الى جانب الحظر الأميركي الذي يضيق الخناق على الاقتصاد الكوبي منذ سبعة وثلاثين عاماً، جاء قانون هلمز - بورتون الذي صدقت عليه واشنطن في الثاني عشر من آذار مارس 1996 بتبعات سلبية جديدة تفاقمت على أثرها أوضاع الجزيرة الكاستروية أكثر فأكثر. ولم تتمكن الدول المعارضة لهذا القانون ككندا والمكسيك واليابان والاتحاد الأوروبي من الوقوف بوجه تنفيذه رغم التوتر الشديد الذي أثاره. وعلى العكس تمكنت واشنطن من تسجيل انتصار نسبي عندما دفعت الاتحاد الأوروبي الى سحب شكواه الى منظمة التجارة العالمية. واكتفت بالمقابل بتنازل بسيط تمثل بتجميد البند الثالث من القانون المذكور والقاضي بمحاكمة المؤسسات الاجنبية المتعاملة مع النظام الكوبي، مصرة على ابقاء البند الرابع القاضي برفض منح تأشيرات الدخول الى الولاياتالمتحدة وطرد الأجانب المتعاملين مع كوبا. بالاضافة الى ذلك بدأت الخلافات في شأن العلاقة مع كوبا تظهر داخل الصف الأوروبي خاصة بعد تقرب الحكومة الاسبانية برئاسة خوسيه - ماريا أزنار من واشنطن. ومن مفارقات الأمور، انه لم يبق أمام الحكومة الكوبية سوى فك الحظر عن الكنيسة الكاثوليكية في الداخل والتقرب من الفاتيكان من اجل كسر الحظر الأميركي وتحطيم عزلتها والانفتاح على العالم الخارجي. لذا تتهيأ العاصمة الكوبية لاستقبال قداسة البابا يوحنا بولس الثاني متخذة اجراءات من شأنها ارضاء الكنيسة وانجاح هذه الزيارة التاريخية. وتصب هذه الأخيرة في مصلحة الطرفين. فمن ناحية، تأمل الكنيسة ان تؤدي الزيارة البابوية الى كسر الطوق الذي فرضته عليها الثورة الكوبية منذ كانون الثاني يناير 1959، وان تمنحها حيز عمل أوسع في أوساط المؤمنين الكوبيين. ومن ناحية اخرى، يطمح فيديل كاسترو الى انتزاع ادانة صريحة للحظر الاقتصادي الذي تفرضه عليه الولاياتالمتحدة، عقب استقباله البابا. وبالفعل، توالت الاجراءات الايجابية التي أقدمت عليها السلطات الكوبية تمهيداً لاستقبال الحبر الأعظم ما بين الحادي والعشرين والخامس والعشرين من كانون الثاني الحالي. ومن هذه الاجراءات نشر "رسالة البابا الى الكوبيين" بمناسبة عيد الميلاد الفائت على صفحات جريدة "الغرانما" الناطقة باسم الحزب الشيوعي الكوبي ووضع وسائل النقل العامة بتصرف المؤمنين الراغبين بالقدوم الى العاصمة الكوبية لاستقبال الحبر الأعظم، وكذلك اعتبار يوم 25 كانون الأول ديسمبر الماضي، وهو عيد الميلاد، يوم عطلة رسمية كانت الحكومة الكوبية الغت عادة التعطيل والاحتفال بأعياد الميلاد منذ ثلاثين عاماً. من ناحية اخرى، استقبل الزعيم الكوبي وبشكل رسمي المونسنيور دانيال اورتيغا الذي يعتبر أعلى سلطة روحية في كوبا، بعد انقطاع وتجاهل دام اثنتي عشر عاماً. وقد وصف اللقاء الذي دام ست ساعات بپ"الايجابي" و"البناء". 1996: استعادة النمو الاقتصادي لقد عانى الاقتصاد الكوبي نكبة كبيرة بعد سقوط الشيوعية عام 1989 وتوقف المساعدات السوفياتية للجزيرة. وبعد ان راهن الكثيرون على انهيار النظام الكاستروي مثله مثل باقي أنظمة الكتلة الشرقية، تمكنت كوبا من استيعاب الأزمة واستعادة النمو بعد أقل من خمس سنوات. ففيما كان معدل الناتج القومي قد هبط بنسبة 35 في المئة بين 1989 و1993، استعادت كوبا نموها الاقتصادي منذ 1995 فوصل ناتجها المحلي الى 2.5 في المئة. وقد نجم هذا التقويم المحدود عن سلسلة التعديلات الاقتصادية التي اجرتها كوبا عام 1993 وعن الآثار الايجابية الناتجة عن بواكير التوظيفات الاجنبية في الجزيرة. كذلك، وبفضل القروض التي اقرتها بعض المصارف الأوروبية بفوائد مرتفعة، تمكنت كوبا من زيادة محصولها من قصب السكر الى 4.4 مليون طن عام 1996، أي بزيادة تفوق المليون طن عن محصول 1995 المحصول الأكثر انخفاضاً منذ ثلاثين عاماً. ومن جهة اخرى، حقق انتاج النيكل الكوبي ارتفاعاً بفضل نشاط شركة "شيريت" الكندية المتمركزة في الجزيرة كما شهدت السياحة تطوراً ملموساً مد الجزيرة بالعملات الصعبة. وعلى الأثر، حقق النظام الكوبي قفزة اقتصادية مهمة اذ بلغ معدل النمو لعام 1996 7.8 في المئة. وعقب الأزمة الديبلوماسية الحادة مع الولاياتالمتحدة التي طرأت في آب اغسطس 1994، تراجعت قيمة البيزوس الكوبي حتى بلغت 120 بيزوس للدولار الواحد، الا ان العملة المحلية ما لبثت ان استعادت قيمتها حيث تم تبادل الدولار مقابل 25 بيزوس فقط في أوائل 1996. بالاضافة الى ذلك، ساهمت السياسة النقدية التي اعتمدتها هافانا والتي ترافقت مع فرض سياسة ضريبية جديدة وكذلك تصويب الأجور، في تخفيض العجز في الميزانية وفي الاحتياطي النقدي الكوبي. ولا ريب ان بدايات التقويم الاقتصادي لم تكن محسوسة لدى غالبية المواطنين الكوبيين. الا ان أقلية منهم استطاعت تحسين أوضاعها الاجتماعية بفضل عملها في القطاع السياحي أو القطاعات المتعاملة بالدولار، أو بفضل التحويلات التي يرسلها المهاجرون الكوبيون الى عائلاتهم في الداخل تتراوح هذه التحويلات ما بين 300 و500 مليون دولار سنوياً. كذلك استفاد الفلاحون والعمال المستقلون من الاصلاحات الاقتصادية، كما ازدهر الاقتصاد التحتي والسوق السوداء وبدأت بالظهور طبقة صاعدة من الأثرياء الجدد. استياء عام يشمل الجميع في المقابل لا زالت الأغلبية الساحقة من الكوبيين تعاني ظروفاً معيشية صعبة. فبطاقات التقنين التقليدية لم تعد تكفي للحصول على غذاء كاف أو متوازن خصوصاً وان أسعار المواد الغذائية المتوافرة في الأسواق الزراعية مرتفعة للغاية، وتفوق القدرة الشرائية لعدد كبير من العائلات الفقيرة. هذا بالاضافة الى التبعات السلبية لاعادة الهيكلة الوظيفية التي بدأت ولو بشكل تدريجي وبطيء في القطاع العام. وعلى كل حال، فإن عدداً كبيراً من الموظفين يواظب البحث عن عمل بسبب ضعف مرتباتهم أو ضعف المخصصات الاجتماعية. ورغم توافر فرص العمل في القطاع الزراعي، الا ان الراغبين بترك المدينة للتوجه الى الريف ليسوا بكثرة. وعلى الصعيد الصحي، تعاني كوبا من نقص خطير في الأدوية ومن تفاقم أوضاع المعدات الصحية في المستشفيات والمصلحات العامة. ومن الغريب انها تملك أحد أهم المراكز الطبية لمعالجة أمراض العيون وكذلك العيادات والمستشفيات الخاصة بأمراض الجلد ودور النقاهة والاستشفاء ولكنها مخصصة للأثرياء من الأجانب القادرين على دفع ثمن استشفائهم بالعملة الصعبة. كذلك فإن الجزيرة تعاني من تلوث مياهها وفساد أنظمة التكرير وذلك بسبب قانون هلمز - بورتون الذي منعها منذ 1992 من استيراد 72 في المئة من حاجتها من قطع الغيار من الشركة الأميركية التي كانت توفرها لها سابقاً. وبالطبع فإن ضحايا هذه الأوضاع المتردية هم الأطفال والنساء والعجائز. وأخيراً، فإن حال البنى التحتية كالطرقات ووسائل النقل والمساكن المستمرة في التردي. وقد حال التفاوت الاجتماعي واتساع الهوة بين فقراء الجزيرة وأغنيائها، من دون استفادة السطات من استعادة النمو الاقتصادي الحاصلة. فالشرائح الاجتماعية من الأغنياء الجدد ليست مسرورة بالاصلاحات الجديدة لأنها تترافق مع ارتفاع الضرائب والمراقبة المتزايدة من جهة، وتعتبر ضيقة الحدود وغير كافية من جهة اخرى. هذا في الوقت الذي أصيب به موظفو القطاع العام الذين يشكلون القاعدة السياسية التقليدية للنظام الكاستروي بالاحباط وفقدوا الثقة بامكان تحسين أوضاعهم الاجتماعية. اشتراكية السوق وخلال المؤتمر الخامس للحزب الشيوعي الكوبي الذي عقد في تشرين الأول اكتوبر الماضي، أقر كاسترو والمكتب السياسي للحزب "التوجهات الاقتصادية الجديدة" التي كانت الحكومة الكوبية بدأت بها. كما أقيل وزير السياحة أوثماني سيانفو غوس ووزير الزراعة نيلسون توريس من عضوية المكتب السياسي بسبب "مسؤوليتهما" عن رداءة محصول قصب السكر للعام 1997. ورغم ان المؤتمر لم يتخذ أي قرار رسمي يفوق القطاع الخاص فتح شركات أو مؤسسات صغيرة أو متوسطة الحجم، الا انه أكد على ضرورة تشجيع استقلالية تلك الشركات ضمن القطاع العام وتشجيع المؤسسات الخاصة مثل المزارع وخصوصاً المطاعم "البالادار" التي ازدهرت خلال السنوات الأخيرة. كذلك أقر مبدأ اللامركزية الادارية والحرية الادارية لعدد كبير من رؤساء هذه الشركات المعينين من قبل الحكومة. وقد أعلن هؤلاء عن ارتياحهم لهذه الاجراءات، سيما وانهم كانوا يشتكون منذ أكثر من سنتين من انعدام قدرتهم على اتخاذ القرارات المستقلة في شأن ادارة الشركات ومن الاتهامات الدائمة في "الرشوة" التي تلصق بهم. وبعد تنديد كاسترو بالنظام الرأسمالي، أكد على ضرورة بناء "اشتراكية السوق" على الطريقة الكوبية. وأكد نائب رئيس الوزراء كارلوس لاج، منفذ الاصلاحات الاقتصادية منذ 1991، ان عام 1997 لن ينتهي بمعدل النمو المتوقع، أي 4 في المئة بسبب سوء المحصول الزراعي، وكذلك بسبب تبعات قانون هلمز - بورتون من سلبيات هذا القانون ان القروض التي تحصل عليها كوبا تعطى بفوائد عالية جداً بسبب "الأخطار السياسية" الناجمة عنه. الا انه من المتوقع ان يقارب النمو 2.5 في المئة. ولوح لاج بضرورة متابعة التطور الاقتصادي من دون التخلي عن الاشتراكية، لكنه اعترف بأن هذه الأخيرة عجزت حتى الآن عن تطبيق المساواة بين المواطنين. فبينما يتمتع بعض كوادر الحزب بمستوى معيشي مرتفع، يعاني الكوبيون من تدني مستوياتهم المعيشية وتخفيض الرواتب وارتفاع الأسعار. وندد أخيراً بپ"الطرق الملتوية" التي يلجأ اليها بعض الموطنين للحصول على العملة الصعبة ومنها البغاء والتسول والجنوح والمتاجرة بالمخدرات. وبالفعل، فإن المجهود الاقتصادي الذي تقوم به الحكومة الكوبية من اجل تحسين محاصيلها وزيادة صادراتها ورفع معدل الناتج القومي، يتحمله اليوم شعب ضاق ذرعاً بالمستوى المعيشي المنخفض الذي يعاني منه. وقد بدأت الضغوط التي يحث المواطنون على القيام بها من اجل رفع مستوى المردودية بالانعكاس سلباً على القاعدة الاجتماعية للنظام الكوبي. كما ان اعادة هيكلة القطاع العام وعقلنة وتنظيم الادارة الرسمية كانت وراء رفع مستوى البطالة الذي وصل، حسب الاحصاءات الرسمية الى 8 في المئة عام 1996. ويذهب بعض خبراء الاقتصاد الكوبيين الى ان ربع اليد العاملة الكوبية تعاني فعلياً من البطالة. الدفاع عن مكاسب "وهمية" "بحجة الدفاع عن مكاسب الثورة، يتوجب على الناس ان يستغنوا عنها". هكذا علّق عالم الاجتماع، باتا، على الوضع الاجتماعي في كوبا اليوم. وهو يشير الى ان "النظام الكوبي يفرض على المواطنين التضحيات المتواصلة وتحمل الحرمان والفقر من اجل الدفاع عن مكتسبات وهمية، فقدوا الأمل في الحصول عليها". ويضيف باتا انه "على رغم نجاح الحكومة باعادة توزيع الثروة القومية وقدرتها على اعادة توظيف العائد القومي في قطاعات منتجة، والنتائج الايجابية التي حصلت عليها اقتصادياً، الا ان هذا لم يعد اليوم كافياً. فمن اجل بعث النشاط الاقتصادي لا بد من تشجيع التوظيفات، وهذه الأخيرة تتطلب قروضاً متوسطة وبعيدة الأمد، الا ان الحكومة تقترض اليوم من اجل تسديد الفوائد والغالبية العظمى من المواطنين لا تستفيد من عائدات النمو الاقتصادي على الاطلاق". ويؤكد بعض خبراء الاقتصاد الكوبيين ان مركزية الدولة لا يمكن ان تضمن استمرار النمو الاقتصادي وتؤمن العمل للجميع. واذا أرادت الحكومة ان تضمن مردودية مرتفعة، فما عليها الا ان تشجع قيام المؤسسات الخاصة الصغيرة والمتوسطة الحجم، التي تضمن في الوقت نفسه فعالية عالية وتؤمن العمل للعاطلين عنه. الا ان مركزية الدولة لا تتوقف على القطاع الاقتصادي فحسب، بل تتعداه الى كافة الميادين. فكل انتقاد لسياسة الحكومة أو اقتراح لايجاد بديل عنها يعتبر ردة رجعية. وبالفعل، فقد تعرض باحثو "مركز الأبحاث حول أميركا" وهو من أهم مراكز الأبحاث المعترف بها دولياً الأعضاء في الحزب الشيوعي الكوبي، الى شتى العقوبات واتهمهم شقيق الزعيم الكوبي، راوول كاسترو خلال اجتماع اللجنة المركزية في آذار مارس 1996، بتكوين "طابور خامس" للقضاء على الثورة الكوبية. وكان هؤلاء قد أعدوا سلسلة أبحاث وحلقات دراسية تناولت ملاحظات وأفكاراً حول الاستراتيجية الاقتصادية والنظام السياسي. كما بحثوا في الدور الذي يجب ان تلعبه الدولة والمهمات التي يجب ان تلقى على عاتق القطاع الخاص، ونشروا كتباً ومقالات تضمنت "الخيارات اليسارية التي يمكن ان تشكل بديلاً عن الليبيرالية الجديدة". وقد حل مجلس ادارة المركز ونقل اعضاؤه السبعة الذين رفضوا القيام بپ"نقد ذاتي"، الى مراكز اخرى. وقد برر زعماء الحزب الشيوعي الكوبي قرارهم هذا بپ"تعارض هذه الأفكار مع مبادئ الحزب". وأعرب الاتحاد الوطني للكتاب والفنانين الكوبيين، بالاضافة الى عدد كبير من المثقفين اللاتينو - أميركيين عن استنكارهم للاتهامات والعقوبات المفروضة على أعضاء المركز في رسالة خاصة بعثوا بها الى الحزب الشيوعي الكوبي. ويفسر البعض اتهامات راوول كاسترو وقراراته "التعسفية" بمحاولة القضاء على أي معارضة واضحة للنظام الكوبي، بحجة "ان أي سجال داخلي قد يضعف الثورة ويؤدي الى انشقاقات داخل الحزب الواحد". كما ترمي العقوبات التي اتخذت بحق الباحثين الى حجب التناقضات في مضمون الخطاب الرسمي. ولا ريب ان هذا الأخير عاجز عن التوفيق بين الوفاء للنموذج الاشتراكي والواقع السوسيولوجي والاقتصادي للجزيرة خصوصاً بعد فشل النموذج السوفياتي الذي كان يحتذى به. فالتطبيع الايديولوجي لا يتلائم مع المغالاة الوطنية التي تدعو "كل القوى الاجتماعية - بما فيها الكنيسة الكاثوليكية - للاتحاد من اجل الدفاع عن الثورة والوطن". بداية التطبيع مع الكنيسة لا بد ان المعاملة التي تلقاها الكنيسة الكاثوليكية الآن، تتباين مع تلك التي خُص بها باحثو مركز الدراسات المذكور. فالزيارة التي قام بها كاسترو الى الفاتيكان ومقابلته البابا يوحنا بولس الثاني في التاسع عشر من تشرين الثاني 1996 أثمرت انفراج العلاقات بين النظام الكوبي والكنيسة. وبالفعل، سمحت الحكومة لأربعين راهباً وراهبة اجانب بالقدوم الى كوبا لتعزيز الأبرشيات الكاثوليكية في الجزيرة. كما ان معظم الأبرشيات حصلت على حق اصدار الكتب والمنشورات الخاصة بها وتوزيعها على رعاياها، وتمكنت كذلك من فتح مراكز تدريب مدنية تتم فيها مناقشة المشاكل الاجتماعية وسبل حلها على ضوء تعاليم الكنيسة. وأخيراً، أجازت الحكومة انشاء "الاتحاد الكاثوليكي للصحافة الكوبية" الذي يضم محرري مختلف المنشورات الكاثوليكية في كوبا، وتضم هذه المنشورات تأملاً حول علاقات المجتمع المدني بالدولة وتحليلاً نقدياً حول "أزمة الاشتراكية الكوبية المعاصرة". ويناهز عدد المنشورات المسيحية حالياً العشرين صحيفة أو منشورة، وهو أمر يعتبر بمثابة معجزة بالنسبة الى الموسينيور ادولفو رودريغز الذي قال خلال استقباله مدراء ورؤساء المنشورات الكاثوليكية في تشرين الثاني 1996، "نحن بصدد مشاهدة معجزة التضاعف". وأكد المونسونيور "ان معظم الأبرشيات الكوبية تمتلك الآن منشوراتها الخاصة الشهرية أو نصف الشهرية أو الفصلية، وان عدد صفحات كل منها يتراوح ما بين 20 و80 صفحة". وقد حصلت الكنيسة على حق توزيع المساعدات التي ترسلها مؤسسة كاريتاس الانسانية لرعاياها. كما تلقت مليوني كتاب تعليم ديني مرسلة من المكسيك وعشرات الأناجيل. وهي تأمل ان تساهم زيارة البابا بحصولها على عدد من المكاسب مثل التوصل الى وسائل الاعلام الرسمية وفتح المجال أمام التعليم الديني. وقد أعرب اسقف هافانا المونسونيور اورتيغا عن أمله في ان تشكل الزيارة البابوية "محطة جدية وتؤكد البعث الديني الذي تشهده كوبا اليوم"، وأضاف: "انني متأكد من ان هذه الرحلة ستعطي ثماراً غير متوقعة. وعلى كل حال فإني آمل ان تؤدي الى نهضة بعض القيم التي تسمح بالتوصل الى الحقيقة التي يحملها البابا الى كوبا". أميركا والجالية الكوبية وفي الوقت الذي يأمل فيه كاسترو قطف ثمار زيارة الحبر الأعظم بانتزاعه تنديداً واضحاً بالحظر الأميركي والانفتاح على العالم الخارجي، أعلن ممثلو الجالية الكوبية في ولاية فلوريدا عن مقاطعتهم للزيارة خشية ان تؤدي الى تعزيز مواقع الزعيم الكوبي وتضفي شرعية دولية على نظامه. ويخشى هؤلاء ان يستمر الرئيس الأميركي بيل كلينتون باعتماد ما يسمونه "لهجة متساهلة" معه. وبالفعل، فقد سبق للرئيس الأميركي ان وصف فيديل كاسترو بپ"الرجل الذكي جداً"، وذلك خلال زيارته الى الارجنتين في تشرين الأول الماضي، وكذلك خلال مؤتمر صحافي عقده في واشنطن لاحقاً. ويخشى أعضاء الجالية الكوبية في مدينة ميامي ان يكون في نية الولاياتالمتحدة الانفتاح تدريجاً على كوبا خصوصاً وان واشنطن اتخذت خلال العام الماضي بعض الاجراءات التي فسرها البعض بأنها محاولة لمد الخيوط باتجاه النظام الكوبي. ففي الثالث عشر من شباط فبراير الماضي أعلنت الولاياتالمتحدة موافقتها على فتح عشرة مكاتب في كوبا لمؤسسات صحافية أو ثقافية أميركية وهي الپCNN وCBS وABS وكذلك وكالات الاسوشيتد برس والدو جونز وصحيفة "الميامي هيرالد" و"الشيكاغو تريبيون" و"شيكاغو سان تايمز" ومعهد الدراسات الدولية المتطورة التابع لجامعة جون هوبكنز وأخيراً شبكة التلفزيون الاسبانية يونيفيزن المتمركزة في لوس انجليس سيتي. وكان كلينتون برر هذا القرار منذ تشرين الأول اكتوبر بضرورة توثيق الروابط المباشرة بين الولاياتالمتحدة والشعب الكوبي. ولا ريب ان واشنطن تأمل من خلال هذه المؤسسات، بنشر "القيم الديموقراطية" بين مواطنين خاضعين لسلطة "القائد الأعلى" الكوبي. ويشكل هذا القرار الوجه الآخر، الايجابي، لقانون هلمز - بورتون الذي مكّن من تشديد الحظر الأميركي منذ 1996. كذلك مكّن هذا القرار السلطات الأميركية من ايجاد حل مقبول لطلب كانت تقدمت به شركة الپCNN الأميركية في تشرين الثاني 1996 بتفويضها فتح مكاتب لها في هافانا وذلك بعد حصولها على الضوء الأخضر من كاسترو. وكانت صحيفة "الميامي هيرالد" الصادرة في فلوريدا طالبت بالتفويض نفسه مدعومة في ذلك بجاليتها الأميركية. وقد أعرب ممثلو الجالية عن استيائهم من حصول الپCNN وحدها على تفويض رسمي خصوصاً وانهم يتهمونها بالانحياز الى الزعيم الكوبي الذي كانت المحطة اجرت حديثاً معه عام 1995. وأخيراً، فإن الولاياتالمتحدة كانت على علم مسبق بأن قراراً كهذا من شأنه احراج السلطات الكوبية التي كانت تضيق الخناق على الصحافيين المستقلين في الجزيرة وان كاسترو لن يرضى بوجود وسائل اعلامية خارجة عن رقابته الا على مضض. وعلى كل حال فإن أي فيتو قد يضعه سيعطي عنه صورة الديكتاتور المتسلط التي يود التخلص منها. من جهة اخرى، تزايدت الشائعات حول انفتاح اميركي محتمل في نهاية تشرين الثاني الماضي فقد توجه الى كوبا أحد كبار مسؤولي وكالة. الاستخبارات الأميركية الپCIA والذي كان لوقت سابق مكلفاً بالقضايا الكوبية لدى البيت الأبيض. واستقبله، بصفة رسمية، رئيس شعبة أميركا الشمالية في وزارة الخارجية الكوبية. وعلى رغم ان الاشارات المرسلة من الجانبين لا تعتبر انفتاحاً حقيقياً، الا انها تستقبل بحفاوة من قبل المسؤولين الكوبيين الذين أعلنوا عن ارتياحهم لتغيير اللهجة الأميركية. وكان ريكاردو الأركون رئيس مجلس النواب الكوبي أعرب عن "ارتياحه لهذا التبدل مهما كان بسيطاً"، خلال زيارته الأخيرة الى فرنسا لحضور مؤتمر الحزب الاشتراكي الفرنسي العام الماضي. من جهة أخرى، بدأ بعض أرباب العمل الاميركيون يبدون انزعاجهم ازاء الابقاء على الحظر الاميركي، الذي يهدد باقصائهم لمدة طويلة عن الاسواق الكوبية. وقد زاد من سخطهم على الادارة الاميركية تحركات المستثمرين وارباب العمل الاوروبيين الذي يكررون زيارتهم الى الجزيرة ويضاعفون توظيفاتهم فيها. ففي نيسان ابريل الماضي زار كوبا - وللمرة الثانية - عدد من المستثمرين ورجال الاعمال الفرنسيين وعلى رأسهم جان - بيار ديغورج، نائب رئيس المجلس الوطني لأرباب العمل. ويمثل هؤلاء ثلاثين مؤسسة فرنسية منها بيجو والكاتيل ورينو، ويبحثون عن فرص ملائمة للتوظيف والاستثمار في الجزيرة. وقد اكد ديغورج ان "49 بالمئة من اعضاء الوفد، يتألف من الشركات التي سبق ان وظفت في كوبا منذ 1994. وان الاجراءات الكوبية لتحرير الاقتصاد تشجع رجال الاعمال الاوروبيين، سيما وانها تتواصل وتتقدم على الرغم من بطئها". انتخابات تشريعية مسبقة من جهة اخرى، أجرت الحكومة الكوبية انتخابات تشريعية مسبقة في الحادي عشر من كانون الثاني الجاري. وذهب المراقبون الى ان الهدف من تسبيق موعد الانتخابات هو اعطاء شرعية اكبر للنظام الكوبي. وعلى الرغم من غياب أية معارضة تذكر، يأمل الحزب الشيوعي الكوبي في ان تمنح الزيارة البابوية نوعاً من الاعتراف بشرعية النظام وبتبيض صفحته على الساحة الدولية. وكان كاسترو قد اكد في خطابه امام الجمعية العمومية الكوبية في الخامس عشر من كانون الاول الماضي ان "الكنيسة الكوبية تتمتع بحرية قلما حصلت عليها في دول شيوعية اخرى". وبالفعل، فقد اجاب الكاردينال جايم اورتيغا، رئيس اساقفة هافانا ان "الكنيسة الكوبية لم تعامل بنفس الطريقة التي عوملت بها الكنيسة الارثوذكسية في روسيا او في دول الكتلة الشرقية السابقة". وأضاف اورتيغا، خلال مقابلة اجرتها معه صحيفة الموند الفرنسية في الرابع والعشرين من الشهر الماضي "ان الثورة الكوبية لم تقم بأية اعمال عنف ضد الكنيسة او رجال الكهنوت اوحتى اعضاء الرعية. وعلى عكس كنائس اوروبا الشرقية، نحن نتمتع بحرية تعيين الاساقفة والرهبان. ولا زال البابا نفسه يذكر ان مسألة تعيينه اسقفاً مساعداً لمدينة كراكوفيا ظلت معلقة بانتظار تصديق السلطات البولندية عليها. هذا، بينما لم يخضع تعييني انا كأسقف لكوبا لأية مساومات او مفاوضات مع النظام الكوبي". ومن الجدير بالذكر ان البابا والكنيسة الكاثوليكية لا يرغبان باعادة التجربة البولندية او تجربة دول الكتلة الشرقية السابقة، حيث ترافق سقوط النظام الشيوعي مع انتشار الفساد والرشوة والمخدرات والتفكك العائلي والاخلاقي. فقد أعلن البابا مراراً أسفه لهذا التطور السلبي وندد بالنموذج الليبرالي المتطرف. كذلك أعلن المونسنيور توران وزير خارجية الفاتيكان ان "الحبر الاعظم يرغب في فتح حوار بناء مع النظام الكوبي وارساء الثقة بينه وبين الكنيسة واتاحة الفرصة امام هذه الاخيرة لممارسة عملها بحرية والسماح للمواطنين الكوبيين بممارسة الحريات الدينية". وبالفعل، لا تأمل الكنيسة الكوبية بقلب الاوضاع الكوبية طالما بقي "الزعيم الاعلى" حياً. وهي على كل حال، تخشى وقوع كوبا في حالة من الفوضى والبلبلة والعنف في حال عودة المهاجرين الكوبيين وتعمل على تأطير الاستياء الشعبي مثلها مثل بعض زعماء الحزب الشيوعي الكوبي انفسهم. فقد اوردت مجلة "كوبا سوسياليستا" التابعة للجنة المركزية للحزب في عددها الاول العام الماضي، "ان الدين يمكن ان يشكل بديلاً مقبولاً. فالمجتمع الثوري هو عمل جماعي يجمع النوايا الطيبة ويعبر عنها".