اذا كان السؤال النهضوي الذي ردّده بكيفيات مختلفة محمد عبده ورشيد رضا والكواكبي وشكيب ارسلان من جيل النهضويين الاول هو: ما السبيل الى الترقّي والتمدّن، فان الحركة القومية التي انطلقت في الثلاثينات من هذا القرن اختصرت جوابها على السؤال ذاك، في أطروحة الوحدة العربية. حمل الجواب على السؤال النهضوي عملياً ثلاثة قوى تنتسب الى التيار القومي العربي هو حزب البعث بمركزه القومي وفروعه القطرية والناصرية برصيدها المصري وتداعياتها العربية، ثم حركة القوميين العرب بمركزها الفلسطيني وامتداداتها العربية. وكان الجامع بين هذه القوى التزامها بالنضال من اجل الوحدة العربية، والتحرر الوطني في مواجهة التجزئة، ومواجهة اسرائيل. كما كان الجامع بينها العمل بموجب مقتضيات التاريخ والجغرافية، واللغة والاشتراك في الدين الواحد احياناً، لدفع الوحدة والتحرر نحو تحقيق غاياتها في امة واحدة ذات رسالة خالدة. تمكّنت القوى المنتسبة الى التيار القومي العربي، والداعية الى الوحدة العربية والتحرر بعد سنوات من نشوئها من تحقيق بعض اهدافها العامة. في الاستقلال السياسي للاقطار العربية وفي الوصول الى السلطة، ومن العمل بدرجات متفاوتة ومتباينة بالفكرة العربية وبمقتضياتها العملية، سواء في الدساتير أم في المواثيق الوطنية العامة، ولكن ما حققته هذه القوى لم يتناسب مع ما فشلت فيه فقد انتهت مشاريع الوحدة الثنائية والثلاثية الى الفشل وضعفت موجة التأييد الشعبي لها في أكثر الاقطار العربية، لصالح موجات العولمة الغربية والاسلامية ومشاريع الاقلمة الشرق أوسطية. وتصدّع بنيانها الداخلي بفعل الصراعات الداخلية على السلطة، خصوصاً وان هذه الصراعات كانت تحسم العنف وبأكثر الوسائل تشدداً، وان كل طرف من هذه الاطراف المتصارعة كان يستنجد في صراعه ضد الجماعات القومية الاخرى بقوى لم تكتم عداءها الصريح لفكرة العروبة ورغبتها في القضاء عليها. يضاف الى ذلك فشلها في اجتذاب بعض القطاعات الشعبية، وبعض الجماعات الاقلوية دينياً وأثنياً، وفشلها ايضاً في فتح الحقل السياسي على التعدد والتداول أو بكلام آخر الديموقراطية ذات المحتوى الليبرالي. هذه المعطيات تدل ان فكرة العروبة بوجهيها التوحيدي والتحرري تعاني أزمة تاريخية عميقة، فهل يعني ذلك انها انتهت فعلاً ولا بدّ من دفنها كما يرى حازم صاغية في كتابه "وداع العروبة" الصادر عن دار الساقي في بيروت، 191 صفحة، 1999 أم انها تعاني من وهن وضعف شديدين؟. في الواقع شغل التساؤل حول موت العروبة وضعفها عدداً كبيراً من المفكرين والكتاب وعلماء السياسة كما شغل تصحيح اوضاع الخلل فيها عدداً لا يقل عن عدد هؤلاء، ولعلّ أهمهم الذين ينشطون من خلال مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت أو يعلمون بالتوازي معه في عدد من الاقطار العربية. حُجج الذين يرون ان العروبة اصبحت شيئاً من الماضي" ومن بينهم فؤاد عجمي في مقالته الشهيرة "نهاية القومية العربية" في مجلة "الفورن أفّيرز" كثيرة، وتتسم بكثير من الادانة، انها سياسية جداً وتعميميّة جداً الى درجة لا يمكنها ان تكون مقنعة. ومن بين هذه الحجج التي تورد تتقدّم واقعة انهيار الجمهورية العربية المتحدة، وواقعة انهيار الجيوش العربية وانهزامها على يد اسرائيل، عام 1967، ثم رحيل القائد جمال عبدالناصر عام 1970 واقتتال الاشقاء في الاردنولبنان، وعلى حدود مصر والسودان، وعلى حدود اليمنين، وفي الصحراء من المغرب والجزائر، ومنها الانفصام الذي حدث بعد زيارة السادات للقدس المحتلة، والتعثر الذي أصاب الحالة العربية بعد حرب الخليج وبعد التوقيع على اتفاق مدريدوأوسلو بين العرب والاسرائىليين من جهة، وبين الفلسطينيين والاسرائىليين من جهة ثانية. انطلاقاً من هذه الحُجج - الوقائع، ومما قاله فؤاد عجمي، ومن بعده أوليفيه كاريه في كتابه "القومية العربية"، وسمير الخليل وعمانويل سيفان في كتابه "ميثاق السياسة العربية" يدبّج حازم صاغية كتابه "وداع العروبة" ليخطو خطوة اجرأ من سابقيه بزعمه ان العروبة ماتت ولا بدّ من وداعها: "لقد ماتت الدعوة الوحدوية فعلاً، وكان اجتياح صدام حسين الكويت آخر الانفاس التي لفظتها. وبهذا المعنى ليست الكتابة عنها مشاركة في ردّ خطر غاشم يتهيأ للانتشار والسطوع. ومع ذلك فالأمر ليس، في المقابل، طعناً في جثة لأن المطلوب وداع الميت والاعتراف الصريح بموته". ينطلق حازم صاغية في تبريره موت العروبة من الايديولوجية القومية ومن وجهها الجغرافي - السياسي فهو يرى ان فكر الوحدة العربية ومنذ البدايات فكر مشرقي الا انه لم يتعرّف الى نفسه ويعرّف بها الا كفكر عربي شامل. والدليل ان معظم منظريه من السوريين، فساطع الحصري وميشال عفلق وصلاح البيطار دمشقيان، وقسطنطين زريق من جوار دمشق، وزكي الأرسوزي من لواء الاسكندرون الذي ضمّته تركيا لاحقاً، أما انطون سعاده اللبناني فاذا لم يقل بوحدة عربية، فانه قال بوحدة سورية تشمل، الى سورية الحالية، لبنانوالاردن وفلسطين، التي ما لبث ان أضاف اليها العراقوالكويت وقبرص. اما بقية المناطق العربية، ومنها مناطق الخليج والجزيرة والمغرب والسودان التي تشكل بمجموعها أكثرية العرب السكانية، فهي تندرج في سياقات تاريخية تجعلها عديمة الصلة أصلاً بالموضوع المشرقي. ويتوقف حازم صاغية في تبريره موت العروبة الى ان الايديولوجية القومية التي أطلقت الدعوة الى الوحدة العربية عانت، اضافة الى تلوينها المشرقي من نظرتها الى الدولة العربية من حيث هي ثمرة تجزئة استعمارية لا أكثر ولا أقل. فيما الواقع انه كان لا بد من رسم الحدود ووضع الاجسام المبعثرة في أوعية سياسية محددة. ثم ان رسم الحدود لم يراع مصلحة الاستعمار وحسب وإنما راعى التوازنات الاهلية والعصبية القائمة أصلاً داخل الحدود المرسومة، يضاف الى ذلك ان الحدود بين العرب والتي كرّس بعضها الغرب ودوله، يعود جزء منها الى الزمن العثماني وجزء آخر الى الزمن العباسي. كما ان ترسيم هذه الحدود لم يواجه بمعارضة قومية وحدوية حديثة كما يُقال عادة، بل واجهته عواطف أهلية خام ترفض تدخل الاجنبي والغريب في الشؤون العربية، من دون ان تعرف بالضبط ماذا تفعل بهذه الشؤون. ويذهب حازم صاغية في تبريره موت العروبة الى ان الفكر القومي الذي كان في أساس الدعوة الوحدوية العربية أساء استلهام التصوّر الألماني للقومية بتفريقها من محتواها الدستوري والسياسي. يكتب حازم صاغية في هذا السياق: "متسلّحة بالتجربة الألمانية على طريقتها، راهنت الوحدوية العروبية على ان "الدول المصطنعة عديمة التأثير على الجماعات والافراد وكيفيات حياتهم. فبمجرّد ان يستيقظ الوعي القومي عند جماهير الأمة، حتى تتساقط الجبال الكرتونية هذه". وبهذا المعنى اسهمت التصورات النافية للدولة في جعلها فائضة سلطوياً، أي في نزع معناها الدستوري والسياسي كحاضنة للمجتمع في مؤسساته المدنية من احزاب ونقابات واتحادات مهنية ومؤسسات اعلامية، والعمل على نشر معناها السلطوي القائم على التفرد الديني أو السلالي أو المناطقي، أو العسكري، وبذلك تمّ قتل مفهوم الدولة الحديثة الذي حمله الاستعمار معه، مرة بنفيه الايديولوجي، ومرة اخرى بالغاء وظائفه المدنية، ومرة ثالثة بتنظير الوعي وإشاعته حول عدم جدواه. ويناقش صاغية في معرض تبريره موت العروبة مفاهيم اللغة والثقافة التي ركّز عليها أبرز ايديولوجيّ العروبة ساطع الحصري، يناقش موضحاً ان المواطنية والانتماء الى جماعة ما مسألتان يحددهما القانون لا اللغة، وهذا ما يختصر الفارق بين القومية الدستورية والقومية الثقافية التي تندرج فيها الدعوة العروبية. اما الزعم القائل بان العربية الفصحى هي القاطرة الصالحة للهدف الوحدوي، فان الواقع ينفي ذلك نظراً لانتشار الامية، وتعاظم دور العامية، وهُزال الاوضاع والنماذج العربية التي تحول دون تطور العربية وبلوغها المدى العالمي، واستطراداً فان الدعوة الوحدوية بزعمها الوحدة اللغوية واشتقاقها خلاصات سياسية ونضالية منها، لم تفعل سوى اضافة العقبات الموضوعة في وجه ثقافة نقدية تكون شعبية وديموقراطية وحيّة وتكريس انشدادنا الى زمن وهمي، امبراطوري وفصيح وملحمي". وما يُقال عن اللغة يُقال عن تمظهراتها في السينما والأدب والصحافة والتعليم، والكتب والمجلات والمذكرات، والإعلام، حيث يقل البُعد القومي فيها ويكثر البُعد المحلي، من ذلك مثلاً ان "الإذاعات القومية" العربية هي لندن ومونتي كارلو". أما اذاعات البلدان العربية فنشرات أخبارها تمنح الأولوية المطلقة لاخبار البلد نفسه، لا سيما اخبار حكامه، بينما يدور معظم ما في البث حول شؤون البلد إياه، ناهيك عن البرامج المقدّمة بلهجته العامية". ويتوضح الكلام على واقع الانفصال الثقافي على ما يزعم حازم صاغية أكثر ما يتوضح في الادعاء بوجود نفسية مشتركة عربية" غير موجودة، ويعود هنا صاغية لتبيان ذلك الى كتاب الباحث والمستعرب الاسرائىلي عمانوئىل سيفان "ميثاق السياسة العربية" وفيه يرصد سيفان منذ عام 1922 الطوابع البريدية وأوراق العملات، ومن ثم التقاويم الروزنامات العربية بوصفها تظهر من خلالها النفسية العربية المشتركة أو لا تظهر. وقد تبيّن للمستعرب الاسرائىلي الذي يستشهد به صاغية ان مصر منذ استقلالها لم يمرّ عام الا أصدرت طوابع تسترجع الحقبات ما قبل العربية والاسلامية من تاريخها. أما سورية فتحمل طوابعها، سواء عادت الى ما قبل انقلاب 1963 البعثي أم الى ما بعده، اشكالاً ومعالم أوغاريتية وهيلينية، بينما الجزائر اهتمت بالتماثيل الصغيرة الديونيسية، وتونس بهنيبعل وهملقار وقرطاجة ولبنان بالأميرين فخرالدين المعني الثاني، وبشير الشهابي. ويعلّق هنا صاغية "ان الرموز عكست لحظة التوازن بين رغبة الدولة واحياناً سلطتها فحسب في بلد معين، وبين "نفسية" سكان ذاك البلد. وربما كان التركيز على هموم وطنية بعينها المسألة الطائفية في لبنان، أو عناصر افتخار وطني جامع سدّ مأرب في اليمن أقوى عوامل الاشتراك التي تكثر أو تقلّ، بين الدولة و"النفسية الاجتماعية". ويتناول صاغية في تبريره موت العروبة اضافة الى البُعد الايديولوجي البُعدين السياسي والاقتصادي فيوضح ان مصر التي اعتبرت ابتداء من أواخر الخمسينات شرطاً لأية وحدة عربية مقترحة لم تعد قومية وحدوية بمعنى انها لم تعد القطب المركزي الذي يجذب البلدان والشعوب العربية، وان القضية الفلسطينية التي كانت تعتبر القضية المركزية للعرب، صارت اليوم تعني شعباً بعينه. كما يوضح صاغية ان الوحدة الاقتصادية لم تحظ بكبير اهتمام في النظرية القومية العربية التقليدية، مع هذا فان السوق العربية المشتركة التي طُرحت عام 1965 يُعاد طرحها اليوم كرد فعل على طروحات التطبيع الاقتصادي مع اسرائيل والصلات الاقتصادية الشرق أوسطية التي بدت محتملة بُعيد توقيع معاهدة أوسلو. يكتب صاغية معلقاً: "بيد اننا هنا نواجه دائماً تغليب ما هو سياسي سلطوي واستراتيجي مرة، ايديولوجي ومعتقدي مرة اخرى، على ما هو مصلحي ومتعلق بالحاجات فعلاً". "لقد ماتت الدعوة الوحدوية فعلاً، وكان اجتياح صدام حسين الكويت آخر الانفاس التي لفظتها" هذه هي المقدمة والنتيجة لكتاب "وداع العروبة" لحازم صاغية. فما هو البديل؟ البديل وفي الحد الايديولوجي الأدنى كما يقول صاغية "يبقى ان معضلة المعضلات تتمثل في ان الوحدات الألمانية والايطالية غدت مستحيلة عملياً، لكن صلتنا العاطفية بها تعيق اندراجنا في الوجهة العالمية الغالبة بقدر ما تعقّد علاقاتنا الداخلية، أكان بين جماعات الوطن الواحد أم بين الدول القائمة". لا يمكن لقارىء كتاب حازم صاغية، عن "وداع العروبة" الا ان يوقع الى جانب اسمه في دعوى موت العروبة، عروبة الشكل الاثني الاستبدادي مع الجيل القديم من رواد العروبة، والعروبة المؤسلمة مع رجال اليوم من القائلين بعروبة الأمة، ولكن بين هاتين العروبتين ألا يعتقد صاغية ان هناك مجالاً ما زال مفتوحاً لعروبة تقع في منزلة بين المنزلتين، هي العروبة الحضارية الداعية الى التوجه الديموقراطي، والآخذة بمبادىء التعددية السياسية، والعاملة على قاعدة الإحساس بالتضامن والتفاهم بين العرب. وهذا باب جديد يجب ولوجه لاكتشاف ما يختبىء وراءه. لا ريب ان موقف حازم صاغية من العروبة عموماً يدفعه الى طريق وعر يتجنّب علماء السياسة والاجتماع سلوكه، أعني اصدار الاحكام القاطعة حول المستقبل، وبخاصة مستقبل حركة سياسية تعني الكثير بالنسبة لملايين العرب.