Cuba: La Faillite d'une Utopie. كوبا: إفلاس يوطوبيا. Gallimard, Paris. 1999. 296 Pages. "على الثورة ان تتجاوز البرنامج الاصلاحي الأبله. ولهذا يتعين بالضرورة ان نرفض مبدأ المردودية وان ندين الربح الفردي كيما نتوصل الى انسان جديد". هذا ما كان كتبه تشي غيفارا عام 1963. ومن أجل تحقيق يوطوبيا "الانسان الجديد" هذه تجذرت الثورة الكوبية على نفسها وصارت شيوعية أكثر من الشيوعيين وتطرفت في التسيير الايديولوجي للاقتصاد اكثر مما تطرف الاتحاد السوفياتي نفسه. فبعد الاصلاح الزراعي الأول الذي كان صادر أراضي كبار الملاك، صدر في 1963 قانون ثانٍ للاصلاح الزراعي قضى بتدويل الأراضي التي تزيد مساحتها على 65 هكتاراً، وأرغم 180 ألفاً من صغار الملاك الباقين على بيع انتاجهم للدولة. وفي 1965 شُكلت "وحدات عسكرية لمساعدة الانتاج" لتكون معسكرات عمل لإعادة تربية "الهامشيين" "الكسالى" وسائر "الطفيليات الاجتماعية"، وكان المقصود ذوي الرتب من رجال الدين والأساقفة ومن "الجنسيين المثليين" المتهمين بالميل الى "الشذوذ" والمعارضة معاً. وأدى الهجوم الايديولوجي في 1968 الى إلغاء آخر مظاهر الاقتصاد الحر، فصودرت المخازن الصغيرة ومكاتب الخدمات ومنعت تجارة الباعة الجوالين وأممت ورشات الصناعة اليدوية. وفي 1970 اطلق شعار "الزفرا الكبرى" التي كانت بمثابة المعادل الكوبي ل "القفزة الصينية الكبرى الى الأمام". لكن في الوقت الذي فشلت فيه الزفرا الكبرى في تحقيق هدفها المعلن في رفع محصول قصب السكر الى 10 ملايين طن، أدت الى شلل شبه تام لباقي الاقتصاد. ومن هنا اتجهت القيادة الكاستروية الى عسكرة الانتاج بإصدارها عام 1971 "قانون الكسل" الذي استهدف "المتبطلين" وتأدى الى ملاحقة أكثر من 50 ألف شخص بتهمة الاستنكاف عن العمل. لكن فشل جميع هذه التدابير الإكراهية أجبر بدوره القيادة الكوبية على اعادة النظر في سياستها اليسارية المتطرفة، وعلى محاولة الاقتراب من النموذج السوفياتي الذي كان مال في حينه الى فتح هامش لاقتصاد السوق في اطار النظام الجماعي العام. وعلى هذا النحو أبيحت "الاسواق الفلاحية الحرة" وسمح لفارق الاجور ان يتضاعف ليبلغ 6 الى 1 بعد ان كان محدوداً ب3 الى 1. وقد أدت هذه التدابير بطبيعة الحال الى اغتناء فئة من السكان، لا سيما في عداد صغار الفلاحين الذين أُذن لهم ببيع جزء من نتاجهم في الاسواق الحرة. ومن هنا كان المنعطف والإرتداد، ابتداء من 1986، نحو اليوطوبيا اليساروية للستينات. فقد وضع الحزب الشيوعي الكوبي برنامجاً "لتصحيح الأخطاء" ولتدارك الاغتناء المفرط لبعض شرائح السكان المتهمين باختلاس انتاج الدولة. فمنعت من جديد الاسواق الفلاحية الحرة والتجارة الصغيرة والصناعة اليدوية. ووجهت اصابع الاتهام بوجه خاص الى "الوسطاء"، وراحت اجهزة اعلام الحزب والدولة تتغنى من جديد ب"المبادئ الاخلاقية للانسان الجديد". لكن هذه الحملة الدوغمائية لم تتأد في محصلة الحساب الا الى تنشيط "السوق السوداء"، والى تعاظم الفساد في أوساط المسؤولين الذين صاروا يتموّنون من مستودعات السفارات والبعثات الديبلوماسية الشرقية التي كانت تغص بشتى أنواع البضائع المعفاة من الرسوم الجمركية. والواقع ان الاقتصاد الكوبي كان غدا بأسره، في ظل الحصار الاميركي، مرتهناً لاقتصاد وإرادة الأخ الأكبر السوفياتي. فمقابل بضعة ملايين من أطنان السكر، كان الاتحاد السوفياتي يمد الجزيرة المحاصرة بحاجتها من النفط واللحوم والحبوب والزبدة لا بل بما فوق حاجتها، اذا أخذنا بعين الاعتبار ان كوبا كانت تعاود، من طرف خفي، تصدير 30 في المئة مما تتلقاه من نفط وسلع غذائية. وفي 1989، وهو العام السابق مباشرة لتفكك الامبراطورية السوفياتية، كانت مساعدات الاتحاد السوفياتي وبلدان الكتلة الشرقية للجزيرة المحاصرة تقدر بنحو 30 في المئة من ناتجها القومي، اي ما يعادل خمسة مليارات دولار. ومن هنا كانت الهزة العنيفة التي ضربت الاقتصاد الكوبي على اثر انهيار النظام السوفياتي في مطلع التسعينات. ففي مدة أربعة أعوام بين 1990 و1994، انهارت المبادلات الاقتصادية الكوبية انهياراً عمودياً: فقد تراجعت الصادرات من 5.4 الى 1.1 مليار دولار، والواردات من 8.1 الى 2.1 مليار دولار في السنة. وبعد ان كانت كوبا تستورد 7 أطنان من النفط بالمقايضة مع طن واحد من السكر، أمست مضطرة ابتداء من 1991 الى ان تدفع وارداتها منه بالدولارات القابلة للتحويل، مما رفع كلفته الحقيقية الى اكثر من عشرة أضعاف. وعلى هذا النحو انقطعت امدادات كوبا من النفط والأسمدة وقطع الغيار، ومني اقتصادها باختناق حقيقي، وشُلّ 80 في المئة من طاقتها على الانتاج، وهبط نتاجها المحلي من الأرز - وهو مادة غذائية اساسية - بمعدل 75 في المئة. وامتد الشلل، بسبب فقدان الوقود، الى المواصلات العامة، واضطر الكوبيون الى ركوب الدراجات المستوردة من الصين بدل السيارات. وفي هافانا وحدها ارتفع عدد راكبي الدراجات من 60 ألف الى مليون نسمة، فغدت وكأنها بكين ثانية، ولكن كاذبة. وأمست العاصمة والمدن الكوبية الأخرى تعاني من انقطاعات طويلة الأمد في الكهرباء بسبب توقف محطات التوليد، واضطرب العمل في المستشفيات، فخر الثورة الكوبية، وأقفرت رفوف الصيدليات من الأدوية، وأمست طوابير الانتظار امام مراكز التموين شبه الخاوية تدوم بدل الساعات أياماً بكاملها. وظهرت حالات مزمنة من سوء التغذية لدى الأطفال، وانخفضت اجمالاً الحرارية الغذائية اليومية من 2854 الى 1863 سعرة حرارية. هذه الحقبة السوداء التي امتدت من 1989 الى 1993 وجدت مخرجها الى النور من باب... السياحة. فبعد ان كانت السياحة تُدمغ من قبل القيادة الكاستروية بأنها شكل منحط من الامبريالية، غدت بين عشية وضحاها الرهان الاقتصادي للحكومة الكوبية، وحلت في الدعاية الرسمية للحزب محل قصب السكر نفسه كمصدر أول للقطع النادر. وعلى هذا النحو ارتفع عدد الزوار الاجانب للجزيرة من 300 ألف عام 1990 الى 600 ألف عام 1994 والى مليون عام 1996، ثم الى مليون ونصف المليون عام 1998. وتراهن الحكومة بالنسبة الى العام 2000 على تخطي عتبة المليونين من السواح. لكن السياحة ليست محض ظاهرة فوقية. فهي تتطلب، عندما تغدو على هذا النحو المصدر الأول للناتج القومي للقطع النادر، تحولاً جذرياً في البنية الاقتصادية والثقافية للمجتمع المعني. فقد كانت تستدعي أولاً تحرير الدولار، وهذا ما تم بموجب مرسوم صادر في بحر عام 1993. ولكن هذا ايضاً ما أدى في الحال الى مضاعفة قيمته في السوق السوداء من 6 بيزو الى 120 بيزو، أي ما يعادل نصف متوسط الأجور في كوبا قرابة 220 بيزو. وفتح باب السياحة كان يقتضي ايضاً الانفتاح على الرساميل الاجنبية. وهذا ما تم ايضاً بموجب مرسوم صادر عام 1995 الغى القيود عن التوظيفات الخارجية وأباح لها ان تكون اجنبية بنسبة 100 في المئة وأطلق حرية البناء والتسويق العقاري للاجانب مقابل ضريبة 30 في المئة على الأرباح. وهكذا بدأت حركة عمران مدني منقطعة النظير في الجزيرة منذ اسقاط حكومة باتيستا عام 1959، انطلقت من حي ميرامار الفخم في العاصمة وامتدت الى شطآن فاراديرو حيث غدت المجمعات الفندقية والمطاعم الفخمة تغطي كامل المساحة على مد النظر. ولكن على هذا النحو ايضاً باتت الجزيرة تعيش باقتصادين: اقتصاد البيزو الذي لا قيمة شرائية له الا في الطوابير، أما البقية الباقية من مراكز التموين الحكومية للمواد المقننة، واقتصاد العملة الخضراء الاميركية ذات الطاقة السحرية على فتح الابواب الى تشكيلة كبيرة من المواد المستوردة سواء في السوق السوداء أم في مخازن الدولة التي صارت تبيع هي الأخرى بالدولار. لكن هنا ينهض سؤال: اذا كان السائح الاجنبي ينفق بالدولار، فأنى ذلك للمواطن الكوبي؟ والحال ان الاحصائيات الحكومية الرسمية تشير هي نفسها الى ان ما لا يقل عن 58 في المئة من المواطنين الكوبيين كان لهم مدخل الى العملة الخضراء في 1998. صحيح ان الدولة باتت هي نفسها توزع على الشغيلة في القطاعات المنتجة للقطع النادر السكر، التبغ، السياحة مكافآت تشجيعية بالدولار نحوا من أربعين دولاراً لنحو من مليون ومئة ألف من الشغيلة. لكن حجم هذه المكافآت، البالغ 45 مليون دولار، لا يعادل سوى أقل من نصف بالمئة من اجمالي الانفاق السنوي للكوبيين بالدولارات والمقدر بأكثر من ألف مليون دولار. هذا اللغز لا يجد تفسيره الا من بابين: الرشوة التي صارت هي الدستور غير المعلن لكل مجرى الحياة العامة وعلاقات المواطنين بالإدارة الحكومية، وتحويلات الكوبيين المنفيين نحو من 1.5 مليون كوبي يقيم اكثرهم في الولاياتالمتحدة الاميركية. فقد قدرت "اللجنة الاقتصادية لأميركا اللاتينية"، وهي منظمة تابعة للامم المتحدة، مبلغ ما تلقته الأسر الكوبية من المساعدات من أفرادها المنفيين أو المهاجرين بنحو من 800 مليون دولار عام 1997 مقابل 100 مليون قبل عشر سنوات. ولكن هي كبرى مفارقات الاقتصاد القومي "الاشتراكي" في كوبا: فهذا الاقتصاد، المختنق بالحصار الاميركي، بات يدين ببقائه للعملة الاميركية المتدفقة عليه من ميامي في الطرف الآخر من مضيق الخنازير، وهو المضيق نفسه الذي كان المنفيون الكوبيون قد حاولوا انطلاقاً منه غزو كوبا في 1961 بمساعدة مباشرة من وكالة المخابرات المركزية الاميركية. ترى ماذا تبقى من "يوطوبيا الانسان الجديد"؟ ان المواطنين الكوبيين، كما المراقبين الاجانب، يدركون انه لم يتبق منها شيء سوى كاسترو نفسه الذي هو "أعتق" حاكم في العالم بالسنوات الاثنتين والأربعين التي قضاها حتى الآن في سدة الحكم. لكن كاسترو نفسه قد تجاوز اليوم الثالثة والسبعين من العمر. وباستثنائه هو، ماذا يتبقى من الحلم القديم بإنسان جديد؟