في يوم من أيام عام 1946 كنت أهمّ بدخول الجامعة الاميركية بالقاهرة من مدخل لها في شارع الشيخ ريحان المقابل لوزارة الشؤون الاجتماعية، عندما التقيت بصديقي الشاعر مختار الوكيل 1911 1988 الذي سألني عن وجهتي، فقلت له إنني كنت ذاهباً الى معهدي القديم لافتقاد الأصدقاء من العاملين فيه. فابتدرني قائلاً: هل ترافقني لزيارة الشاعر محمود حسن اسماعيل، فهو يعمل في مجلة الشؤون الاجتماعية التي تصدرها وزارة الشؤون الاجتماعية. فقلت له إنني لا أعرف الشاعر، وليس لي معه موعد مضروب. فقال: لا تخشى شيئاً، فسيرحّب بك لأنه صديقي. وصعدنا الدرج الى مكتب محمود حسن اسماعيل الذي استقبلنا استقبالاً حفيّاً، وكانت هذه هي المرة الأولى التي أُشافهه فيها عن قُرب، فهو بسِمَتِهِ وايماءاته وكلامه قطعة منتزعة من صعيد مصر الجوّاني: سحنة سمراء، وشعر مجعّد، وعينان جاحظتان حمراوان، وقامة معتدلة لا تشتكي طولاً ولا قصراً ولا بدانة ولا هزالاً. وبمجرد جلوسنا، فتح الشاعر درج مكتبه وأخرج نسختين من ديوانه الجديد الموسوم "الملك"، وكتب عليهما إهداء كريماً لكل منّا. ولا تسل عن فرحتي بالتعرف بهذا الشاعر الذي عرفته قبلاً من ديوانيه "أغاني الكوخ" و"هكذا أغني" ومن قصائده المندرجة في مجلة "الرسالة" لصاحبها أحمد حسن الزيات 1885 1968، ولا تسل عن اعتزازي بهذا الديوان الجديد المطبوع طباعة فاخرة تتصدره صورة الجالس على العرش. الملك فاروق الأول والأخير!. وكان طبيعياً أن أردّ للشاعر تحيته في مقال عقدته حول هذا الديوان. وكانت محطة الاذاعة المصرية وقتها تتبع شركة ماركوني الانكليزية، فلمّا آلت ملكيتها الى الحكومة المصرية ألحقتها بوزارة الشؤون الاجتماعية باعتبارها أنسب الوزارات للإشراف عليها، ولا سيّما لأننا لم نكن نعرف في ذلك الوقت وزارات الاعلام أو الارشاد القومي أو الثقافة. وما دامت الاذاعة تؤدي رسالة اجتماعية، فلتتبع إذاً وزارة الشؤون الاجتماعية، وعندما أغلقت مجلة الشؤون الاجتماعية، نقل محمود حسن اسماعيل الى ادارة الاذاعة اللاسلكية، وبقي فيها الى أن تقاعد في عام 1970. وكان قد عمل عقب تخرجه عام 1936 من كلية دار العلوم محرراً في مجمع فؤاد الأول للغة العربية وموظفاً في مراقبة الثقافة بوزارة المعارف. ومع أن ديوان "الملك" لم يُنِلْ محمود حسن اسماعيل أي رتبة كالبكوية والباشوية ولا أكسبه ثروة طائلة، فقد تناهى الى العاملين في الاذاعة أن محمود حسن اسماعيل موصول الأسباب بالقصر الملكي، مما أعلى من منزلته الأدبية في الاذاعة، وصار مراقباً للبرامج الثقافية فيها مسؤولاً عن جميع الأحاديث التي يذيعها كبار المفكرين والأدباء على الهواء مباشرة، ولا سيما لأن عملية تسجيل الأحاديث قبل اذاعتها لم تكن معروفة، ولكن كان يُطلب من المتحدثين أن يقدّم كل منهم نسخة من حديثه لمراجعتها قبل اذاعتها من قبل محمود حسن اسماعيل للاطمئنان الى خلوّها من أي محظورات. ولا بأس من قبيل الاستطراد أن أنقل هنا بقدرٍ من الإيجاز ما رواه الأديب الدكتور عبدالقادر محمود استاذ الفلسفة بجامعة القاهرة، أطال الله بقاءه، عن الشاعر محمود حسن اسماعيل وسلطته في قبول أو رفض أي حديث مقدّم لإذاعته. وقد نشر ذلك في جريدة "الأهرام" في عدد 16 أيلول سبتمبر 1994. روى عبدالقادر محمود نقلاً عن المرحوم زكريا الحجاوي 1914 1976 إشاعة مؤداها أن محمود حسن اسماعيل اشترى مسدساً لاستخدامه ضدّ مناوئيه. وقد تندّر بهذه الإشاعة روّاد ندوة جريدة "الأهرام" أو مقهى اللواء الذي كان يواجه مبنى الصحيفة القديم، ومن هؤلاء الروّاد كامل الشناوي 1908 - 1965 ومحمد مصطفى حمام 1906 1946 وعبدالسلام شهاب ت 1977 ومحمود السعدني أطال الله عمره. وتقول الرواية ان الأديب الكبير ابراهيم عبدالقادر المازني 1890 1949 توجه الى الاذاعة ليقرأ حديثاً له على الهواء مباشرة، وفوجئ باختفاء الحديث الذي سبق له أن قدّم نصه الى مراقب البرامج الفنية محمود حسن اسماعيل. ومع ان المازني كان قادراً على ارتجال الحديث، فقد اعتقد أن في الأمر سرّاً وأن المسؤول عن اخفاء الحديث أو اضاعته هو محمود حسن اسماعيل نفسه. فانقطع المازني غاضباً عن الاذاعة وكتب كلمة قصيرة في جريدة "البلاغ" من دون أن يشير فيها الى اسم الشاعر ختمها ببيت ساخر لابن الرومي هو: طولٌ وعرض بلا عقل ولا أدب فليس يُحسن إلاّ وهو مصلوب! واستطرد الدكتور عبدالقادر محمود فقال إن قوماً في ندوة "الأهرام" واللواء تطوعوا لتدبير مكيدة للشاعر محمود حسن اسماعيل ثأراً للمازني، وكانت المكيدة هي نظم قصيدة باسم الشاعر وبوحيٍ من بعض تعبيراته وضعوا لها عنواناً هو "جسر الأبد" ونشروها في صدر مجلة "الحديقة والمنزل"، جاء فيها: رقص البدر على لحن الصخور... في ظلام ساطع! وتهاوى النور من أيدي الزهور... في الهزيع السابع! وتدلّى النجم من جسر الأبد! شارداً أسيان يبكي في كمد! راعش الجفن، صريع الكبرياء! ساهماً مثل عيون الببغاء! يا نشيد الخلد في الوادي المطير... في الرحيب الواسع يا سماء في جبالٍ من بحور... في فناء الشارع أنا في الدنيا شريد ناسك وأنا الروض النضير الشائك جازع من كل شيء... ضاحك نبئيني.. كيف يبكي الضاحك؟ أما بقية القصة كما رواها الحجاوي ونقلها عنه عبدالقادر محمود، فهي أن الشاعر صمم على أن ينتقم من أولئك الذين اعتدوا على ساحته المقدسة بهذا العبث الفارغ، ووضع في سترته الداخلية مسدساً ليطلقه موتاً على هؤلاء العابثين. وزعم الحجاوي أن الشاعر استقبل في بيته صديقاً له المفروض أنه كاتب هذه الأحاديث المستطردة، وإذ كانا يتحدثان في أمور الشعر والنقد، برزت قطة مستوحشة تقفز حولهما، فما كان من الشاعر إلاّ أن أخرج مسدسه وأطلق عليه ثلاث رصاصات أردتها في الحال. وعلّل الشاعر فعلته هذه بأنه لم يقصد قتل القطة، وإنما قصد قتل "الوداعة" في ضيفه! وهي حكاية أو دعابة قد تكون صحيحة في جزئها الأول، أما ما يتعلق بشخصي فهو غير صحيح، إذ كان الشناوي وحمام وشهاب والسعدني يخلطون الجدّ بالهزل، ولا يرون حرجاً في اختراع وقائع لم تحدث. وعندما بدأت حركة الضباط في عام 1952 في تطهير المناصب الحكومية من "المغضوب عليهم" خشي محمود حسن اسماعيل أن يصيبه أذى في رزقه بسبب ديوان "الملك"، فتكتم أمره وطوى صفحته ولم يعد يذكره في سياق أي حديث عن دواوينه، وتمنّى أن ينساه الناس تماماً، وقد نسيه فعلاً معظم النقاد فأسقطوه من اهتمامهم. فقد كان الشاعر يعتمد في كل حياته على وظيفته في المقام الأول والأخير، ولو فقد هذه الوظيفة لعانت أسرته الكبيرة المؤلفة من زوجة وولدين وأربع بنات أشدّ الضيق. وإذا كان محمود حسن اسماعيل قد أهال التراب على ديوان "الملك"، فإن الشاعر الأديب اللبناني أمين نخلة 1901 1976 جاهر بإصدار "كتاب الملوك" في عام 1954، وفي الكتاب تأبين لملك وذكرى لملك وتحية لملك وخطاب الى ملك، وكلام على ملك للعرب، ومن هؤلاء الملوك فاروق الأول الذي كان قد فقد عرشه. على أن محمود حسن اسماعيل ارتأى أن يجاري النظام الجديد ليداري على ديوانه المشؤوم، فأصدر ديوان "نار وأصفاد" ووقفه على شعر النضال والكفاح والثورة حتى لا يُقال إنه تقاعس عن الإسهام في حركة التاريخ الثوري. وكان من عادة محمود حسن اسماعيل عندما يريد استدعاء بواعث الالهام، أن يخرج من بيته في مدينة الجيزة في ساعة متأخرة من الليل، ويتمشى على شاطئ النيل وهو في حالة "وَجْدٍ شعري"، يكاد يكون فيها غائباً عن الدنيا من حوله. وذات مرّة استوقفه شرطي وهو يذرع الطريق جيئة وذهاباً ظناً منه بأنه يحوم حول المنازل المطلّة على النيل لكي يدبّر أمراً يعاقب علىه القانون. فاستوضحه مقاصده، ولكنه طلب منه ألاّ يقطع عليه حبل تفكيره لأنه ينظم قصيدة عصماء، وهو كلام لم يفهمه الشرطي الساذج، فساقه الى مركز الشرطة للتحقيق معه. ومن حسن حظه أن الضابط المنوب كان يسمع اسم محمود حسن اسماعيل مقترناً ببعض الأغاني التي ترددها الاذاعة لكبار المطربين والمطربات، فاعتذر له ونصحه بأن يكف عن ذرع شوارع النيل الهادئة في ساعات متأخرة من الليل حتى لا يثير من حوله شبهات لا مسوّغ لها. كان محمود حسن اسماعيل شعبياً، فعاش كل عمره في الأحياء الشعبية، وكان يستخدم وسائل المواصلات العامة في تنقلاته، ولم ينس أبداً صعيديته وحياته في قرية النخيلة التابع لمدينة "أبو تيج"، ولا غادرته صور الكوخ التي سجلها في ديوانه الأول، ولهذا لم تكن له مشاركة في الحياة الاجتماعية، وإن كان هذا لم يمنعه من لقاء اصدقائه ومريديه سواء في مكتبه أو في مقاهي القاهرة، لأن بيته كان حكراً على أسرته وحدها. وكان بصورة عامة هادئ الطبع، قليل الانفعال، يستقبل زواره بحفاوة ودية، ولا بأس من التخفف من مسلكه الجادّ بشيء من الفكاهة وخفة الروح. سمعته مرّة يقول إن الشاعر الموصول بأسباب الوحي والإلهام، لا يحتاج الى التوسع في المطالعات لأنها "تشوّش" على ما يتنزّل عليه من وحي ربات الشعر. فالشاعر لا تصنعه المطالعات مهما اتسعت وإنما تصنعه موهبته التي فُطر عليها وصارت جزءاً من جبّلته، ولا سبيل الى اصطناعها إن انتفت. والشاعر يولد شاعراً ويموت شاعراً، وإذا أراد أن ينأى بنفسه عن التقليد والمحاكاة قلّل من مطالعاته ولا سيما لدواوين الشعراء القدامى. ومع هذا، كان مضطراً، بحكم عمله في الاذاعة، لمراجعة القصائد والأحاديث المقدمة من الأدباء وتقييمها، سواء بالقبول أو بالرفض، وهو ما أكسبه صداقات وعداوات في وقت واحد. ولكن ميزانه كان محكوماً بالإنصاف والبعد عن الهوى. وفي مسيرة حياة الشاعر محمود حسن اسماعيل دواوين متعددة أصدرها تباعاً، وهي عدا ما سلفت الاشارة اليه "أين المفرّ" و"قاب قوسين" و"لا بدّ" و"صلاة ورفض" و"هدير البرزخ" و"نهر الحقيقة" و"التائهون" وقصيدة طويلة عنوانها "السلام الذي أعرفه" ترجمها الى اللغة الانكليزية الدكتور محمد مهدي علام 1900 1992 نائب رئيس مجمع اللغة العربية بالقاهرة. ولم يحاول الشاعر في كل عمره أن يخرج عن دائرة الشعر، فلم ينشر في الصحف دراسات أو مقالات، ولا شارك في مناقشات أو محاضرات في أي موضوع أدبي، لأن الشعر هو كل حياته ولا يشغله عنه شاغل. تقاعد محمود حسن اسماعيل من عمله في الاذاعة عام 1970 فهو من مواليد عام 1910 وكان يتوقع أن تتوّج حياته بالحصول على جائزة الدولة التقديرية، وهي أعلى جائزة في حينها، ولكن حظه تواضع عند الجائزة التشجيعية التي نالها عام 1964، وإن كان عيّن في لجنة الشعر بالمجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب، وشارك بشعره وشخصه في بعض المؤتمرات الأدبية. وعُرض عليه بعد تقاعده أن يعمل خبيراً في مركز بحوث المناهج في الكويت، فرحّب بهذا العمل، وسافر الى هناك حيث أصبح زينة المجالس والديوانيات بما كان يلقيه فيها من شعره، وبما كان يرويه من ذكرياته عن الأدب والأدباء في المجتمع الذي خالطه بكثافة أثناء عمله بالاذاعة. وقد قابلته للمرة الأخيرة في صيف عام 1976 في منزل جاري العلامة محمود محمد شاكر 1909 1997 وكان يقضي إجازته السنوية من عمله في الكويت، وأخذ يسألني عن أخبار الأصدقاء المشتركين لافتقاده إياها في غربته. وبعد أشهر من هذا اللقاء عاد الى القاهرة في صندوق، إذ توفي في منزله في الكويت في 25 نيسان ابريل 1977. ووصفت ابنته المذيعة سلوان محمود أيامه الأخيرة بقولها: "لم أر للشمس ضوءاً لمدة أربعة أيام كان فيها يلفظ أنفاسه الأخيرة وأنا بجانبه لا أصدّق أن الهرم يتهاوى أمام سطوة القدر. وعدت به الى وطنه في طائرة واحدة بعد تكريم عظيم في دولة الكويت... هو جسدٌ مسجّى فارقته الروح، وأنا جسد حيّ لم يبق به إلاّ أعمق معاني الحزن والألم.... وكان دائماً ما يغرس في روحي شعوراً برفض كل ضعف وانكسار، ناشداً كل قوة وكل إقبال على الحياة واغتراف من معنى الوجود وفلسفة الحياة". * كاتب مصري