بحيث تضعه في جيبك". وهذه مجتمعة امكن تحقيقها بفعل الثورة الرقمية التي سهّلت ايضا، من داخل دمقرطة التقنية، لمئات الملايين في العالم ان يتواصلوا فيتبادلوا المعلومات والاخبار والمعرفة والمال والصور العائلية. وهذا ما يعولم الانتاج بجعلنا جميعا منتجين. فعولمة اليوم ليس مدارها ان البلدان النامية تنقل موادها الخام الى البلدان النامية حيث تُنتج السلع، بل ان جميع البلدان قادرة على الانتاج وانجاز مهمات تجميع التقنيات والمواد الاولية المطلوبة. وذلك ما يفسر انتقال بلد كتايلندا من انتاج الارز الى انتاج الشاحنات والدراجات النارية، لكنه يفسر ايضا القدرة على نقل عدد من الوظائف الاساسية الى بلدان كانت بعيدة ومعزولة. وعن دمقرطة التقنية نشأت دمقرطة التمويل، اي الطريقة التي يتم بها الاستثمار. وهذه عملية كسرت احتكار المصارف التجارية الكبرى، بادئة في اواخر الستينات مع ظهور سوق "الاوراق التجارية". والاوراق المذكورة سندات غدت الشركات تصدرها من اجل رفع رأس المال. ولئن تعاظمت في السبعينات بيوت الاقراض والرهن، الا ان الثورة انفجرت انفجارها الكامل في الثمانينات. ودمقرطة الاستثمار تعززت دوليا مع ما حصل اوائل السبعينات اذ انهار نظام النسب الثابتة للفائدة والقيود الصارمة على تدفق الرساميل عملاً ببريتون وودز بعد الحرب الثانية. فقبل 1970 كان صعبا جدا على مستثمر ما ان يشتري سندات في غير بلده. لكن مع انهيار النظام المذكور، بدأت الدول المتقدمة تدريجاً تدقرط اسواق رساميلها، فاتحة اياها لاي متاجر اجنبي يود ان يلعب. وما لبث ان حذا حذوها بعض الدول النامية، فتوافرت سنداتٌ لا حصر لها من جنسيات لا تُحصى، وغدت اوعية لتحريك كمٍ هائل من الرساميل. وجاءت دمقرطة المعلومات لتحدث تغييرا هائلا في النظر الى العالم. فبفعل صحون الساتلايت والانترنت والتلفزيون يمكننا الآن ان نرى الى ما وراء اي حائط في الكون. واذا كان الامر كله بدأ بالتلفزيون، فالمتوقع ان لا ينتهي عند حد. وهكذا تعجز الحكومات من الصين الى ايران عن ضبط سيولة المعلومات، او عن الحؤول بين الناس وبين مثالات العالم "الآخر" في "الغرب". ولأن في وسعنا جميعاً ان نرى الى نوافذ بعضنا، غدا من الاصعب على الشعوب ان تتقبل انخفاض مستويات معيشتها او انخفاض ما تتمتع به من حرية. وبدورها عززت دمقرطة المعلومات التحويل الذي تتعرض له الاسواق المالية. فالمستثمرون ما عادوا يستطيعون فقط بيع وشراء السندات في اي مكان يريدون، او انجاز هذين البيع والشراء من كومبيوتراتهم الشخصية فحسب، بل غدا الانترنت يقدم لهم مجانا المعلومات المفيدة لدخول اسواق التداول. لقد ضغطت، في موازاة عمليات الدمقرطة، الثاتشرية - الريغانية في الاتجاه نفسه، فانتزعت قوى اساسية من الدولة واعطتها للسوق. لكن كل ذهاب في الاتجاه هذا عنى توسعا في الاقتصاد وانكماشا للسياسة بحيث جعلت خيارات السياسي تتضاءل لتصير اقرب الى التسيير. ولهذا تنكمش الفوارق بين الاحزاب على طريقة بيبسي او كوكا. اما خروج سياسيين راديكاليين على القواعد فلا يفضي الا الى طرد المستثمرين وارتفاع نسب الفائدة وهبوط في البورصة. على ان سلوك هذا الطريق ليس مستقيما ولا دائما. البعض يسلكه لوهلة فقط مصر، الهند، والبعض يسلكه ثم يتراجع ماليزيا، روسيا، والبعض يفكر في مزاوجته مع خصوصية ثقافية او قومية المانيا واليابان وفرنسا، والبعض يرفضه جملة وتفصيلا مستنداً الى ثروة طبيعية ايران...، والبعض فقراء وعاجزون الى الحد الذي يتركون فيه لحكومتهم ردعهم عن سلوكه كوريا الشمالية، السودان، افغانستان. لكنهم جميعا سيضطرون الى ذلك. اما المتذرعون بالخصوصية فيستطيعون فعل هذا الا انهم سيصيرون افقر وابأس شاؤوا ذلك ام ابوه. فدمقرطة التمويل والتقنية والمعلومات لم تؤد فقط الى اطاحة جميع الجدران العازلة لانظمة الخصوصية، بل ولّدت مصدراً جديداً للسلطة هو "القطيع الكهربائي". والقطيع هذا يضم بشرا بلا وجوه يعملون في عالم السندات والبورصات والعملات ويجلسون خلف كومبيوتراتهم، محركين كميات لا تُحسب من الرساميل نحو الاسواق والاقتصادات الواعدة وذات القوانين الاكثر ليبرالية. والقطيع هذا الذي شرع يحل محل الحكومات كمصدر رئيس لرأس المال المتجه الى الشركات كما الى البلدان، يجعل ادانات سياسي كمهاتير محمد للعولمة شيئاً اقرب الى السخرية. لكن اذا كان الجدار الذي يفصل كل شيء عن كل شيء هو رمز الحرب الباردة، فإن الويب الذي يوحّد كل شيء بكل شيء، هو رمز العولمة التي يعرّفها بانها اندماج عالمي بين الاسواق الكونية والامم - الدول والتقنيات من داخل رأسمالية السوق الحرة، وعلى نطاق غير مسبوق من قبل. ولسوء الحظ فان نظام العولمة قد نما وتطور باسرع كثيراً من ادراكنا له. ففي 1990، مثلاً، لم تكن اغلبية الناس الساحقة سمعت بالانترنت. وبعد تسع سنوات فقط غدا الانترنت والتليفونات الخليوية والاي ميل أدوات أساسية في التواصل لا تستطيع اعداد متعاظمة في العالمين المتقدم والمتأخر من العيش بدونها. وكما في الانتقال الى زمن الحرب الباردة حيث انقضى وقت طويل لكي يستوعب الناس نشوء الترسانات النووية وانظمة الردع، فنحن الآن في 1999 لا نعرف عن نظامنا الجديد اكثر مما كان معروفا عن نظام تلك الحرب في 1946. واذا كانت المعاهدة هي الوثيقة التي تعرّف نظام الحرب المذكورة، فان الاتفاق التجاري الديل هو الوثيقة التي تعرّف نظام العولمة. واذا كان قياس الحرب الباردة هو الوزن، وزن البلد ووزن الصواريخ، فان قياس زمن العولمة هو السرعة، سرعة التجارة والسفر والاتصال والابتكار. واذا كان الاقتصاديان المرجعيان لزمن الحرب الباردة كارل ماركس وجون ماينرد كينز اللذان اراد كل منهما بطريقته تدجين الرأسمالية، فان الاقتصاديين المرجعيين لنظام العولمة هما جوزيف شومبيتر وأندي غروف. ثم اذا كان القلق الملازم للحرب الباردة هو الخوف من التصفية الكلية على يد عدو تعرفه جيداً، فان القلق الملازم للعولمة هو الخوف من التغيرات المتسارعة تأتي على يد "عدو" لا تستطيع رؤيته ولا لمسه ولا تحسسه. وهذا ما يخلق الاحساس غير المثير للارتياح بأن حياة المرء يمكن ان تتغير في اية لحظة بفعل قوى اقتصادية وتقنية غفل. ولئن توصل العالم، ابان الحرب الباردة، الى بناء الخط التليفوني الساخن بين البيت الابيض والكرملين، وهو علامة على قسمة ظلت مضبوطة بقوتين عظميين، ففي حقبة العولمة توصلنا الى الانترنت، وهو علامة على اننا كلنا موصولون ببعضنا البعض من دون ان يكون بيننا من يمسك بخطوط اللعبة. واخيراً، اذا كان السؤال المتكرر في عهد الحرب الباردة: "كم حجم الصاروخ؟"، فان السؤال الأشد تكراراً، مع العولمة، "كم سرعة المودم"؟ ولا بول كينيدي فهم هذا النظام ولا صموئيل هانتنغتون: الاول ظن ان اميركا التي رآها تتراجع نسبيا في الثمانينات، ستنحط كما انحطت وسقطت امبراطوريات الاسبان والفرنسيين والبريطانيين. لكنه لم ينتبه الى ان اميركا تهيء نفسها للتكيف مع النظام الجديد، وهي العملية التي يلهث اليوم باقي الكون لانجازها. فهو لم يقدّر انها ستقلّص انفاقها العسكري وتقلّص حكومتها وانفاقها الحكومي، وتوجه قوى متعاظمة نحو السوق الحرة بطريقة تضمن بها موقعها كقوة عظمى. اما هانتنغتون فرأى ان الاميركان، بانتهاء الحرب الباردة، سيقاتلون الهندوس والمسلمين بعدما استسلم السوفيات. لكن صاحب "صراع الحضارات" استبعد احتمال نهوض نظام دولي جديد يمكن ان يؤثر في الحدث على نحو مغاير. ذاك ان القبلية، ولا شيء جديداً سواها، هي ما يمكن ان يلي الحرب الباردة في عرفه. واذا كان فوكوياما عبّر عن الرأي الأصوب في وصف ما هو جديد، اي انتصار الليبرالية ورأسمالية السوق الحرة بوصفها الطريقة الافعل في تنظيم المجتمع، الا ان عنوانه انطوى على تثبيت نهائي ومُرسّخ وجامد للانتصار هذا. لقد حلت العولمة محل القوى والتوازنات التي سادت العالم ابان الحرب الباردة، مع تعديل فعلي للقوى والتوازنات. فالصراع الاساسي لم يعد بين الامم - الدول، كما كان في الماضي، ولا بين "الحضارات" على ما توقع هنتنغتون للمستقبل. بل بين المجتمعات التقليدية على اختلاف انواعها وهي المرموز اليها بشجرة الزيتون وبين الاختراعات والتجديدات التقنية التي قادت وتقود الى العولمة مرموزا اليها بسيارة الليكسوس. ومصدر استيحاء الرمزين زيارة قام بها الكاتب الى معمل ينتج الليكسوس في طوكيو حيث اكتشف كيف ان الروبوت ينفذ العمل الأهم، في مقابل تأمّل في نزاع الشرق الاوسط حيث يجري النزاع على آخر شجرة زيتون في "الأراضي المقدسة". وهذان الرمزان يقتسمان العالم، واحيانا يقتسمان البلد نفسه، بل احيانا الشخص الواحد. فداخل العالم الاسلامي يتصارع المعولمون والاصوليون في الجزائر كما في ايران ومصر. وفي العالم اليهودي يتصارع الطرفان على ما تدل معركة "من هو اليهودي؟" وما اذا كانت اسرائيل دولة علمانية حديثة ومعولمة، ام دولة محكومة باليهودية الارثوذكسية؟ وفي العالم المسيحي نفسه يتواجه المعولمون والاصوليون، فنجدنا امام مساجلة تطول الحزب الجمهوري الاميركي وما اذا كان ينبغي، في انتخاباته المقبلة، ان يركّز على القيم الاخلاقية التقليدية ام على الاقتصاديات الكونية؟ وفي آسيا تنشق القارة ما بين نصير لما يسمى القيم الآسيوية، ونصير لقيم جديدة لن تستطيع الاولى ان تصمد في مواجهتها. وحين تصل الدعاية الشهيرة للبيبسي "تعالَ حياً مع جيل البيبسي" الى الصين، تُترجم على النحو التالي: "البيبسي تبعث أجدادك من القبر". واذا كان سائر العالم يتخوف من غزو كوني خطير تمارسه الثقافة الاميركية، فالخوف نفسه ينتاب الكثيرين في اميركا. فهذه الثقافة الجديدة وإن صُنعت في الولاياتالمتحدة، الا انها في انظار اميركان قدامى ليست ثقافة اصيلة او تقليدية. ولهذا ترى هؤلاء يخوضون معركة "روح" الحزب الجمهوري، طالبين حكومة تفرض ما يرونه قيماً تقليدية على الاميركان جميعاً، تماما كما يريد بعض القادة الاستبداديين في آسيا ان يفرضوا قيمهم التقليدية على جميع سكان بلدانهم. و"شجرة الزيتون" مهمة، فهي تربطنا بجذورنا وتمنحنا دفء علاقاتنا الشخصية والصداقية والاسرية، الا ان المبالغة في اهميتها قد تفضي بنا الى اجتثاث آخرين و"تطهيرهم". اما الليكسوس فيشير الى رغبتنا في التقدم والمستقبل وتحسين الاوضاع، وفي العلوم والتقنيات التي توصلنا الى بلوغها. وهذا الصراع اذا كانت تعابيره جديدة، الا انه نسخة اخرى عن صراع قديم ودائم. لكن اذا كانت الليكسوس اقوى بما لا يقاس من شجرة الزيتون، وفي وسعها ان تجرف ما لا حصر له من اشجار زيتون، الا ان عالمه يعطي كل مجموعة، مهما كانت صغيرة، القوة التي تحفظ بها اشجار زيتونها. وقد ينتصر نازع الزيتون على نازع الليكسوس، كما حصل في الهند حين استأنفت تجاربها النووية، الا ان نازع السيارة ما لبث ان انكفأ، بامواله واستثماراته، عن الهند. على ان النازعين يمكن ان يعملا بطريقة منسجمة، ومن دون انسجامهما يمكن لجذور الشجرة واغصانها ان تتمرد وتخنق الليكسوس. والمجتمع المعولم الصحي هو الذي يستطيع الموازنة بينهما موازنة دائمة. وليس من نموذج لهذه الموازنة على ارضنا، وفي راهننا، افضل من اميركا. ولهذا فمصلحة التقدم والعولمة تستدعي قوتها. فاذا قيل ان الصين او روسيا مرشحتان لمنافستها، فهذا لا يلغي ان على البلدين قطع اشواط اساسية عدة قبل تمكنهما من ذلك. والحال ان اميركا، وعلى عكس ما يقال، تخاف عناصر ضعفهما وتخلفهما، اكثر بكثير مما تخاف عناصر قوتهما وتقدمهما. وقد يقال ان التغييرات التقنية والاستثمارية والمعلوماتية تعني العالم المتقدم، لكن ماذا عن باقي العالم الذي يعيش في القرى من دون ان يستخدم الكومبيوتر وان يسمع بالانترنت؟ صحيح ان العولمة، عند فريدمان، لم تصبح عالمية، علما ان 300 الف مستخدم للانترنت ينضمون اسبوعيا. الا انها صارت عالمية بمعنى ان كل فرد، مباشرة او مداورة، غدا يستشعر ضغوطها اذا ما اراد التكيّف مع كونه وعمله فيه. واذا كان كل واحد من البلدان يضم شطراً غير معولم، بما في ذلك الولاياتالمتحدة التي تعتبر منطقتها الممتدة من واشنطن الى فرجينيا جنوبا منطقة متخلفة، فهذا لا يعني ان هذه البلدان غير معولمة. والسياسة ربما كانت اول ما يتعولم، لأنك حين تذهب الى اقصى قرى الصين وتستمع الى متنافسين في الانتخابات القروية، التي اشرف عليها فريق اميركي، تنتبه الى وحدة المعايير والقياسات والوعود التي وصلت اليهم من الجريدة والراديو وكلام المسافرين. وعدم استجابة رغبات الناس هو تعلّق بالضخامة والمركزية والقرار النهائي الصارم على ما كان حال الاقتصاد السوفياتي. وبانهيار هذا النمط البطىء وانفجار ثورات الدمقرطة، تم نزع الكثير من العوائق التي لا تحول فقط بين الفرد وبين دخوله البيزنس، بل تلك التي تحول دون انتقاله من بيزنس الى آخر من خلال الكومبيوتر والكريديت كارد وخط التليفون والمودم والطابعة الملونة والانترنت والويب سايت والفيدريل اكسبرس الخ. وفي هذه الغضون صير الى تسريع عملية تحويل ناتجٍ ما او خدمةٍ ما من كونهما اختراعا وابداعا الى كونهما سلعة للتداول. هكذا يموت الزمن والمسافة ويتغير مفهوم القيادة فلا يعود اوامر تصدر من الاعلى الى الاسفل، خصوصا وان ذكاء اي منا لن يكون مساويا لذكائنا كلنا. وحين يكون صنع القرار ناتج جهد الفريق المتفاعل، والذي يستند عمله الى معلومات توافرت له، يتبدل نظام الاستخدام وتحديد الكفاءات المطلوبة لمهنة بعينها. بيد ان الحكومات الوطنية تخسر قدرتها على التحكم بمصائر شعوبها وبلدانها. ولكي تبقي الشعوب على ثرائها او تعززه وتزيده، فان عليها ان تلعب بموجب قوانين الاقتصاد الكوني، لا الوطني. ذاك ان الانكماش الآسيوي في 1997 لم يكن الا الرسالة الاولى توجهها الرأسمالية الكونية للاقتصادات الوطنية ومفادها: اما اللعب بموجب هذه القوانين او التعرض للانسحاق. فالرأسمالية قد ترتّب اكلافاً باهظة الا ان بدائلها فاشلة سلفاً. انها اللعبة الوحيدة المتوافرة والطريق الوحيد الموجود: قد تختلف سرعة السائرين عليه، الا ان الوجهة واحدة وحيدة. فاليوم غدا في وسع افقر سكان الكوكب ان يتلصصوا على مستويات الحياة المرفّهة من خلال التلفزيون، وباتت الهجرة غير الشرعية والتي يستحيل وقفها، تطيح فكرة الحدود الوطنية والقومية. فحين تكف الحياة الجيدة عن الاتيان اليهم، فما من شيء يمنعهم من التوجه اليها، بحسب ما تشير هجرة الملايين الكثيرة كل عام. وربما كان من علامات تصدع الحدود والمؤسسات السياسية التي تلازمها، ان حكومة كحكومة اميركا صارت تطلق صواريخها على فرد هو أسامة بن لادن، فمنذ متى كانت الدول تعلن حروباً على فرد؟ ولا يزال في وسع الحكومات ان تبقى خارج العولمة وتؤبّد فقرها، الا انها لن تستطيع تحويل وجهة العولمة، ناهيك عن الحاق الهزيمة بها، لسبب بسيط: فهذه الاخيرة ليست مسوقة بقوة التجارة، وهو ما تملك الحكومات قدرة على تقييده الى هذا الحد او ذاك. انها، في المقابل، مسوقة بالتقنية، وهو شيء لا تستطيع السيطرة عليه مهما ارادت. فحين تُلعَب اللعبة بنجاح، فان العتاد الثقيل للعولمة أجهزة الاتصالات والمواصلات يحتل المرتبة الثانية بعد عتادها الخفيف قوة العمل الجيدة التعلّم، الصدق والنزاهة في العمل، الشفافية والانظمة التشريعية التي يمكنها ان تساعد الرأسمالية الكونية. وهنا يتبدى خطأ تلك المناطق من العالم التي ظن القيّمون عليها ان في وسعهم أن تلعب اللعبة من دون ان تعيد هيكلة عتادها، لا سيما الخفيف منه. مع هذا، فان حكومات كثيرة ستجاهد للبقاء في الخارج في محاولة لعدم دفع الكلفة المتوجبة. فالصين الشعبية، مثلا، قد تحاول غزو تايوان اذا ما استكملت الاخيرة استقلالها واعطته طابع الديمومة، علما بان الكثيرين من قادة بكين يعرفون ان عملا كهذا هو نهاية نموهم الاقتصادي واعدامه. وثمة بلدان غير قليلة قد تختار التمسك بثوابتها السياسية والقومية، كما بثوابتها القِيمية، حتى لو افضى ذلك الى تقهقر اقتصادي بيّن. لكن انتشار الثقافات والمآكل المعولمة ليس بالضرورة تغريباً او ابعاداً عن الوطن، كما رأى الروائي توم وولف والخائفون من الاستلاب والتغريب. فانت الآن لا تستطيع ان تبارح الوطن لأن التاكو بيل والبيبسي والماكدونالد وبعض الالحان الموسيقية تعم اربع ارجاء الارض، من خلال سوق واحدة منسجمة في استهلاكها. فهذه تربط الشعوب بصورتها عن الحداثة وتُطلعها على مصادر فانتازياتها. فالمشكلة، اذن، في الانسجام لا في الانسلاخ. ولأن الوتيرة التي تتقدم بها العولمة على هذا الصعيد بالغة السرعة، فثمة خطر جدي يهدد بامحاء قد يحصل في غضون عقود، ويطول التنوع البيئي والثقافي الذي استدعى انتاجه ملايين السنوات من التطور الانساني والبيولوجي. اما العلاج الذي يقترحه فريدمان فقيام الدول والمجتمعات بتطوير قنوات وسيطة، ثقافية وبيئية، تكون قوية بما يكفي لاحداث التفاعل بين المحلي والوافد المعولَم. فاذا لم يحصل هذا اصيب العالم كله بادقاع ورتابة مضجرين. ومدينة بانكوك التي لم يعد فيها مكان لحديقة عامة، مثَل واضح على هذا: لقد غدت مدينة غنية وبالغة الاكتظاظ لكنها ذات حياة فقيرة. وهي لا تزال تدفع اكلاف عدم قيامها باي تخطيط مركزي، فيما يستشري فيها فساد "رأسمالي" وضيع ناجم عن عدم تطوير حياة ونصاب سياسيين قادرين على الضبط والرقابة. وقد يراهن البعض على قدرة التقنية، كأن تنجح في الحفاظ على مساحات خضراء اكبر من التي يحاصرها التوسع والبناء. بيد ان الابتكارات التقنية لا تكفي وحدها لتحييد الآثار البيئية الناجمة عن التقدم لأن الاخير اسرع نمواً من الاولى. واذا تطلب هذا مضاعفة في جهود المحافظين على البيئة، الا ان ذلك لا يكفي ايضاً. فالامل الذي يبقى هو محاولة ركوب القطيع والسيطرة على حركته، او توجيهها. هكذا يتم تخضير العولمة عن طريق ديناميات جديدة يتناول بعضها دمج الثقافة البيئية في التعليم الجامعي، ويقوم بعضها الآخر على ادراج الاثنين في حوار حميم مع البيزنس، حوار يتوخى اقناع الثاني بان الحفاظ على البيئة هو ضمانة ازدياد الارباح على المدى البعيد. وهو ما شرعت تأخذ به، الآن، شركات متعاظمة. والشيء نفسه ينبغي قوله عن دمقرطة مالية للعولمة تشرف عليها الحكومة لاعانة وتمكين الذين يعجزون عن اللحاق دولا وافرادا، وكذلك دمقرطة سياسية لها تحصّن وظائف الضبط والرقابة، فضلاً عن صدقية التمثيل وتقريريته. وباختصار فحجة فريدمان يمكن تلخيصها على النحو الآتي: العولمة ليست مجرد ظاهرة ولا مجرد تيار عابر. انها نظام كوني حل محل نظام الحرب الباردة. انها اندماج رأس المال والتقنية والمعلومات بما يتعدى الحدود الوطنية، وعلى نحو يخلق سوقاً كونية موحدة، والى حد ما، قرية كونية. فأنت لا تستطيع الآن أن تفهم أخبار الصباح، ولا تعرف اين تستثمر أموالك، ولا تحيط بمعنى مجريات العالم إن لم تستوعب هذا النظام الجديد الذي يؤثّر في السياسات الداخلية والعلاقات الدولية لكل بلد من بلدان المعمورة. وهذا الكون الجديد يقوم، في رأيه، على توزنات ثلاثة تتقاطع في ما بينها ويؤثّر واحدها في الآخر: اولها التوازن التقليدي بين الامم - الدول. فالولاياتالمتحدة، في نظام العولمة، هي القوة الوحيدة المسيطرة فيما الدول الاخرى تابعة لها بشكل او بآخر. وتوازن القوى بين الولاياتالمتحدة وغيرها لا يزال له تأثيره في استقرار النظام هذا، لا بل لا يزال يسعه ان يفسر الكثير من الانباء التي نقرأها على صفحات الصحف الاولى، اتعلق الامر باحتواء العراق في الشرق الاوسط او بتوسع الناتو ضد روسيا في اوروبا الوسطى. والتوازن الثاني بين الامم - الدول والاسواق الكونية. فالاخيرة تضم ملايين المستثمرين الذين ينقّلون الاموال حول العالم بتحريك طفيف لفئران اجهزة الكومبيوتر. وهؤلاء الذين يسمّيهم فريدمان "القطيع الكهربائي" يتجمعون في مراكز مالية كونية كوول ستريت وهونغ كونغ ولندن وفرانكفورت، التي يسميها الكاتب ايضاً "السوبر ماركات". ومواقف هذه القطعان والسوبرماركات واعمالها في غاية التأثير على الامم - الدول اليوم، وصولا الى اسقاط الحكومات. فانت لا تستطيع ان تفهم تماما معنى احداث الصفحات الاولى، اتعلق الامر بسقوط سوهارتو في اندونيسيا او انهيار روسيا من الداخل او السياسة النقدية للولايات المتحدة، ما لم تُدخل السوبرماركات والقطعان في تحليلك. فاذا كان في وسع واشنطن احداث التدمير عن طريق رمي القنابل، فان في وسع السوبرماركات احداث التدمير نفسه عن طريق قيمة الاسهم. واما التوازن الثالث، وهو الاكثر جدةً، فهو بين الافراد والامم - الدول. فلأن العولمة اسقطت الكثير من الجدران التي حدّت من حركة البشر، ولأنها في الوقت نفسه شبكت العالم بعدد من الشبكات، فقد اعطت مزيدا من القوة للافراد كيما يؤثّروا في الاسواق وفي الامم - الدول سواء بسواء، وعلى نحو غير مسبوق في التاريخ. وهكذا لم نعد امام قوة عظمى واحدة، ولا امام سوبرماركات فحسب، بل ايضا حيال افراد ذوي قوة فائقة. وهؤلاء الافراد، بدورهم، في وسعهم ان يؤثروا من دون توسّط الحكومات والشركات والمؤسسات، عامةً كانت ام خاصة. ورغم شمولية الكتاب فان حصة ضئيلة جداً هي التي يعطيها فريدمان للشعوب والبلدان الذين يخرج الاقتصاد الكوني منهم، او يخرجون منه، لا سيما معظم القارة الافريقية الغائبة تماماً عن الكتاب. فمعدل الناتج الفردي هناك، مثلاً، تراجع عما كانه في الستينات، لحظة نهاية الاستعمار. وهذا كافٍ لتسليط بعض الضوء على عيوب الكاتب المتسرّع قليلاً، على رغم تحفظات كثيرة اريد منها الحد من التسرع. لكن يبقى أن فريدمان، وباسلوب صحافي بالغ التشويق، يقرّب صورة العالم المعولم، فيضفي طابعاً درامياً على استعارته: صراع الليكسوس وشجرة الزيتون، او صراع نظام العولمة والقوى القديمة في الثقافة والجغرافيا والتقليد واللحمات الاجتماعية. كذلك فانه يدخل في ثنايا التفاصيل في تناوله ردود الفعل العنيفة التي تنتجها العولمة، من خلال اولئك الذين يعتبرون أنفسهم ضحاياها، ولا يقتصد في تقديم الاقتراحات التي تعمل، في رأيه، على تلطيف العولمة وتأثيراتها. فالعثور على توازن مناسب بين الليكسوس وشجرة الزيتون هو الدراما الكبرى لحقبة العولمة. وهو اذا كان منحازا بوضوح، الا انه يرى في الدراما هذه حتمية ممزوجة بالصحيّة في آن. لقد جمع فريدمان محاسن العولمة وأفخاخها اذا صح القول، في نص بالغ الوضوح والمباشرة، وبأمثلة لا تحصى بحيث ينسى المرء بسهولة انه يقرأ كتابا اقتصاديا. فالتعابير الجديدة التي يصكّها والقصص الكثيرة التي يوردها، والمستقاة من شوارع آسيا كما من مصارف اوروبا، تبسّط المفاهيم من دون ان تكون دائما تبسيطية. اما اسلوبيته التي لا بد ان يتعرف عليها بسرعة وسهولة قراؤه في "نيويورك تايمز"، او من قرأوا كتابه "من بيروت الى القدس"، 1988 والذي نال جائزة بوليتزر، فتجعل كابوسية الموضوع مستساغة وفي متناول السيطرة. * كاتب ومعلّق لبناني.