هل يمكننا أن نكتفي بصدّ العولمة على ما يقول كلام كثير عندنا، متعجّل غير آبه بعواقبه، أم هل يمكننا أن نُقبل على ذلك المستجد في التاريخ الحديث إقبال المتردد الذي ينتقي بين ما يمكنه أن يأخذ وما عليه أن يهمل؟ بل هل تفسح العولمة، أصلاً، مجالاً لمثل هذا الضرب من البرانية في التعامل معها، إن رفضاً قطعياً أو قبولاً انتهازياً ببعض الأوجه دون سواها؟ تلك أسئلة جوهرية، قصر خطاب العولمة عندنا في طوره الراهن عن الإحاطة بها. ينطبق ذلك على ما كان منه رفضياً وما كان انتقائياً، وحتى ما كان إشادياً بسذاجة لدى قلة قليلة منا. وهذا قصور ربما عاد، بالدرجة الأولى، إلى العجز عن استكناه ذلك التحول الكبير، قصور عائد، بدوره، إلى ذلك الإشكال المزمن في علاقتنا بالحداثة. فنحن درجنا على النظر الى الحداثة، منذ استفاقتنا عليها، من خارجها. فتبدّت لنا مساراً ملغزاً، مدهشاً أو مروّعاً، أطواره، كما رأينا إليها، هي ما ينعكس منها من خلال أدوات، مادية أو غير مادية، جرى ابتداعها. ومن المنطلق هذا اقبلنا على استخدامها أو اعرضنا. أما روح الحداثة، لبّها وديناميكيتها الدفينة والفاعلة، فكادت تبقى عصيّة على كل فهم من جانبنا أو إدراك، حتى إذا ما استجد طور في مسار الحداثة تلك احترنا في قراءته وفي تدبّر أمره. أهو فعل مراكمة، يضيف إلى أشياء الحداثة كمّا، أم هو بشير تحول دراماتيكي الطبيعة والأبعاد أو نذير، وذلك حسب الموقع ووجهة النظر اطبق علينا فلم نحسن التحسب له، ولا استطعنا لانعكاساته ولآثاره علاجاً؟ هكذا تتطور الحداثة وتتحول، وتعيد صياغة نفسها وتشكيل العالم من حولنا، ونظل نحن مقيمين على سلوكٍ حيالها يكرر نفسه، لا ابتكار فيه ولا خيال: رفض لها عقيم، لأنه قاصر عن مجاراتها تاريخياً، أو قبول انتقائي لا يشي، في واقع الأمر، بقدرة سيّدة على الاختيار، بقدر ما هو تسليم ببعض ما فرضه العصر، واضطرار إلى الاقرار بما لا بد من الاقرار به. وذلك السلوك الذي كان ديدننا منذ أن وفدت إلينا الحداثة دون استئذان، هو ما يستعيده، في شقيه الممانع أو الانتقائي، خطاب العولمة عندنا بحرفية عنيدة صماء. كل ذلك معلوم لا يحمل جديداً، إلا أنه ربما كان، في ما يتعلق بالعولمة، وهي التيار الجارف الوافد على أنحاء الأرض، أكثر فداحة من كل ما خبرناه حتى الآن. فإذا امكن تلمس الأعذار وظروف التخفيف للأجداد، بالقول إنهم باغتتهم الحداثة على حين غرّة، وانتهكت عالماً كان لهم منغلقاً ما انفك يعيد انتاج نفسه منذ قرون فأربكته، فإن الأمر ليس كذلك في ما يتعلق بمعاصرينا. صحيح أن الجميع ليسوا سواسية أمام العولمة، وان الفارق شاسع بين من يحتل منها موقع القوة الدافعة والمحركة، من حيث إبداعه لتقنياتها وإرسائه لطرق عملها ووسائل فعلها، وبين من يكتفي بتلقي كل ذلك وهو شحيح القدرة على المبادرة. لكن ما لا شك فيه أن هناك قدراً من المساواة بين الجميع، وإن مع بعض تفاوت غير جوهري على صعيد وعي الظاهرة المذكورة. فالحيرة، والنزوع إلى التجريبية، في صدد تعقّل العولمة وإدراكها ووضع إطار نظري يستوعبها ويحتويها، هذا ناهيك عن حصر مفاعيلها الكثيرة المحتملة، سماتٌ بات يشترك فيها مفكرو الغرب، مهد العولمة ومنبعها، مع سواهم من أقران وزملاء لهم في بقية أنحاء العالم، وإن اختلفت درجة الكفاءة. وإذا كان الغرب، في أطوار الحداثة السابقة، منبع تلك الحداثة وصاحب القول الفلسفي الفصل فيها في آن، فالأمر ليس كذلك مع العولمة الراهنة، بحيث تبدو المجافاة كبيرة بالغة بينها كواقع يعيد تشكيل حياة البشر، وبين وعيها. وهذا ما لا تنفيه كتابات "فكرية" كتلك التي وضعها، قبل سنوات، فرانسيس فوكوياما، حول "نهاية التاريخ"، أو كتلك التي جاء بها صموئيل هنتنغتون حول "صراع الحضارات"، بقدر ما تؤكده. فإذا ما كانت الحداثة التقليدية قد طورت خطاباً رفيع القيمة الفكرية حول المواطن، فما الذي تقوله صنوتها الراهنة بشأن الكائن المعولم الحالي - المقبل، سوى ما حددته له مكاتب التسويق من مواصفات بوصفه مستهلكاً؟ وإذا كانت الحداثة التقليدية قد أنشأت الأمة - الدولة، بقدر ما صاغت أسسها النطرية والفلسفية، أو النظام الديموقراطي وسبل تسويغه وشرعنته، فما الذي يقوله خطاب العولمة في كل ذلك؟ هل هو يقر بتجاوزه؟ ولكن نحو ماذا؟ واستناداً إلى أية منظومة فكرية؟... وقس على ذلك العديد من الأوجه والجوانب الأخرى. ولأن الجميع في مرحلة التلمّس، على صعيد وعي العولمة هذا، فإن في ذلك ما قد يسمح بتعدد الإجابات وبتعدد مصادرها، بل في ذلك ما من شأنه أن يمنع صاحب الموقع الغالب في إنتاج العولمة وأدواتها وتقنياتها، من ان يحتكر، بالضرورة، اجتراح أفكارها وقيمها. ذاك أن حالة التلمس تلك ربما أوجدت، في ذلك كله، مجالاً أوسع لمشاركة البشرية، ونحن منها، عموماً. وهذا، مع الوعي بكل الصعوبات وباختلال ميزان القوى، هو ما لا يمكن رد العجز عن خوض غماره إلا إلى نقص في الكفاءة قد لا يحاسب عليه سوانا، وإلى التشبث بذلك الموقع البراني في التعاطي مع العصر، رفضاً أو قبولاً انتقائياً - اضطرارياً. ولكن على أي أساس يمكن لانخراط واعٍ وإرادي ان يحصل؟ بطبيعة الحال هناك الاعتبار الذي كثيراً ما يرد على ألسنة كثيرة، ومفاده ان العولمة تيار جارف مدعو إلى السيادة، منطقاً ومصالح، على الأرض بأسرها، وأن محاربتها، أو ادعاء مواجهتها، محكوم عليهما بالفشل مسبقاً. والكلام هذا، وإن كان صحيحاً، إلا أن من شأنه أن يطرح الأمر على أنه مجرد أمر واقع لا دفع له، صفيق متعجرف، يغذي بذلك مشاعر الغبن والضغينة التي كانت، بالتحديد، من أبرز ما وسم علاقتنا السيئة بالحداثة. هكذا، فإن الأخذ بذلك الاعتبار بمفرده لا يفعل شيئاً سوى إعادتنا إلى نقطة الصفر. ربما توجب البحث عن وسيلة لطرح المسألة على نحو أقل سلبية، تتخطى مجرد الدعوة إلى الخضوع لمستجد محتوم قاهر، كيما ترسي معايير أكثر "موضوعية"، وأكثر "حيادية" قياساً باكراهات موازين القوى. وهذا، على الأقل، صالح لأن يشكل مدخلا نظريا أوليا في مقاربة موضوع الحداثة والتحديث. ولعل أول ما يجب القيام به، في هذا الصدد، إنما هو إعادة النظر في مفهوم أساسي اعتُبر حتى الآن مفصلياً، ومسلمةً راسخة ينطلق منها كل بحث أو نقاش: نعني ذلك المتمثل في تقسيم مجتمعات العالم وثقافاته إلى حداثية، ناجزة الحداثة من ناحية، وإلى أخرى ما قبل حداثية، تجهد في تحقيق تلك النقلة فلا تقوى، أو تميل الى مواجهتها بالمقاومة. ونزعم هنا أن هذا المفهوم الذي كان صحيحاً في توصيف واقع الحال منذ القرن الماضي، لدى بدء الخروج الغربي الى العالم استعماراً وتوسعاً ومثاقفة، وحتى أواسط هذا القرن أو ما بعدها بقليل، فقد في عصرنا هذا الكثير من قدرته التفسيرية. ذاك ان المجموعة البشرية أصبحت الآن تعيش كلها، وبشكل يكاد أن يكون كاملاً، في مناخ الحداثة وفي كنفها، متداخلةً ومترابطة بما لا يُحصى من وشائج. وفي اغلب الاحيان جدّ ما تم انجازه بأدوات محلية وأهلية. إذ لا شك في أن سلطات الاستقلال، من خلال استعارتها مفهوم الأمة - الدولة ومن خلال فرضه، وبواسطة انشائها المؤسسات الحديثة في ميادين التعليم ونظم احتكار العنف العسكري والبوليسي وما إلى ذلك من وسائل التأطير الجماهيري أحزاباً ومنظمات مهنية ونقابية ووسائل اتصال... حققت من حيث التغلغل في أوصال المجتمع، ما لم يُقيّض بلوغه للسيطرة الاستعمارية. أو لنقل إن سلطات الاستقلال - وإن بطرقها الملتوية حيناً والمتعثّرة حيناً - استأنفت ذاك التغلغل الكولونيالي بزخم أكبر ينمّ عن نجاحنا في استدخال "السلطة"، ولو لم ننجح بالقدر نفسه في استدخال "الدولة". صحيح ان حركة التحديث تلك اتخذت في الغالب سمة اجرائية بحتة، واكتفت باستنساخ الأدوات دون الروح، وأنها كثيراً ما وُصفت بالتشوّه لأنها نأت بنفسها عن "قيم الحداثة"، أو ما يوصف بهذه الصفة، أو أنها كادت أن تكون، استبدادية باطلاق. فلم تتردد، مثلا، في إعادة إدراج أكثر المكونات تقليدية من قبلية أو طائفية أو سواها ضمن آلتها التسلطية. إلا أن ذلك كله لا ينفي أن مظاهر استبدادها تلك إنما تربطها بالتجارب التوتاليتارية الحديثة، من فاشية ومن ستالينية، وشائج أقوى بما لا يقاس من تلك التي قد تنشأ بينها وبين أنظمة الاستبداد العتيقة، والسابقة على الحداثة، من "شرقية" أو سواها. أما العولمة فاستكملت عملية تحديث العالم تلك، بأن حولته إلى مجال تبادل واحدا وحيدا ومندمجا، تُتداوَل فيه البضائع والتقنيات والأفكار والرساميل لا يكاد يعرقل سيولتها معرقل، على ما هو معلوم. بيد ان ما يهمنا التوقف عنده، هنا، ان ذلك المفهوم الذي ساد طويلاً، والذي يقسّم أجزاء الكون بين مجالي حداثة وما قبل حداثة، ما عاد يفي بالغرض كمقياس أمثل باراديغم يزعم الإحاطة بعلاقة شعوب العالم بالحداثة وبموقعها منها. وذلك تحديداً بفعل المسار الذي سبقت الإشارة إليه، والذي بدأ منذ عقود وتتوج بالعولمة. فالأخيرة، ولاستكمالها عملية تحديث الكون، ولأنها جعلت من الحداثة، بقضها وقضيضها، بحلوها ومرها، بايجابياتها وسلبياتها، قاسماً تشترك فيه جميع شعوب الارض على تفاوت، انتجت انقساماً آخر مستجداً هو الذي قد يكون الأجدى في التعبير عن الوضع الراهن: إنه ذاك القائم بين شعوب منتجة للحداثة، وبين أخرى تكتفي ب"استهلاكها"، وقد تدفع، جراء انزوائها في موقعها ذاك، ثمناً باهظاً ربما فاق ما قد تجنيه من فائدة. وإذا ما سلمنا بهذا الأمر، فإن في ذلك ما يجب أن يدفعنا إلى إعادة طرح مسألة إقبالنا على الحداثة، والعولمةُ آخر تجلياتها وأرقاها، من منظورٍ غير الذي اعتدناه حتى الآن وارتد علينا بالوبال. فالسؤال ما عاد: هل نقبل بالحداثة أم نُعرض عنها، على اعتبار أنها منتوج غازٍ ومؤامرة للسيطرة الغربية، أو هل نقابلها بالانتقاء فنأخذ بعض ما يسنح منها ونرفض ما لا نريد وكأننا نتبضع داخل سوبرماركت. السؤال الآن هو: كيف يمكننا أن نتحول إلى موقع انتاج الحداثة، أو المساهمة في انتاجها، بعد أن أصبحت معطى راسخاً فاعلاً يشمل حياتنا ويطغى عليها، انجرفنا فيه بما لا يدع مجالاً لتحلل أو لتنصل، وتبعاً لحركية تاريخية لم تكن دوماً، وفي كل الحالات، مفروضة من الخارج. فالتخلف عن الإقرار بذلك الواقع هو بمثابة طعن في شرعية وجودنا التاريخي كما هو عليه الآن، ومكابدة لكل ما يطرأ علينا من تطورات بوصفه هزيمة حلت بنا، ومأزقا اضطررنا إليه اضطراراً، وولوجاً في ما لم نختره ولم نرده، مهما زعمنا لأنفسنا القدرة على الانتقاء، أو ادعينا القدرة على الرفض. إن مثال العولمة يتعدى العولمة نفسها، وإن نبعت بعض أهميته من أن الصلة بها هي أعلى، وآخر، مراحل الصلة بما هو "غربي" أو "حداثي" على ما جرى الوصف المتعارف عليه. ذاك ان منطق الصلة هو نفسه ما سبق أن رأيناه يعمل في ما خصّ الظاهرات السابقة: من "الحضارة" إلى "الأمة - الدولة"، ومن "اقتصاد السوق" إلى مجالات "الديموقراطية والقيم". فالفرز الذي أعملناه في تلقي هذه العمليات التاريخية، وهو أبعد ما يكون عن التركيب الابداعي بين افكار وقوى وافدة وبين أجسام حالاتنا الخاصة، جعلنا في منأى عن التفاعل مع رياح العصر الأشد تأثيراً. إلا أنه، أيضاً، ألحق بنا هشاشة داخلية اتسم بها تصدينا لبناء مجتمعاتنا وسياساتنا. وعلى هذا النحو شئنا أن نأخذ ما هو "مادي" وتقني من الحضارة الغربية، أو مما وُصف هكذا، نابذين "الروحي" أو "الثقافي" الذي فيها. وفي ما خصّ "الأمة - الدولة" التي سبقت الإشارة إليها، أُضعِف العنصر الدستوري في تشكيلنا لها بقدر ما أُضعِف الوعي الدولتي الحديث الذي حاصرته القبيلة والعصبية من جهة، والقومية الايديولوجية من جهة أخرى. وشأن بلدان متخلّفة كثيرة في "العالم الثالث"، اصطبغ أخذنا ب"اقتصاد السوق" و"الانفتاح" بجرعة مرتفعة جداً من الفساد ورأسمالية الشنطة، تماماً كما اصطبغ إقبالنا على "الديموقراطية" بتحفظ متشدد واصولي عن نظام قيمها وحرياتها المفتوحة. والواقع ان الإضعاف الذي نجم عن هذا الفرز، وفيه الكثير من الغنج الصبياني حين يُعطى الخيار للصبية، هو ما تسبّب في اضطرارنا إلى تجرّع السلعة الغربية الوحيدة التي لم نستطع إعمال الفرز فيها، أي إسرائيل. صحيح ان توازنات القوة كانت مائلة وراء النتائج التي أفضت إليها مواجهة 1948، إلا أن القدرة على التحكم بهذه التوازنات ما كانت لتنعدم على النحو الذي رأيناه لولا اعتماد نظرية الفرز الصبياني المشار إليه والتي لا تزال تعمل، على ما نرى في خصوص العولمة. والحال أن ما حصل في البلدان المجاورة لفلسطين بين أواسط العشرينات، حين أُخِذ في مصر ولبنان بدستورين منسوجين على منوال الدساتير الأوروبية، وأواسط الأربعينات عندما قوي التطرف وتضاعف العداء للغريب كما نشأت ونمت الأحزاب الراديكالية، ليس قليل الدلالة. ففي هذه الغضون كان العراق قد عرف مذبحة الآشوريين وفرهود اليهود وانقلابي بكر صدقي ورشيد عالي الكيلاني. وكانت فلسطين غارقة في احتراب أهلي يوازي تصدّيها للهجرة اليهودية والانتداب البريطاني، مؤشراً على الفشل في بناء أمة - دولة فلسطينية. أما سورية فشكلت دائماً مهد الرفض المشرقي الأوسع لمحمولات الغرب الكولونيالي، هي التي بدأ اشتباكها المتصل معه منذ معركة ميسلون وانهيار السلطة الشريفية في دمشق. وما بين ثورة حوران في 1925 والاندراج في حقبة الانقلابات العسكرية عام 1949، ترسخت عناصر القطيعة مع التقليد السياسي الحداثي، سمّه غربياً أو غير ذلك. بهذا حيل دون بناء الوسائط والقنوات التي كانت لتتكفّل الاندراج في العمليات التاريخية الهابّة علينا، اندراجاً لا يقلل الأكلاف فحسب بل يضاعف فرص الاسهام وتوسيع الحيّزات المشتركة. فبالنتيجة انقطع الخط الذي كان بدأ ضعيفاً مع الطهطاوي والتونسي والافغاني وعبده، ليكسب شيئاً من القوة مع لطفي السيد وشبلي شميل وغيرهما. وعلى العموم غدا دور النخب الثقافية، انطلاقاً من نظرية الفرز اياها، دوراً مدمّراً، يتعدى الردّ على ظروف ما بين الحربين والضغط الكولونيالي إلى استراتيجية افراغ المجتمعات الشرقية من قوامها ومعناها وقدرتها على التعاطي القوي مع ما يعرض لها. ولأن الحال غدت على ما هي عليه، كان الاضطرار الاليم إلى "قبول" إسرائيل كلاً كاملاً لا مجال للتأثير عليه، حتى في ما خصّ الوصول الى تسوية إنسانية لمشكلة اللاجئين. ولأن تلك الانتقائية اتسمت بالذرائعية او بالاضطرار، فانها ادت الى نزع كل شرعية عن الواقع الذي نعيشه، وعن كل ما نبنيه في اطاره وما نقيمه. فنحن ننشىء الدول والكيانات الوطنية، ولا نني، عملياً، نرسّخ دعائمها. لكننا لا ننفك نهجوها لأنها ناجمة عن "التجزئة الاستعمارية"، وندحضها باسم هلامي الكلام وفضفاضه حول الأمة العربية او الاسلامية، فنقبل بوطنياتنا على مضض وكأمر واقع مقيت وغاشم. وهو ما تغذّيه، على اية حال، الطبيعة القمعية لسلطاتها. كما اننا ننخرط في قنوات واطر الانتظام الحديثة، من احزاب ونقابات ومنظمات مجتمع مدني، ونردد ما تستوجبه من رطانة، الا ان حنيننا الحقيقي عالق في العشيرة والطائفة والحي وما عداه مما له الفة الأهلي وعبق الحميم السابق على "صدمة الحداثة". ونحن نقبل على اتفاقات السلام، نفاوض عليها ونوقّعها وفق أسوأ الشروط وأقساها، بيد اننا لا نكف عن التحدث حديث حرب نحن اول من يعرف عجزنا عن خوضها. هكذا نصوّر واقعنا الراهن على انه كابوس، ونعيشه على انه كذلك، طاعنين في شرعية كل مكوّناته بما فيها تلك التي من صنع ايدينا. غير ان المشكلة انه ليس لدينا من واقع سواه، بالمعنى التاريخي وليس بمنطق الاذعان بالضرورة. ومثل هذا السلوك هو ما يُفقدنا كل قدرة على المبادرة، مراوحين بين مشاعر الهزيمة والاحباط وبين فورات رفضية رعناء. والخشية، الآن، هي أن يتكرر أمرنا مع اسرائيل، مع العولمة، وهي ليست، بالضرورة، متعارضة مع العرب ومصالحهم تعارض إسرائيل. * كاتب تونسي مقيم في فرنسا. ** كاتب لبناني مقيم في بريطانيا.