ثمة نظرية "ساذجة" و"لا تاريخية" تتسيد العقل العربي عموماً، والعقل "الثقافي" العربي خصوصاً، تفترض أن وحدة الثقافة هي، بصورة طبيعية وتلقائية، من وحدة اللغة. لا يمكن الانكار أن هذه النظرية تعتمد على "مقدمة" صحيحة، مؤداها: إن اللغة وسيلة يعبر بها الإنسان عن أفكاره، وحتى التفكير الصامت الذي يدور داخل رأس من يقوم بالتفكير يأتي في شكل جمل وعبارات وألفاظ، كما أن ألفاظ اللغة تكون جوفاء وبلا معنى إلا إذا عبرت عن فكر معين، لذلك يقال: "إن اللغة هي الفكر المنطوق، والفكر هو اللغة غير المنطوقة". على رغم الاعتماد على هذه "المقدمة"، التي تربط بين اللغة والفكر، والثقافة بالتالي، إلا أن النتيجة التي تقدمها هذه النظرية تحتاج، في اعتقادنا، إلى ملاحظة وتأمل، بل إلى اختبار لمدى صحتها، خصوصاً في ما يتعلق ب "الثقافة العربية"، إنها تلك التي تتمحور حول مقولة: "إن وحدة الثقافة كانت وما زالت من أهم المميزات التي تطبع المجتمع العربي، إذ، تترتب على وحدة اللغة، وحدة الثقافة وبالتالي مختلف الفنون العربية، وهذا وضع طبيعي، فما دامت اللغة واحدة، فإن الثقافة التي تحملها تكون موحدة كذلك". وهي النتيجة التي يمكن الاستدلال عليها من كثير من النصوص التي قدمها العقل العربي في هذا الشأن انظر، كمثال، الكتاب الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية، في بيروت: "القومية العربية والثقافة، 1995". وكما أن الأبحاث تؤكد الدور الكبير للغة، بوصفها شكلاً لوجود الفكر، وإطاراً للتفكير. وعلى رغم أن اللغة العربية تسود بلا منازع تقريباً في "البلدان - الأقطار" العربية كافة، فإن من ينعم النظر في مظاهر الحياة الثقافية العربية، التي يفترض فيها أن تكون "موحدة" بحكم "وحدة" اللغة، سيلاحظ، أن "القطر" بما هو كذلك، يعادل دوره أكثر فأكثر دور اللغة كإطار للتفكير، وحتى كشكل لوجود الفكر، إلى درجة يمكن معها القول: إن "القِطْرَ" "طبع" شخصية الإنسان العربي بطابعه، حتى طغت الشخصية القِطْرية على الشخصية القومية. نقول طغت عليها، ولا نقول سلبتها. فكيف حدث أن برزت الشخصية القطرية وتضخمت، بحيث حجبت الشخصية القومية؟! كيف نمت الأولى على حساب الأخيرة؟ في محاولة الاقتراب من الإجابة، علينا أن نتذكر "جدلية: القطري - القومي"، في تاريخ العرب الحديث، تلك التي يمكن أن نتناولها من خلال النقطتين التاليتين: أولاً، في ما يتعلق ب "أثر الحدود السياسية في التعامل القطري"، إذ أن الحدود تعني مجتمعا ذا نضال مشترك ضد العدو الخارجي، ونضالاً مشتركاً ضد الطبيعة، وهذان النضالان يعنيان طريقة حياة ذاك المجتمع، ويحددان تاريخه واهتماماته، ما يجعل الحدود السياسية تبلور شخصية الفرد والمجتمع داخلها. وهذا ما حدث تماماً على الصعيد العربي. فمن جهة، ساهم النضال المشترك ضد المستعمر في خلق تاريخ لكل قطر عربي، يختلف عن تاريخ بقية الأقطار العربية، في تفصيلاته، بل إن النضال المشترك في أي قطر، ولّد في نفوس ابنائه إحساساً عملياً بالمصير المشترك بينهم، عنيفاً إلى حد لا يمكن مقارنته بالإحساس بالمصير المشترك النظري بينهم وبين العرب أجمعين. ومن جهة أخرى، لعبت، وما تزال، الطريقة المشتركة لتحصيل "العيش" ضمن حدود سياسية واحدة، دوراً مهماً في بلورة الشخصية القطرية، وذلك في غياب "الدولة القومية". إن المثال "العيني" الذي تمكن الإشارة إليه هنا، وبحسب ما جاء في دراسة قدمها محيي الدين صبحي منذ أكثر من ربع قرن، في مجلة "الآداب"، حول: "نحو فكر قومي ثوري، 1970"، هو: "إن بلداً كلبنان منفتحاً على العالم بحكم أنه ممر بحري - جوي للتجارة العالمية، يؤكد في ذهن أبنائه قيمة الانفتاح اكثر مما يخطر في بال الصعيدي المصري الذي يرى خلاصه في السد العالي مثلاً، أو البدوي الذي يعلق آماله على حفر الآبار أكثر من التجارة العالمية". وأياً كان الأمر، فمن المؤكد أن وسائل الدفاع عن المجتمع ووسائل تحصيل الرزق فيه، تحددان شخصية المجتمع، أو أهدافه، وهذان عنصران ضمن العناصر الأساسية للثقافة التي تنبثق عن المجتمع. ثانياً، في ما يختص بپ"أثر التعامل القطري مع الحدود السياسية"، إذ، كما ساهم إنشاء الحدود السياسية أي: التجزئة في نشوء القطرية، فإن القطرية عكفت بدورها عن الحدود بين الأقطار العربية، وهذا لا يحتاج إلى تعليق. بيد أن ما يحتاج إلى تعليق، فعلاً، هو العوامل التي تساعد على ، أو قل: تساهم في تكوّن مدارات ثقافية قطرية "متعددة" حتى في ظل لغة قومية "واحدة"، وهي العوامل التي يأتي في مقدمها كل من اللهجة القطرية، والدولة القطرية نفسها وما تمارسه من رقابة على الانتاج الثقافي. فمن ناحية، لا نجاوز الحقيقة إذا قلنا إن الثقافة العربية أصابها، في ظل الدول القطرية، ما أصاب الاقتصاد، خصوصاً إذا ما لاحظنا أن أكبر عائق في وجه انتشار التبادل الثقافي العربي عموماً هو عائق الرقابة والقيود البيروقراطية المالية. والحال، وبحسب ما يشير جورج طرابيشي في كتابه "الدولة القطرية والنظرية القومية، 1982"، أن "المصلحة التي تخدمها الرقابة والقيود المالية هي "مصلحة" قطرية أولاً وأخيراً، وعلى مذبح هذه المصلحة القطرية يجري نحر وحدة الثقافة العربية، المفترض أنها مقوم أساسي من مقومات الوجود القومي للأمة العربية". والحق، إن دور الرقابة أخطر بكثير من كل ما يمكن أن يقال عنه. ولعلنا نقترب من استيعاب خطورته، لو قلنا إن للرقابة القطرية على صعيد الثقافة ما للحماية الجمركية على صعيد الاقتصاد من فاعلية. فالحماية الجمركية لا تحمي الاقتصاد القطري بقدر ما تخلقه، وكذلك فإن الرقابة لا تحمي الثقافة القطرية بقدر ما تخلقها. يكفي أن نشير، في هذا المجال، إلى أنه: إذا كانت الكلمة "المسموعة - المنظورة" تلعب في حياة الإنسان المعاصر دوراً أخطر بما لا يقاس من ذاك الذي تلعبه الكلمة "المقروءة"، فإن الإنسان العربي الذي يقضي ثلاث ساعات على الأقل من حياته اليومية مشدوداً إلى شاشة التلفزيون القطري الذي تلعب الرقابة فيه دوراً حاسماً، لا يعود يشعر - وهذا أقل ما يقال - بأن القطر الذي ينتمي إليه هو "كيان مصطنع" ولا أن ولاءه له، من ثم، هو ولاء اعتباطي. من ناحية أخرى، ومن دون أن نزعم أن استخدام اللهجة العامية شر مطلق، لا نستطيع أن نتجاهل دورها "السلبي" في التبادل، والتفاعل، الثقافي العربي وفي تكوين النفسية المشتركة، فليس من قبيل المصادفة، كمثال، أن تزداد العزلة القطرية للمسرح العربي، طردياً، مع اعتماد العامية "لغة" لهذا المسرح. وما يقال عن المسرح، يمكن أن يقال - مع التشديد - على السينما التي تعتمد العامية بلا منازع، تقريبا. هنا، لا يسعنا إلا أن نعود إلى ملاحظة سامي السلاموني عن الكيفية التي اصبحت عليها حال اللهجات القطرية. ففي حديثه، الذي نشر في مجلة "الآداب" منذ ربع قرن تقريبا، عن "السينما العربية بين المحلية والقومية، 1972"، يحكي عن أمثلة عينية، فيقول: "... ولا أنسى مدى ألمي حينما شاهدت في القاهرة الفيلم الجزائري العظيم "معركة الجزائر" وعلى الشاشة ترجمة بالعربية الفصحى للهجة الجزائرية التي يدور بها حوار الفيلم، بل لقد كانت محنة اللغة اللهجة أكثر إيلاماً حين شاهدنا فيلم فيروز "بياع الخواتم" الذي أخرجه المصري يوسف شاهين في بيروت، وعلى الشاشة أيضا ترجمة بالفصحى، ثم عرض فيلم فيروز الآخر "سفر برلك" في القاهرة في العام الماضي، على رغم تعاطف جمهور المشاهدين المصريين مع الفيلم، كانت لهجته اللبنانية عائقا أمام فهمهم له مع غياب الترجمة". في هذا السياق، لا يمكن الاطمئنان إلى مسيرة موضوعية، أكيدة، للثقافة العربية الواحدة غير القابلة للانقسام: فهذه المسيرة، ليست تلقائية، وليست محكومة بعامل وحدة اللغة من دون سواه، بل هي مصنوعة، وصناعتها هي الكيانات القطرية، "في الواقع العربي"، بقوة مادية، سياسية واقتصادية واجتماعية، إلى درجة تدفعنا إلى القول انه من الممكن فعلاً تصور ثقافات قطرية متعددة، حتى في ظل لغة قومية واحدة. والواجب تثبيته، هنا، أن وحدة الثقافة ليست نتيجة حتمية، وميكانيكية، لوحدة اللغة. فاللغة لها دور كبير في توحيد الثقافة، لكن عدم التطابق بين الحدود السياسية والحدود اللغوية، في زمن تضخم الدولة القطرية العربية، وتعاظم امتصاصها لكل ما عداها، يشل فاعلية ذلك الدور إلى حد كبير. الثقافة، كاللغة، ليست عاملاً فوق التاريخ. إنها تتكون، تتوحد أو تتمزق، في التاريخ. والتاريخ - "العربي" - الذي يتكون الآن "تاريخ قطري" بكل ما في هذا التعبير من معنى. وفي ظل هذا التاريخ، وفي زمن سيادة "المرئيات - المسموعات"، "القطريات"، تظهر إلى حيز الوجود مدارات ثقافية قطرية، محكومة بميل متعاظم الى الانغلاق، في توجهاتها تجاه بعضها البعض، ربما أكثر من توجاهاتها تجاه "العالم الخارجي". * كاتب مصري.