الأسهم الأوروبية تغلق على تراجع    أمير تبوك: نقلة حضارية تشهدها المنطقة من خلال مشاريع رؤية 2030    الفالح: المستثمرون الأجانب يتوافدون إلى «نيوم»    برئاسة ولي العهد.. مجلس الوزراء يقرّ الميزانية العامة للدولة للعام المالي 2025م    السعودية وروسيا والعراق يناقشون الحفاظ على استقرار سوق البترول    مغادرة الطائرة الإغاثية ال24 إلى بيروت    التعاون والخالدية.. «صراع صدارة»    الملك يتلقى دعوة أمير الكويت لحضور القمة الخليجية    الهلال يتعادل إيجابياً مع السد ويتأهل لثمن نهائي "نخبة آسيا"    في دوري يلو .. تعادل نيوم والباطن سلبياً    خادم الحرمين الشريفين يدعو إلى إقامة صلاة الاستسقاء    «التعليم»: 7 % من الطلاب حققوا أداء عالياً في الاختبارات الوطنية    أربعة آلاف مستفيد من حملة «شريط الأمل»    «فقرة الساحر» تجمع الأصدقاء بينهم أسماء جلال    7 مفاتيح لعافيتك موجودة في فيتامين D.. استغلها    أنشيلوتي: الإصابات تمثل فرصة لنصبح أفضل    الأسبوع المقبل.. أولى فترات الانقلاب الشتوي    «شتاء المدينة».. رحلات ميدانية وتجارب ثقافية    مشاعر فياضة لقاصدي البيت العتيق    الزلفي في مواجهة أبها.. وأحد يلتقي العين.. والبكيرية أمام العربي    مبدعون.. مبتكرون    ملتقى الميزانية.. الدروس المستفادة للمواطن والمسؤول !    هنآ رئيس الأوروغواي الشرقية.. خادم الحرمين الشريفين وولي العهد يعزيان القيادة الكويتية    بايدن: إسرائيل ولبنان وافقتا على اتفاق وقف النار    كيف تتعاملين مع مخاوف طفلك من المدرسة؟    حدث تاريخي للمرة الأولى في المملكة…. جدة تستضيف مزاد الدوري الهندي للكريكيت    قمة مجلس التعاون ال45 بالكويت.. تأكيد لوحدة الصَّف والكلمة    7 آلاف مجزرة إسرائيلية بحق العائلات في غزة    الدفاع المدني: استمرار هطول الأمطار الرعدية على معظم مناطق المملكة    كثفوا توعية المواطن بمميزاته وفرصه    شركة ترفض تعيين موظفين بسبب أبراجهم الفلكية    «هاتف» للتخلص من إدمان مواقع التواصل    حوادث الطائرات    حروب عالمية وأخرى أشد فتكاً    معاطف من حُب    الدكتور عصام خوقير.. العبارة الساخرة والنقد الممتع    جذوة من نار    لا فاز الأهلي أنتشي..!    الرياض الجميلة الصديقة    هؤلاء هم المرجفون    المملكة وتعزيز أمنها البحري    اكتشاف علاج جديد للسمنة    السعودية رائدة فصل التوائم عالمياً    خادم الحرمين الشريفين يدعو إلى إقامة صلاة الاستسقاء الخميس المقبل    مناقشة معوقات مشروع الصرف الصحي وخطر الأودية في صبيا    حملة على الباعة المخالفين بالدمام    «السلمان» يستقبل قائد العمليات المشتركة بدولة الإمارات    أهمية الدور المناط بالمحافظين في نقل الصورة التي يشعر بها المواطن    المؤتمر الدولي للتوائم الملتصقة يناقش تحديات إعادة ترميم الأعضاء وتغطية الجروح    مركز صحي سهل تنومة يُقيم فعالية "الأسبوع الخليجي للسكري"    "سلمان للإغاثة" يوقع مذكرة تفاهم مع مؤسسة الأمير محمد بن فهد للتنمية الإنسانية    جمعية لأجلهم تعقد مؤتمراً صحفياً لتسليط الضوء على فعاليات الملتقى السنوي السادس لأسر الأشخاص ذوي الإعاقة    حقوق المرأة في المملكة تؤكدها الشريعة الإسلامية ويحفظها النظام    استمرار انخفاض درجات الحرارة في 4 مناطق    الكرامة الوطنية.. استراتيجيات الرد على الإساءات    محمد بن راشد الخثلان ورسالته الأخيرة    زاروا المسجد النبوي ووصلوا إلى مكة المكرمة.. ضيوف برنامج خادم الحرمين يشكرون القيادة    نوافذ للحياة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



على هامش مناقشات الموازنة وتطورات وأحداث أخرى . سلام الشرق الأوسط ما بين اقتصاد اسرائيل واجتماعها
نشر في الحياة يوم 16 - 08 - 1998

لدى متابعة بعض اتجاهات الاقتصاد الاسرائيلي وتطوراته، يتبيّن بحق ان توقف العملية السلمية لم يكن عديم النتائج والتأثيرات، وهو ما دلت اليه جزئياً المناقشات الأخيرة التي رافقت اقرار موازنة 1998.
فسياسة بنيامين نتانياهو هددت الوجهة التي كان بعض المتفائلين قد أسموها "تكاملية"، بما فرضته من قيود على انتقال العمالة والسلع بين اسرائيل وأراضي السلطة الفلسطينية. وكان سبق لبعض شركات صناعة النسيج الاسرائيلية أن وجدت في منافستها مع الانتاج المنخفض الكلفة للشرق الأقصى وأميركا اللاتينية، مخرجاً لها في العالم العربي. هكذا نُقل بعض الانتاج المذكور الى الأردن، ما خفض اكلافه بنسبة 50 في المئة، وهي ليست قليلة بحال.
وبعدما شرعت بضعة اسواق عربية تستقبل منتجات زراعية تمخض عنها الاقتصاد الكيبوتزي بعد التوسع في تتجيره، يلوح ان تبادلات من هذا النوع سائرة الى تقلص.
الى ذلك ثمة اليوم مخاوف اسرائيلية، الا انها تبقى مبدئية ونظرية حتى اشعار آخر، من ان يستطيع العنف والتوتر خفض الاقبال الخارجي على الاستثمار. وما يمكن قوله من دون كبير تردد، ان العائدات تراجعت عما كان متوقعاً، اذ الكثير من الشركات الاجنبية كان ليتقدم نحو اسرائيل، ومن ثم الى المنطقة، في ما لو توافرت ظروف سياسية أفضل.
أضرار التوتر... ولكن
أبعد من هذا ان التقرير الاقتصادي لوزارة المال، لعام 1997، سبق له أن لحظ ان "العوامل الخارجية المنشأ، بما فيها الهجمات الارهابية واغلاق الاراضي والوضع السياسي... أثّرت تأثيراً أساسياً على الصادرات الاسرائيلية".
ومن ذلك ان السياحة تراجعت بنسبة 11 في المئة عما كانت عليه في 1996. ومضى التقرير اياه: "إن الاغلاق المُمدّد للأراضي وأثره الكسادي على مداخيل السكان قلّصا، على نحو حاد، التصدير الاسرائيلي الى تلك المناطق". واستشهد بحقيقة ان صادرات الصناعة الخفيفة تراجعت بنسبة 22 في المئة.
هذه وغيرها من المعطيات تدل بشكل قاطع على الضرر الذي يُنزله توقف عملية السلام وتدهور أمن المنطقة بالاقتصاد الاسرائيلي.
الا أن الخطر الفعلي انما يكمن في مكان آخر: فالضرر هذا يبقى، في آخر المطاف، قابلاً للتعويض كما يبدو، وهو لا يطلق، حتى اللحظة، قوى تستطيع حمله والضغط به على الوضع السياسي.
بلغة أخرى فان حركة الاقتصاد الاسرائيلي لم تفتح، ولا يبدو انها ستفتح، أية بوابة يمكن ان تدخل منها الحركة السلمية ممهدةً لاختراق ملحوظ.
ففي معزل عن حجم الأكلاف يمكن القول ان القطاعات المتأذية من السلام ليست القطاعات الأكثر مركزية في الاقتصاد الاسرائيلي، ولا هي الأشد وعداً بتحقيق نسب تطور أرفع.
فما يُعوّل عليه هناك هو التقنيات الرفيعة والضعيفة التأثّر بما يجري على النطاق السياسي. واذا صح أن المناخ السلمي لعب دوره في اغراء الاستثمار، الا أن ما أوصل حجم الأخير الى 3،2 بليون دولار سنوياً انما هو، أساساً، تطور صناعة الكومبيوتر والتقنيات.
وأبعد من ذاك أن الرساميل لم تنخفض اطلاقا بسرعة انخفاض الآمال السياسية او بمقدار ذاك الانخفاض.
وقد يقال ان العودة الى عقلية القلعة المغلقة لا بد أن يؤثّر سلباً، غير ان هذا لا يزال عرضة للاحتواء، لا سيما وأن العنف الارهابي والردود الثأرية بالتالي قد تراجعت فعلاً. فقد ارتفعت، بحسب وزارتي الصناعة والتجارة، الصادرات التقنية لاسرائيل الى 1،13 في المئة عام 1997، بعدما اقتصر ارتفاعها في 1996 على نسبة 2،8 في المئة فقط. وهذا بينما انخفض، في الفترة نفسها، اجمالي التصدير الأكثر تأثراً بأوضاع المنطقة والسلام، بنسبة 5،4 في المئة.
الانجازية الوطنية
والحال أن اسرائيل التقنية، والأقوى من جيرانها العرب بما لا يقاس على هذا الصعيد، قد تجد في تقدمها المذكور ما يقلل اغراءها بالسلم معهم والحاجة اليه.
وهذا ما يبعث حججاً قديمة كالقول "إننا عشنا طويلاً من دون سلام ومن دون علاقات اقتصادية مع العرب، فلماذا لا نمضي اليوم على هذا النحو وقد غدونا أقوياء اقتصادياً والى حد بعيد مضمونين أمنياً؟". والحق أن حججاً كهذه ليست غريبة حتى عن بعض المسالمين الغربيين الاشكناز ممن يريدون من السلام هدوءه واستقراره، بما يتيح لهم الانصراف الى تجديد الصلة بالغرب، لا الاندماج في المنطقة.
فأن يعمل التقدم التقني، اذن، على توسيع انفصال اسرائيل عن الاقتصادات، ومن ثم عن التراكيب المجتمعية والثقافية، العربية، احتمال يدل اليه الواقع التالي: ان 96 في المئة من صادرات الدولة العبرية و93 في المئة من وارداتها، تتم الآن مع بلدان من خارج المنطقة.
وينبغي، هنا، عدم التقليل من اهمية الشعور الانجازي الوطني الذي لا يتماشى في العادة مع ما يتطلبه السلام من "بسيكولوجيا التواضع" لدى المنتصرين. فالتقدم الذي تحقق في التقنيات الرفيعة، بالاستفادة من المرتكزات والخبرات المتوافرة في الصناعة العسكرية، نجح في احداث انتقال نوعي من التبعية للمعونات الأميركية كما عرفناها ابان دولرة الشيكل الاسرائيلي خلال معظم الثمانينات.
وعلى رغم التنميط الذي خضع ويخضع له المهاجرون من الاتحاد السوفياتي السابق، فإن مئات آلافهم غذّوا الشعور بوجود خزّان بشري وخلاصي خارج المنطقة، فكيف وأن هؤلاء حملوا معهم تشكيلة واسعة من الخبرات والمهارات، خصوصاً في المجالات العلمية التي تميز بها تقنيوهم ومُبرمجوهم.
وبدوره حرر الانترنت، وهو ثمرة تطور غير سياسي أو فوق سياسي الا أنه حصراً من خارج المنطقة، الشبيبة الاسرائىلية العارفة بالكومبيوتر من تأثيرات الكابح الأكبر للتكوين الاسرائيلي، اي العزلة الجغرافية عن الأسواق.
هذه التقنيات الرفيعة تمثل اليوم قرابة ثلث مجمل الصادرات الاسرائيلية، وهي نسبة مرشحة للارتفاع.
ويكفي القول، في معرض مباهاة أصحابها، ان البلد الذي صدّر في عام نشوئه ما قيمته 30 مليون دولار معظمها سلع زراعية، صدّر بعد خمسين عاماً ما قيمته 32 بليون دولار، معظمها سلع صناعية وعلمية. وفي هذه الغضون وصل اجمالي الناتج الداخلي للفرد الى 17 الف دولار، اي ما يزيد مثيله في بلدان أوروبية كالبرتغال وأسبانيا.
مُتنفسات سهلة
اما في ما خص نتانياهو، على كل تخبطاته السياسية والاقتصادية، فإن اتهامه بإعاقة هذا القطاع هو آخر ما يمكن توجيهه اليه.
لقد مضت حكومته في اللبرلة والخصخصة الاقتصاديتين، وتخفيف القيود عن الشيكل بما جعله، لدى الاسرائيليين، عملة قابلة للتحويل. وهذا مجتمِعاً عنى، للمرة الأولى، قدرة المواطن الاسرائيلي على استخدام العملات الأجنبية بحرية، وعلى أن تكون له أرصدة بنكية في الخارج، فضلاً عن القدرة على شراء عقارات أجنبية. فإذا صح ان الفردية والأمركة شرعتا تنافسان تقاليد الجماعية والعسكرة، فأغلب الظن أن الاهتمامات التقنية للشبيبة، معطوفة على تحسن الأوضاع الاقتصادية عموماً، كفيلة بتوفير المتنفسات المطلوبة. وحين نضيف أن الحروب غدت مستبعدةً، إن لم نقل مستحيلة، جاز افتراض التردد والبرودة في طلب السلام لدى هذه الأوساط السلمية. غير أن هذا لا يكفي وحده لتفسير العلاقة الراهنة بين الاقتصاد والسياسات السلمية في اسرائيل. فهناك، وجزئياً بسبب تعثر السلام، أزمات حقيقية استدعت من نتانياهو صحف 4 آب/ أغسطس ان يبلغ حكومته بأنه قد يشكل مجلساً من الوزراء وكبار رجال الاعمال والقيادات العمالية لمعالجة مشكلة البطالة. وبدورها توقعت جمعية الصناعيين ان يصل العاطلون عن العمل في العام 1999 الى 240 ألف شخص، اي 10 في المئة من السكان القادرين على العمل. وفيما اقترحت الموازنة الأخيرة حلولاً تجميلية للبطالة، فقد طُرحت بسبب البطالة والركود فكرة الانتخابات المبكرة حلاً سياسياً للأزمة الاقتصادية.
لكن باستثناء حزب العمل الذي يقترح للتغلب على المشكلة التقدم على جبهة السلام، مع ما يعنيه ذلك من وقف تحويل كميات ضخمة من المال الى الاستيطان والمستوطنين ومؤسساتهم، لا يزال ربط جوانب التراجع الاقتصادي بالسلام، وبالسياسة عموماً، ربطاً هزيلاً.
فما يُلاحَظ بسهولة، هنا، أن الربط العمالي لا يزال أكثر فتوراً بكثير من حرارة التجاهل لكل ربط، كما لا تني تدل تعابير كثيرة. ولا نأتي بجديد اذ نشير الى ذاك التنافر الدائم بين المستوى العقلاني الذي ينتمي اليه الاقتصاد والنفع عموماً، والمستوى غير العقلاني للولاءات العصبية والمعتقدية. وفي اسرائيل انما تترجم هذه المعادلة ذاتَها على النحو الآتي: ان البطالة تضرب اليوم المدن الصغيرة والجديدة، أو "مدن التنمية"، في صحراء النقب وفي الجليل حيث يعيش الكثير من اليهود الشرقيين سفارديم ممن يؤيدون ليكود، لا سيما منهم اصحاب الياقات الزرقاء.
والجدير بالذكر أننا كنا شهدنا، في كانون الأول ديسمبر الماضي، بعض أعمال الشغب في أوفاكيم بالنقب، رداً على بلوغ نسبة البطالة هناك 3،14 في المئة، غير ان صوت الاحتجاج اختلط بأصوات المطالبة بالاستيطان تهب من تلك الأنحاء أكثر بكثير من اختلاطه بأية دعوة لم تصدر للسلام.
ولما كان الاسرائيليون المتضررون يقعون خارج الاقتصاد الجديد لأصحاب مشاريع التقنيات الرفيعة وما يرتبط بها من مجمعات تجارية ومكاتب وغير ذلك، بدوا ضحايا القطاعات الأقل تقدماً والأضعف ربحية، أي أن مشكلتهم، بهذا، انتظمت في طابور مشكلة عالمية "أشيع" أن علاقتها واهية جداً بالسياسة، ناهيك عن سياسات الحرب والسلام تحديداً.
فالمطروح، بهذا المعنى، أزمة نمو استدعاها الانتقال من اقتصاد زراعي ومتدني التقنية الى آخر بالغ الحداثة والتعقيد لا تتسع جنّته لقليلي الخبرة والتأهيل. وليست قليلةً تلك التجارب، الأميركية والأوروبية، التي تنم عن توجّه العداء الذي يكنّه المهمّشون الجدد الى الأغراب أو المهاجرين، أو العرب في الحالة الاسرائيلية. فالتحوير والتصعيد يجدان في أوضاع كهذه ظرفاً نموذجياً لهما. وعلى أية حال فقد دلت نتائج استقصاء معهد تامي شتايمنتس لأبحاث السلام في تل ابيب هآرتس في 3/8/1998، الى عادية التعامل الاسرائيلي مع المشكلة الاقتصادية، كما دلت الى وجود ذهنية مجتمع عادي وتام لا يضيف السلام اليه شيئاً: لقد تبين، مثلاً، ان أهم المشاكل التي تشغل الرأي العام 31 في المئة التباطوء الاقتصادي وتصاعد البطالة، فيما حل تزايد التوترات الداخلية بين قطاعات السكان في المرتبة الثانية الملاصقة 30 في المئة.
ولم ينل الجمود في عملية السلام الا 19 في المئة، ثم الجريمة والعنف 13 في المئة. وأخطر من هذا ما دل اليه الاستفتاء هذا من أن عناصر الازعاج في سياسة نتانياهو السلمية أقل من عناصر الاطمئنان المتمثلة في نجاحه بخفض عمليات الارهاب.
في اقتصادها، اذن، تتجه اسرائيل الى تحاشي السلام، واستصغار الجاذب الذي يمكن أن يشكله الجوار العربي على الصعيد هذا. وما من شك في ان الاسرائيليين يضحكون كثيراً اذ يقرأون ويسمعون الكلام الهستيري العربي عن الخوف من الابتلاع الاقتصادي وخطط الهيمنة. لكن الدولة العبرية، في اجتماعها، تقدم لوحةً أبعد وأشد درامية.
وما يمكن افتراضه هو اندماج التعالي الذي يوجده الاقتصاد الجديد بالاحتقان الذي تؤسسه أزمة الاقتصاد القديم: الوجهة الأولى تعيد رسم العرب "متخلفين" مثلهم في ذلك مثل قليلي الخبرة والتأهيل في اسرائيل نفسها، بينما الوجهة الثانية توجه احباطها اليهم بصفتهم العدو الذي يحمّله اليهودي الشرقي كلَ ما فيه من قصورٍ يسعى الى التنصّل منه.
يهود الغرب
بيد أن هذه الوجهات جميعاً يمكن أن تجد حاضنتها الأعرض في التحولات التي تتعرض لها اليهودية العالمية وتعكس نفسها، بالتالي، على النسيج الاسرائيلي الذي شكلته الهجرات أصلاً.
ففي مقالة غاري ويلز في "نيويورك ريفيو أوف بوكس" 13/8/1998، ومن خلال قراءته كتباً ثلاثة تدور حول اليهود، لا سيما الأميركان منهم، يتوقف الكاتب مطولاً عند انعكاس مجاري الحياة اليهودية في الغرب على الدولة العبرية.
وهو يكتشف، بما يدعو الى القلق على العرب والمنطقة قبل القلق على اسرائيل نفسها، أن البلد الأخير سائر الى أن يكون يهودياً فعلياً للمرة الأولى في حياته.
فنسبة اليهود في الولايات المتحدة اليوم بالكاد تصل الى 2 في المئة، بعدما كانوا 4 في المئة أواخر الثلاثينات. واذا ما تواصلت الهجرة اليهودية من الاتحاد السوفياتي السابق، فلن يبقى في السنوات القليلة المقبلة الا عدد طفيف جداً من يهود أوروبا، فإذا استقر الرقم على مليون نسمة في العام ألفين، بتنا أمام أصغر وجود يهودي في تلك القارة منذ أواخر القرون الوسطى.
وبالتركيز على النموذج الأميركي يبدو الاندماج، المتولّد عن النجاح كما عن توسع نطاق التسامح والديموقراطية في الغرب، السببَ الأبرز في التقلص.
فاليهود الأميركان، باستثناء الأرثوذكس المتطرفين منهم، يتزوجون في سن غير مبكرة وينجبون أطفالاً أقل 6،1 طفلاً للأسرة الواحدة من أن يحافظوا على مجرد استمرار العدد الحالي. والى هذا، فالكثير من زيجاتهم معقود مع غير اليهود، بحيث ان المواليد المتضائلين يتضاءل مدى ارتباطهم بعالم أجدادهم وبيئتهم.
هذه الزيجات الخارجية التي لم تكن تتعدى نسبة 9 في المئة قبل 1965، غدت تتراوح الآن بين 53 و58 في المئة، أي أنها باتت تفوق الزيجات الداخلية نفسها. وفي الوقت نفسه شرعت تنهار روابط الجيرة والاجتماع اليهوديين التقليديين، مع ما يرافقهما من اعراف واصطلاحات. فمشاريع التمديُن المتعاظمة في الولايات المتحدة، ومعها الحِراك الاقتصادي والاجتماعي الملازم، بددا ما كان ساكناً وثابتاً ومحصوراً في مواضع جغرافية بعينها. ولما كانت هذه المواضع أماكن لقاء تنجم عنها الزيجات، وأماكن عبادة وتعليم دينيين، فقد انهار هذا كله لمصلحة التوزع والانتقال والتعليم العلماني.
فاليهود المتجذرون في الطبقات الوسطى يشكلون الآن 21 في المئة من طلاب كليات المدارس النخبوية مثلاً. وبين نتائج أخرى لذلك أن التعليم العلماني هذا غدا يتولى "تصريف" المواهب الصاعدة التي كانت لتصب في التعليم الديني والحاخامي.
هكذا أصبح التلفزيون مصدر المعرفة الأول بالتوراة، تماماً كما أصبح بعض النصوص الأدبية والمسرحية أهم مصادر التعريف بالحياة اليهودية وعاداتها.
ويترافق هذا مجتمعاً مع بَرَم معلن تبديه الأجيال الجديدة بأنماط الحياة والمؤسسات القديمة "المضجرة والمتخلفة"، حتى ليقال بكثير من السخرية "ان المدارس العبرية يتم تذكّرها بصفتها المكان الذي لا يصار فيه الى تعلّم العبرية".
وفي المقابل يتمسك الأرثوذكس المتطرفون في أميركا بيهوديتهم، كما يتمسكون بمستويات انجاب مرتفع تتحقق من داخل الاقتران بيهوديات، في زيجات لا تعرف الطلاق الذي تتعرض له الزيجات الخارجية و"الحديثة". لكن هذه البيئة أيضاً تواجه تحديات حيال أبنائها الذين تستحيل "حمايتهم" من تأثيرات السينما والتلفزيون والكومبيوتر وموسيقى الروك والاستهلاك عموماً.
فرز في اليهودية الأرثوذكسية
والتحدي الآخر الذي يواجه الجماعة اياها، عجزها عن تحقيق النجاحات المادية في مجتمع يحض على النجاح والمراكمة والانفاق. فالتطبيق الصارم لتعاليم اليهودية يحول دون ممارسة عدد من المهن، فيما العدد الكبير لأفراد الأسرة يجعل القيام بأودها صعباً، ناهيك عن ان تلبية متطلبات الورع اليهودي عملية مكلفة: فهي تستدعي مدة اطول يقضيها الطالب في الدراسات الدينية، واعباءً اضافية لتأمين أثمان المآكل المحلل تناولها، والتوفير اللازم للقيام برحلة الى اسرائيل. ولهذه الأسباب جميعاً يبقى هؤلاء المؤمنون أفقر من سائر اليهود، ويبقى فقرهم مشرعاً دائماً على التعاظم.
هكذا يصير مما لا بد منه التمييز ضمن هؤلاء المؤمنين بين الناشطين وغير الناشطين. أما الأخيرون فسوف يجدون أنفسهم حيال صعوبات تدعوهم الى التغير، فيتخلون تدريجاً عن يهوديتهم لصالح أميركيتهم. وأما الأولون فيجدون أنفسهم أشد فأشد طرفية وهامشية في المجتمع الأميركي، بحيث لا يبقى أمامهم من مخرج الا الهجرة الى اسرائيل.
وقصارى القول ان اليهودية مهددة للموت في الغرب، بقدر ما هي مرشحة للانتعاش في الدولة العبرية، بحيث تتجاور مع تقنية رفيعة يمكن للاقتران بها ان ينتج ما بعد حداثية من طراز خاص. وفي معزل عن السمات التي قد تستقر عليها هذه التشكيلة في ظل امتناع السلام واستبعاده، تبقى سمةٌ مؤكدة هي التي ينبّهنا اليها الاستخلاص الكالح الذي صاغه عمانوئيل سيفان الحياة في 7/8/1998:
"ان المؤمنين اليهود في اسرائيل حوّلوا ديانتهم اليهودية، خصوصاً في العقدين الأخيرين، الى قوة مناهضة للديموقراطية. انه تطور شنيع يمكن ان يعرّض النسيج الديموقراطي الى اختبارات أخطر". وهذا ما لا يسر قلب أيٍ كان ممن يريدون للمنطقة السلام والتسامح والديموقراطية. أما الذين عطّلوا عقولهم وتركوا قلوبهم تخفق وحدها، فينتابهم فرح عميم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.