القبض على شخصين في تبوك لترويجهما الحشيش و(9000) قرص "إمفيتامين"    مدرب الفيحاء يشتكي من حكم مباراة الأهلي    استقالة مارتينو مدرب إنتر ميامي بعد توديع تصفيات الدوري الأمريكي    6 فرق تتنافس على لقب بطل "نهائي الرياض"    أوكرانيا تطلب أنظمة حديثة للدفاع الجوي    بحضور وزير الثقافة.. «روائع الأوركسترا السعودية» تتألق في طوكيو    رحلة ألف عام: متحف عالم التمور يعيد إحياء تاريخ النخيل في التراث العربي    محافظ عنيزة المكلف يزور الوحدة السكنية الجاهزة    أمانة الشرقية تقيم ملتقى تعزيز الامتثال والشراكة بين القطاع الحكومي والخاص    الهلال يفقد خدمات مالكوم امام الخليج    دوري روشن: التعادل الايجابي يحسم مواجهة الشباب والاخدود    منتدى المحتوى المحلي يختتم أعمال اليوم الثاني بتوقيع 19 اتفاقية وإطلاق 5 برامج    «الصحة الفلسطينية» : جميع مستشفيات غزة ستتوقف عن العمل    المملكة توزع 530 قسيمة شرائية في عدة مناطق بجمهورية لبنان    اعتماد معاهدة الرياض لقانون التصاميم    انطلاق مهرجان الحنيذ الأول بمحايل عسير الجمعة القادم    «طرد مشبوه» يثير الفزع في أحد أكبر مطارات بريطانيا    فيتنامي أسلم «عن بُعد» وأصبح ضيفاً على المليك لأداء العمرة    هل يعاقب الكونغرس الأمريكي «الجنائية الدولية»؟    شقيقة صالح كامل.. زوجة الوزير يماني في ذمة الله    «الأرصاد»: أمطار غزيرة على منطقة مكة    باص الحرفي يحط في جازان ويشعل ليالي الشتاء    «الزكاة والضريبة والجمارك» تُحبط 5 محاولات لتهريب أكثر من 313 ألف حبة كبتاجون في منفذ الحديثة    الرعاية الصحية السعودية.. بُعد إنساني يتخطى الحدود    فريق صناع التميز التطوعي ٢٠٣٠ يشارك في جناح جمعية التوعية بأضرار المخدرات    الذهب يتجه نحو أفضل أسبوع في عام مع تصاعد الصراع الروسي الأوكراني    الملافظ سعد والسعادة كرم    استنهاض العزم والايجابية    "فيصل الخيرية" تدعم الوعي المالي للأطفال    الرياض تختتم ورشتي عمل الترجمة الأدبية    «قبضة» الخليج إلى النهائي الآسيوي ل«اليد»    «السقوط المفاجئ»    حقن التنحيف ضارة أم نافعة.. الجواب لدى الأطباء؟    الثقافة البيئية والتنمية المستدامة    عدسة ريم الفيصل تنصت لنا    د. عبدالله الشهري: رسالة الأندية لا يجب اختزالها في الرياضة فقط واستضافة المونديال خير دليل    «بازار المنجّمين»؟!    مسجد الفتح.. استحضار دخول البيت العتيق    «استخدام النقل العام».. اقتصاد واستدامة    إجراءات الحدود توتر عمل «شينغن» التنقل الحر    «الأنسنة» في تطوير الرياض رؤية حضارية    تصرفات تؤخر مشي الطفل يجب الحذر منها    فعل لا رد فعل    5 مواجهات في دوري ممتاز الطائرة    ترمب المنتصر الكبير    وزير الدفاع يستعرض علاقات التعاون مع وزير الدولة بمكتب رئيس وزراء السويد    إنعاش الحياة وإنعاش الموت..!    رئيس مجلس أمناء جامعة الأمير سلطان يوجه باعتماد الجامعة إجازة شهر رمضان للطلبة للثلاثة الأعوام القادمة    إطلاق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش في السعودية    فرع وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية بحائل يفعّل مبادرة "الموظف الصغير" احتفالاً بيوم الطفل العالمي    "التعاون الإسلامي" ترحّب باعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة التعاون معها    استضافة 25 معتمراً ماليزياً في المدينة.. وصول الدفعة الأولى من ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة    «المسيار» والوجبات السريعة    أمير الرياض يرأس اجتماع المحافظين ومسؤولي الإمارة    أمير الحدود الشمالية يفتتح مركز الدعم والإسناد للدفاع المدني بمحافظة طريف    أمير منطقة تبوك يستقبل سفير جمهورية أوزبكستان لدى المملكة    سموه التقى حاكم ولاية إنديانا الأمريكية.. وزير الدفاع ووزير القوات المسلحة الفرنسية يبحثان آفاق التعاون والمستجدات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أيوب المصري
أحزان الساخرين «2 - 5»
نشر في الرياض يوم 27 - 10 - 2005

عاش كما أراد.. لا كما أراد له الناس.. زكريا الحجاوي عاشق المداحين والبسطاء والفقراء والفلاحين.. الرجل الذي أحب مصر فأعطته أفضل نبتها من قراها الطيبة، فحمل الريس متقال إلى العالمية وقدم محمد طه وخضرة محمد خضر وشوقى القناوي إلى جمهور الغناء.
خبأ الرئيس السادات في بيته مرتين أثناء حادثة مقتل أمين عثمان، وبعد أن تولى السادات رئاسة مصر منع أعماله من الإذاعة وفصله من عمله .. هذا في نفس التوقيت الذي تهدم فيه سقف البيت الذي يقيم فيه الحجاوي فأصبح بلا سقف في الحياة.
لا شىء أجمل من عشقك لوطنك.. ولا شىء أتعس من غربتك داخل هذا الوطن.. هكذا عاش الحجاوي حاملا ظرفه وسخريته وضحكاته ونكاته ومقالبه وخياله الواسع أينما حل..
يفعل أي شيء دون أن يراجع نفسه.. المهم أن يفعله وخلاص.. لدرجة أنه قاطع صديق عمره عبد الحميد قطامش ثلاث سنوات بسبب مزاح معه.. والرواية لمحمود السعدني - صديقهما الثالث - حيث كان زكريا جالسا على مقهى عبد الله بالجيزة مع مجموعة من أصدقائه وتلاميذه، ولم يكن من بينهم أحد من أصدقاء عبد الحميد قطامش .. وفجأة دخل عبد الحميد المقهى، فنظر إلى الجالسين فوقف زكريا الحجاوي في احترام مبالغ فيه، ورحب بعبد الحميد بكل احترام وتقدير، لكن قطامش - وقد حبكت معه النكتة - وقف بعيدا عن زكريا وهو في غاية الجد وقال له (لسه قاعد بتنصب يا زكريا؟ يا حقير بني أمية، يا ابن ال.....) ثم بصق على زكريا وانصرف .
لم يعرف زكريا لماذا فعل قطامش صديقه العزيز هذا الموقف و لم يكن بينهما شيء يدعو إلى هذا.. وأحرج زكريا بين تلاميذه الذين يجلونه ويحترمونه . وبعد شهور طويلة جاءت الفرصة ليخلص زكريا حقه من قطامش.. فعند محطة الباشا في منيل الروضة صعد زكريا «الباص»، وكان «الباص» مزدحما والجو شديد الحرارة.. ولمح وسط الركاب الشيخ عبد الحميد قطامش يقف مع مجموعة من المحامين الشرعيين من زملائه... واقترب زكريا من أحد هؤلاء المحامين وسأله: هو الأستاذ اللي واقف هناك ده يبقى عبد الحميد قطامش المحامي الشرعي؟ فأجاب الشيخ بالإيجاب، وصرخ زكريا صرخة شديدة «يا لص يا كذاب، يا منافق يا قطامش، تذهب إليك زوجتى بتوكيل خاص لترفع لها قضية طلاق منى فتغازلها غزلا معيبا يا منافق يا شيطان».
بهت الجميع وكانت هذه من الكبائر في مهنة المحامى الشرعي لذا نظر له زملاؤه بإزدراء، وانفجر زكريا في سيل من الشتائم وحاول قطامش تهدئته ولكن دون جدوى، وهنا ثار الركاب على الشيخ قطامش وكادوا يضربونه، وفى هذا الزحام انتهز زكريا الفرصة وقفز من «الباص» واختفى..!
وقد حاول السعدني الصلح بينهما بعد هذه السنوات العجاف ولكن دون نتيجة :«كان قطامش شديد الغيظ مما حدث، وكان يقسم كلما فاتحته في الموضوع أنه لن يخاطب زكريا حتى الموت، ولكني انتهزت فرصة مواتية وتعمدت استفزاز قطامش عندما قلت له: يخيل إليّ أن هناك سببا لا ندريه في موقفك المتشدد والغريب من زكريا.. وقال قطامش عندك حق .. فأنا وجدتها فرصة لأقاطع زكريا الحجاوي إلى الأبد، ولما سألته عن السبب الحقيقي، تنهد في أسى وقال: إن زكريا يحقد علي حقدا شديدا، وارتسم شبح ابتسامة على شفتى، ولكنه واصل حديثه في جد شديد، لا تظن أنى أمزح أو أعبث يا محمود، الحقيقة أن زكريا يحقد على حقدا شديدا، والسبب أنه عديم الأصل وفقير، وهو لم يتعلم شيئا ولم يستفد شيئا، كما أنه ضائع وصايع .. ثم هدأ انفعاله قليلا وصمت لحظة، ثم قال في هدوء: وأنا كمان كده يا أخويا، وهو عايز يبقى كده لوحده ! عشان كده.. بيحقد علي .. وضحك قطامش ضحكة عميقة وصافية نابعة من القلب، ونهض معى إلى بيت زكريا الحجاوى، وكانت سهرة لا تنسى».
ملاك النهر
ولد زكريا الحجاوي بالمطرية ،التى تطل على بحيرة المنزلة في محافظة الدقهلية، وكان أهله يعملون بالصيد.. عاش طفولته بين الصيادين متتبعا الرزق الذي يأتي من البحر، تخرج من مدرسة بورسعيد وكان من الأوائل في مديرية القنال التعليمية ثم درس في مدرسة الصنايع والفنون .. وطرد من هذه المدرسة بعد قيادته للمظاهرات.. فاتجه إلى الرسم ثم تحول لدراسة الأدب اليوناني والأدب العربي ، ثم درس الموسيقى على يد عبد الحميد الألفي.
كان عاشقا للقراءة في بداية حياته أسيرا للأساطير الشعبية، واستهوته أسطورة (بجماليون وجالينا) .. وحاول أن ينسخ منها قصصه لكنه وجد توفيق الحكيم وقد أصدر مسرحية (بجماليون).. بعد ذلك تتبع خطوات عبقرى النغم الشيخ سيد درويش وغنى بصوته الأجش كثيرا من مقطوعاته في جلسات بين أصدقائه.. ثم احترف الصحافة وبدأ في كتابة القصة القصيرة والنقد والبحوث الفنية.. وكانت أول قصة كتبها بعنوان «محاكمة قاع النهر» عام 1948 التي ضمها إلى مجموعته «نهر البنفسج» بعد ذلك وهي قصة رائعة تتحدث عن امرأة انتحرت لصيانة عفتها التي يريد منها زوجها أن تفرط فيها.. ويأخذك الحجاوي بأسلوبه الساحر في الحكي واصفا الغاب وفروع الشجر المثمر «الغاب تافه طويل، وهو يهتز مع الريح، مقلدا الفروع المثمرة التي يحق لها أن تهتز، وكلما وثبت فوقه نسمة تريد الاستلقاء في النهر، انحنى لها الغاب انحناءة ثقيلة الدم، وهو يصفق بأوراقه العجاف.
ويصف الحجاوي الليل وصفا لا أعتقد أنك سمعته من قبل «الليل عبيط يتجول في القرى ناشرا عليها الكآبة والمخاوف» ثم يدخل بك إلى النهر واصفا إياه وحركة الحياة من حوله .. ثم يصل على مرحلة التكثيف حين يلتقى ملاك بامرأة وطفليها في قاع النهر ويسألها عن سر انتحارها ولا يجد سببا فيسألها عن زوجها فتقول له: أنها تركته نائما ويأخذها الملاك إليه ويوقظه سائلا «شلبي»، وهذا اسمه عن زوجته وأولاده، عن نواياه، فيخبره شلبي أنه يريد أن يخنقها لأن الشيخ محمود شيخ القرية كان يعطف عليه بالنقود لأجل زوجته وكان يترك له البيت ويخرج لكن الزوجة تصر على عفافها مما دعا الشيخ لأن يقطع عنه المال.. ويرحل الملاك ومعه «خضرة» زوجة شلبي ويتركها كما وجدها، في قاع النهر فتسأله: إلى أين يا ملاك النهر؟ فيقول لها : أنت لم تموتى يا خضرة، ولن تموتي، فدعيني أبحث عن الموتى».
وقد وصف يوسف إدريس كتابات زكريا الحجاوي في مجال القصة وبالذات في مجموعته « نهر البنفسج» بأنه رائد القصة القصيرة الواقعية..
وبعد كتابة القصة دخل الحجاوي الإذاعة بتمثيلياته ومسلسلاته، وكان في ذات الوقت ينتقل إلى الموالد والأسواق والقرى والنجوع في ريف مصر باحثا عن تحفة فنية أو صوت حقيقى واعد يكتشفه ويعود به إلى القاهرة ليقدمه إلى النجومية ثم يتركه ويعود بحثا عن آخرين.. وكان يرى أن الفن ولد في مصر والتاريخ لا يزال طفلا يلعب بين أهراماتها ومصايفها ومع الهجرات والأجناس الوافدة على مصر والخارجة منها هاجر الفن من مصر إلى بلدان المنطقة ولكن عوامل كثيرة جعلت من كل فنون هذه البلاد فنا قوميا محليا.
مع السادات
في المطرية ذهب أنور السادات عام 1945 إلى منزل زكريا الحجاوي ملتحفا بخوفه هاربا .. وذلك أثناء نضاله ضد الاحتلال البريطانى، حيث قبض عليه في قضية مقتل أمين عثمان فهرب ،وهو لم يهرب من السجن، ولكنه هرب من مستشفى قصر العينى وذلك بعد أن نقل من السجن إليها وتم تدبير عملية الهروب من خلال الدكتور يسين عبد الغفار الذي كان يشرف عليه بالمستشفى ومحمد على ماهر معاون المستشفى، ثم انتقل للاختفاء في منزل زكريا الحجاوي بالمطرية، وقد عرفه زكريا على أهله بأنه صديق حميم له اسمه «الريس جلال» وقد عمل صيادا معهم .. بعد ذلك وبعد أن تم القبض عليه عام 1948 هرب السادات مرة أخرى إلى المطرية كسائق لوري وكان معه صديقه حسن عزت، وعمل السادات هذه المرة في نقل الطوب والزلط والرمل باللوري في منطقة القنال ودمياط والمنزلة والمطرية، ورغم أن السادات حضر عدة أمسيات في ذكرى زكريا الحجاوي بعد رحيله ومنح وسام العلوم والفنون لاسمه تكريما وتخليدا لذكراه وأطلق اسمه على أحد شوارع المنصورة، وغير اسم مسرح السامر إلى مسرح زكريا الحجاوى، وحول المنزل بالمطرية إلى متحف يضم أعماله وفنون الشعب التي عاش لأجلها وإقامة تمثال نصفى له، وأنه في إحدى أمسيات التكريم لمح الرئيس السادات زوجة الحجاوي فعاد مرة أخرى ليسلم عليها ووقف معها.. أقول رغم ذلك فإن للسعدني - صديق الاثنين شهادة أخرى حيث سألته عن زكريا فقال لى : «لزكريا على أنور السادات آياد بيضاء فقد أخفاه من أعين البوليس، وله فضل على ثقافة السادات.. بل إن تعبيرات السادات عن العيب وأخلاق القرية، والأصول والقيم، وديوان المظالم، والتصحيح كلها من وضع زكريا الحجاوى.. لكن السادات حين تولى الحكم منع أعماله من الإذاعة وفصله من وظيفته.. ويروى يوسف الحطاب المخرج الإذاعى الشهير وصديق الحجاوي أن السادات حين جاء للعمل مشرفا للتحرير في جريدة الجمهورية قبل أن يتولى الحكم، وكان زكريا سكرتير تحريرها قام بفصله.. بدون سبب بل لم يعرف الحجاوي خبر فصله إلا في الصباح حين ذهب إلى الجريدة فوجد قرار فصله معلقا على الحائط والأمن يمنعه من الصعود إلى مبنى الجريدة.
ويبرر الحطاب السبب في ذلك بأن الحجاوي كان ينادي السادات باسمه دون أى ألقاب وأمام أى إنسان، وكان يدخل عليه مكتبه دون استئذان ويرفع الكلفة بينهما «ويهزر» معه بل «ويتريق» عليه ونصحه السادات بأن يكلمه بشكل رسمي أمام الناس ولكن زكريا لم يستجب ففصله من الجمهورية.
فرقة الفلاحين
الغريب أن هذا حدث مع رجل كانت له علاقة شخصية بأغلب رجالات ثورة يوليو، فقد انتقل الحجاوي إلى الجيزة وسكن في البيت رقم 9 في شارع عبد الحكيم وعين موظفا بمجلس مدينة الجيزة ثم موظفا بوزارة الداخلية لكنه استقال، وسافر إلى صعيد مصر لسنوات ثلاث قضاها مع «ناعسة المزاتية» وهي أم كلثوم الفن الشعبي وكون لها فرقة غنائية وطاف معها الصعيد كله.. ثم عاد وعمل صحفيا بجريدة المصري وكان يلتقى بالعديد من الضباط الأحرار، فقيام الثورة جاء مع نضج زكريا الحجاوى، لكنه بعد الثورة وبالتحديد عام 1953 انتقل للعمل سكرتيرا لتحرير جريدة الوفد.
ومن منطلق حبه للفن الشعبي قرر وأصدقاؤه أحمد رشدي صالح وحسن فؤاد وأحمد شوقي الخطيب المحامي إنشاء مجلة خاصة بالفن الشعبي .. واحتجز رشدي صالح من راتبه الشهري جزءا، وكذلك فعل حسن فؤاد وزكريا كان أفقرهم فقرروا أن يهب كتابه «سيد درويش حياته وفنه» للمشروع، وفعل وأعطاهم الكشكولين المكتوب فيهما الكتاب، وبدأ العمل فذهب الحجاوي إلى الدكتور سليم حسن أستاذ الآثار العالمي وأجرى معه حديثا عن الفن الشعبي في مصر القديمة وذهب إلى بيرم التونسي ليتحدث عن الزجل.. وذهب رشدي إلى الدكتور الأهواني والدكتور عبد الحميد يونس وللدكتور محمد كامل سليم، لكن الموضوع فشل.. وعلق الحجاوي سر فشل المجلة قائلا: وفجأة، وإذا بكل واحد منا يتلقى نصيبه من الدار الصحفية التي يعمل بها. بلاش حكاية المجلة دي الآن البوليس السياسي شايف إنها ضد مصلحة البلد.
«كان زكريا الحجاوي فنانا يشبه عمال المناجم.. إنهم يغوصون في باطن الأرض بحثا عن الذهب والفحم والمعادن، وهو يغوص في باطن الريف لاكتشاف أصوات كالذهب والفحم وبقية المعادن.. وقد كانت الموالد الريفية هي الأنفاق التي يعثر فيها الحجاوي على عروق الذهب أو كتل الفحم».
فأسس فرقة الفلاحين التي قدمت عروضها في احتفالات عيد الثورة عام 1957 واكتشف أبو دراع وخضرة محمد خضر التي تزوجها ولعلع صوتها في «أيوب المصري» و«ملاعيب شيحا» .. ولهذا الغرام العنيف بينهما قصة، فقد كان زكريا متزوجا من فتاة يحبها بكل صدق وإخلاص كانت حبه الأول وعاش معها أجمل أيام حياته، وفجأة مات شقيقه وترك «كوم لحم» يحتاج إلى رعاية وتربية.. وهنا ترك زكريا زوجته وتزوج زوجة أخيه.. وبعد أن أنجب سوزان وأسامة تعرف على خضرة محمد خضر، وخضرة الشريفة حسبما أسموها في الموالد في كوم حمادة بالبحيرة حين كان يبحث عن مواهب حقيقية.. وأخذت تلف في الموالد وطلقها زوجها لهذا السبب لكنها «لعلعت» في حي الحسين حيث سرادق زكريا الحجاوي..
وبعدها تزوج زكريا من المطربة خضرة محمد خضر شريطة ألا يستغني عن زوجته الأولى، وقد تم زفافهما في حفل حضره مئات من المطربين الشعبيين، ثم بدأت خضرة تطالب بمساواتها بزوجته الأولى ثم انتهى الأمر بالطلاق.. وشربا دماء بعضهما! نعم فتقاليد الفنانين الشعبيين تقضي بأن يشرب كل منهما من دم الآخر وقت الفراق لكى يصبحا شقيقين تجرى دماء كل منهما في دم الآخر.
وقد أقيم احتفال كبير في إمبابة، وجرح فيه نقيب الصعاليك زكريا الحجاوي أصبعه.. وكذلك فعلت خضرة وشرب كل منهما من دماء الآخر وأصبحا أشهر عاشقين أخوين.
وكتب زكريا في وحدته آخر موال في خضرة التي غنت هذا الموال ثاني يوم طلاقها:
زرعت فدان جمايل وأربعة معروف
ورويتها يا ما شهامة بزوق وبالمعروف
واللي حماها أنا بالجدعنة ومعروف
وقلت هلبت تزرع م الجميل قيراطين
أتاريها أرض طين وبتنكر المعروف
ولأنه لا كرامة لنبي في وطنه فقد وجد الحجاوي نفسه بلا دخل ثابت مفصولا من عمله، مهزوما فسافر إلى قطر وكون هناك فرقة قطر للفنون الشعبية كما أعاد صياغة الأغاني البدوية والأهازيج القبلية وجمعها في شرائط لتكون مكتبة الأغاني الشعبية في إذاعة قطر، وما أراح زكريا الحجاوي الذي ما كان يستطيع أن يترك أرصفة مصر وحواريها دقيقة واحدة هو وجود الطيب صالح رئيسا مباشرا له في قطر، فلقد كان حاميا له من كارهي النجاح، وقتلة المواهب.. ولكن يبدو ان متاريس الحماية لم تفلح فلقد عانى الحجاوي من سلسلة من الأزمات النفسية والصحية التي قضت عليه حيث مات في إحدى أزماته القلبية في 7 ديسمبر 1975ومع السعدني رسالة كتبها إليه فيها «لم تتغير مصر يا محمود ولكن الذي تغير هم ناسها، أو بمعنى أصح، الذين تغيروا هم بعض الناس الذين يطفون على السطح، والذين يتمتعون بألف وجه، وهم يقدمون وجها لعبد الناصر، ووجها آخر للسادات، ولو ضربة حظ، أصابتك يوما وأصبحت مهما في مصر فإن هؤلاء الناس، أنفسهم سيرتدون وجها ثالثا لك، وسيكتشفون عندئذ كم ساهم «برعى السعدني» جدك في حضارة مصر الحديثة، ولأنني صديقك سيكتشفون أيضا كم ساهمت «بهانة الحجاوي» يرحمها الله مع برعي السعدني جدك، في صد الغزو الصليبي عن مصر»!!.
ضد الملك
وفي حوار لنا مع سوزان زكريا الحجاوي تحدثت ابنته الكبرى ..وتوقف الحوار حين سالت الدموع من خديها بغزارة فقد قالت: لم أعرف قيمة أبي إلا عندما كبرت .. لكنني أتذكر أن أساتذتي في المرحلة الابتدائية كانوا يعرفونني بأنني ابنة زكريا الحجاوي، وحلمت بأن أكون صحفية، وأحسست بالموهبة تنمو داخلي لكن والدي لم يشجعنى على ذلك لأن كل واحد يعرف صعوبة المجال الذي يعمل فيه ومتاعبه، وكان يقول لي إن الصحفية الناجحة تنجح على حساب بيتها وأولادها وقال لى أنا أعلمك لكي تكوني مثقفة وتحسنين تربية أولادك لذا تخرجت في كلية التجارة وحصلت على دبلوم من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، وأذكر أصعب المواقف التي مر بها والدي عندما صدرت الأعداد الأولى من جريدة الجمهورية والتى قام بإعدادها والدي بتكليف من أنور السادات، وفوجئ بعد صدورها بخطاب إقالته، ولم يعرف السبب، لكنه عرف بعد ذلك أن هناك شخصا بالجريدة كان من المخابرات وله علاقة بجمال عبد الناصر، وقام بنقل كلام خاطئ عن والدي من أنه ليس معجبا بسياسة عبد الناصر وأن تجربته ليس بها ديمقراطية حقيقية، وأن الثورة حادت عن الخطط التي قامت من أجلها، رغم أن والدي كان وطنيا منذ بداياته، منذ دراسته في مدرسة الفنون والصنايع الملكية كلية هندسة عين شمس حاليا، حيث كان زعيما للطلبة الوطنيين وكان من دفعته محمود ذو الفقار.. وأذكر أنه حكى لي عن المظاهرة التي قام بها وذو الفقار داخل المدرسة وجاء البوليس وحاصر المكان فعمل والدي ومحمود ذو الفقار تمثيلية حيث أعلنا في ميكرفون المدرسة أن سور المدرسة مكهرب ومن يقترب منه سوف تصعقه الكهرباء.. وتقدم محمود ذو الفقار من السور ومثل أن الكهرباء صعقته وارتمى على الأرض وبالفعل ابتعد البوليس عن السور.
وعن سر تسمية أولاد الحجاوي قالت سوزان أسماني سوزان لأنه كان يقرأ حياة شكسبير، ووجد أن شكسبير له ابنة واحدة تدعى سوزان، وكانت والدتي في حالة وضع فأسماني سوزان.. أسامة أسماه إعجابا بأسامة بن زيد، وحسنات أسماها كذلك قائلا : علشان أحط إيدي على كتفها يوم القيامة وأدخل الجنة، أما نعمة فأسماها كذلك لأن الدكتورة التي أجرت لها عملية الولادة كانت متوقعة ولدا، فإذا بها بنت وقالت لوالدي بحزن فأسماها نعمة من عند ربنا.. ووالدتي كانت متزوجة من عمي قبل والدي، وكانت قد أنجبت فوزية وعزت وسميرة وسهير وكان والدي طيلة عمره شهما وفارسا فقد ترك زوجته ليتزوج أمي وعن سر زواجه من خضرة محمد خضر أضافت سوزان: تزوجها سنتين وكانت والدتي موجودة، وكنت طالبة بالجامعة وسألته عن هذا الزواج فقال: لما تكبري سوف تعرفين، لقد طلقت من زوجها وكانت معي ليل ونهار في الموالد، ولدي بنات ولا أريد أن يتقول على أحد فتزوجتها ولو كنت أريد الزواج للزواج لتزوجت فتاة جميلة، وقد أخذت خضرة الشهرة والمجد من والدي، ورغم زواجها عشر مرات بعد والدي إلا أنها عندما كانت تتحدث إلى الصحافة كانت تقول كنت متزوجة من زكريا الحجاوى.. وكلما أحن إلى أبي وأريد البكاء فإني أعود لقراءة مقال رجاء النقاش عنه «لماذا يا أبي تموت وحيدا غريب الدار» أما نعمة زكريا الحجاوي فتقول: زكريا الحجاوي هو أطيب وأحن أب في هذا العالم، كان صديقا قبل أن يكون أبا .. أبناؤه هم محور حياته عاش لنا طوال حياته رغم أنه لم يكن يملك وقته، ومع ذلك كان يستطيع أن يعطينا حب العمر كله في اللحظات القليلة التي يقضيها معنا.. أحببناه وعشقناه ولم نر في هذه الحياة كلها من يستطيع أن يضاهيه في عيوننا.
وقد كان لى حظ الاقتراب من أبي بحكم وجودي معه في قطر قبل وفاته مباشرة والتى مكثنا بها نحو ثلاث سنوات.. كم كنت فخورة بأننى ابنة لهذا الرجل العظيم، ومن أكثر الأشياء التي تحزننى أن انتاجه الأدبي لم يدون كله بل أن معظمه شفاهى .. خاصة أن موهبته كانت في تبسيط المفاهيم وتوصيلها للعامة.. ويتجلى ذلك في محاضراته الثقافية في ليالى رمضان بالحسين.
أتذكر أمسياتنا في سنواته الأخيرة .. فكان يحلو له أن يتذكر سنوات دراسته في مدرسة الفنون والصنايع العليا وكفاحه مع زملائه ضد الملك فقد قام والدي بوضع بطانية بدلا من علم مصر وخطب في زملائه قائلا إن الشعب المصري في حاجة إلى بطاطين أكثر من حاجته إلى زعماء سياسيين وصدر قرار من الملك بتحديد إقامته في بلده المطرية دقهلية..
ينشر بترتيب مع وكالة الأهرام للصحافة
لماذا يا أبي تموت وحيداً.. غريب الدار
رجاء النقاش
كنت قادما من قريتي، خائفا من المدينة الكبيرة، ولم يكن معي .. في مواجهة الخوف .. سوى ما قرأته من كتب في تلك القرية البعيدة.. وفى الأيام الأولى التي عشتها في القاهرة وطلبت من صديق كان قد سبقنى إلى المدينة أن يأخذني إلى زكريا الحجاوي وأخذني الصديق إلى زكريا ذات ليلة من ليالي عام 1951، ودخلت عليه حجرته المزدحمة بالناس والمحررين في جريدة المصري.. وكنت في منتهى الخجل والارتباك، ولكن زكريا الحجاوي انتشلني، وتجاهل الزحام الذي حوله وأخذ يحدثنى بدفء وحرارة.
من يومها وأنا أعرفه وأناديه : يا أبي!
كان أبي.. كلما واجهتني مشكلة في الحياة طلبته فوجدته معي.
كلما نزلت من عيني دمعة مسحها!
كلما ظهرت في طريقي صخرة حمل فأسه وحطم الصخرة!
وعندما تبدو الدنيا ناعمة ومريحة وراضية.. كان من عادته أن يبتعد ويختفي عن الأنظار..
كنت أسكن في حارة «مهدي» الصغيرة الضيقة في شبرا.. ولم يكن زكريا الحجاوي يعرف عنوان بيتي ولكنه كان يعرف اسم الشارع . وكنا في أواخر سنة 1953 وكان يعرف أنني أعاني مع أسرتي من محنة صعبة وكان الحل الوحيد هو أن أترك الجامعة، وألا استكمل تعليمي، وأن أبحث عن أي عمل أخرج به أنا وعائلتي من المحنة!
ذات صباح فوجئت بزكريا الحجاوي في بيتي سألته كيف وصلت إلى البيت يا ابي، قال انني أعرف اسم الشارع الذي تسكن فيه جئت إلى الشارع وطرقت كل الأبواب .. وسألت في كل «الشقق» عنك حتى عثرت عليك أخيرا.. أنني منذ ساعات ابحث عن شقتك.
لماذا تعبت يا أبي كل هذا التعب في البحث؟
عندي لك خبر سعيد.. لقد عرضت مشكلتك على انور السادات المسئول عن جريدة الجمهورية، وقلت له أنك طالب جامعي مجتهد، وأنك مهدد بأن تتوقف عن تعليمك بسبب ظروفك فقرر تعيينك في أرشيف جريدة الجمهورية بعشرة جنيهات في الشهر وعليك أن تبدأ العمل منذ اليوم، وقبل صدور الجريدة، وسيكون العمل في المساء فلن تتعطل عن دراستك.
وكان هذا القرار طوق النجاة لي ولعائلتي في وقت كانت النجاة فيه صعبة بل ومستحيلة.
لن انسى دموع أمي في ذلك اليوم! بكت.. ودعت من قلبها لأنور السادات، ولم تكن، وهي الفلاحة البسيطة تعرف عن أنور السادات شيئا إلا أنه الرجل الذي أنقذها وأنقذ ابنها وعائلتها من المحنة وقد ماتت هذه الأم سنة 1957 وقبل ان يصبح السادات رئيسا للجمهورية بثلاث عشرة سنة!
وبكت .. ودعت لزكريا الحجاوى.. الرجل الذي حمل إليها قرارا بأن تبتسم وتفتح ذارعيها للحياة..
لماذا يا أبي تموت وحيدا غريب الدار؟
من الذي كان معك عندما نقلوك إلى المستشفى؟ وماذا قلت في الدقيقة الأخيرة قبل ان تموت! وهل كنت لا تزال عاتبا وحزينا قبل أن تغلق جفنيك وترحل، ولماذا لم تحضر على قدميك لمصر قبل الرحيل؟ أو لست أنت الذي طالما أحس بالأحداث قبل ان تقع أو لست الذي كان يقرأ بقلبه صفحة الأيام ويحس بما تخفيه السطور؟ أو لست حاملا الدكتوراه من الله كما قلت أنت يوما عن سيد درويش!! لماذا يا ابي ترحل وحيدا غريب الدار؟ لماذا؟!
بالاتفاق مع وكالة الأهرام للصحافة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.