هل ثمة أفق بعد لطرح القومية العربية والوحدة العربية سبيلاً لنهضة واعدة ومستقبل عربي جديد، غير الذي يندفع العرب في اتجاهه بأقطارهم المجزأة وعصبياتهم المتناحرة وقبلياتهم المتيقظة، أم أن ذلك من قبيل التفكير الرومانسي المنتمي الى مرحلة آفلة؟ في مواجهة هذه التساؤلات المربكة للفكر القومي العربي، يأتي كتاب عزمي بشارة "أن تكون عربياً في أيامنا» )بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية 2009)، فالكاتب الملتزم والذي عاش مرحلة المد القومي، هو الأولى بالتصدي لمكامن الخلل في مسار الحركة القومية العربية والتطلع الى حلول واقعية وعصرية لإخراجها من أزمتها الراهنة. رأى المؤلف أن هناك حالياً مشكلة تواجه جيلاً عربياً بأكمله، وهي متعلقة بغياب مشروع عربي ذي معنى يمنح المجتمعات العربية بوصلة سياسية وتصوراً للأمن القومي، واتجاهاً للبناء والتخطيط أو على الأقل اتجاهاً للنقاش، في حين تنهض من حولها مشاريع بناء أمم ودول اقليمية ذات تصور واضح لأمنها القومي، سواء في حالتي ايران وتركيا، أو في حالة المشروع الاستيطاني الاستعماري في فلسطين. من زاوية هذه الأزمات يجب تقييم الجيل العروبي السابق، أي جيل الأحزاب القومية التي حكمت دولاً عربية، لأن لتقييم دور هذا الجيل نقدياً أثراً في معنى أن يكون المرء عروبياً في أيامنا. لقد أخلص رواد هذا الجيل لفكرة قومية عربية، وأجمعوا على تسييس الانتماء الثقافي العربي للأمة، وآمنوا بوحدة عربية. ولكن سياسييهم سقطوا في براثن الخطاب الشعبوي والرومانسي، بشكل أحرج حتى أكثر مفكريهم القوميين المعاصرين رومانسية، ولم يتمكنوا من تحقيق وحدة عربية حتى بين أكبر أقطار حكموها - مصر وسورية والعراق والجزائر - لكنهم مع ذلك كانوا أصحاب مشروع عام جاهدوا من أجله، وهذا تميز عن سياسيي وحكام اليوم. ومن هنا الفائدة الكبرى التي تحققت في عصرهم، وايمان الناس بصدقيتهم. فلم يتحول قادة المشروع القومي الى أثرياء عبر استغلال الموقع السياسي، وخلفوا بعدهم عائلات فقيرة أو متوسطة الحال، ولم يسد فيهم حكم العائلة والأقارب. لا يقارن كل هذا بفساد نيوليبراليي اليوم أو بالفساد المستشري في الدولة القومية المتأخرة التي حوّلت الحزبية من موقف وبرنامج ونضال الى نفوذ ورأس مال سياسي ذي قيمة تبادلية مثل أي سلطة. فسقطت الفوارق بين النظامين الملكي والجمهوي وباتت صلة القرابة ذات معنى سياسي، وزال الفاصل بين الحيزين العام والخاص، فضلاً عن أن هنالك مسألة توريث أو تحضير للتوريث للأبناء في غالبية الجمهوريات العربية. من هنا نشأ وضع باتت فيه القوى الخصم للقومية العربية تتعامل معها كمجرد ايديولوجية، بمعنى الوعي الزائف، وبلغ هؤلاء حد انكار وجود قومية عربية خارج ايديولوجية الأحزاب. وضاق الهامش حتى بات كل من يعرّف نفسه كعربي، في نظرهم، قومياً عربياً، لأنهم ينكرون على العرب حتى تعريف أنفسهم كعرب. ازاء هذا الالتباس المفهومي يطرح المؤلف رؤيته للقومية العربية وأسس الانتماء القومي. فالتفكير القومي العربي معناه الاعتراف بوجود قومية عربية لديها الحق بأن تصبح أمة ذات سيادة، وأن يكون منطلق التنظير وصوغ البرامج السياسية المشتقة عنه، هما مجمل مصلحة الأمة، خلافاً للانطلاق من مصلحة جزء منها، أكان طائفة أو مذهباً أو عشيرة أو ناحية. القومية العربية ليست مجرد حالة رومانسية، بل حاجة عملية ماسة لتزويد المواطن بهوية ثقافية جامعة تحيّد غالبية الطوائف والعشائر عن التحكم بانتماء الفرد السياسي. فالتشديد على الهوية العربية في وجه الطائفية والمذهبية والعشائرية والجهوية، هو موقف عروبي. والقومية العربية ليست رابطة دم ولا عرق، بل هي جماعة متخيلة من عناصر قائمة في الواقع، مثل اللغة والثقافة وعناصر التاريخ المشترك. فأن تكون عروبياً في أيامنا يعني أن تتخذ الهوية العربية نقيضاً لتسييس الهويات التفتيتية، وأن تعرف نفسك كعربي في فضاء الانتماءات السياسية. ليست القومية العربية ايديولوجية شاملة، بل هي انتماء ثقافي أصلح من الطائفة ومن العشيرة، لتنظيم المجتمع الحديث في كيان سياسي. وقد أثبت الواقع العربي البائس، أنه أكثر توحيداً لأي شعب عربي من الانتماء القطري، وأنه أضمن لوحدته من اختراع هوية وطنية على أسس طائفية أو عشائرية. أن تكون عروبياً لم يعن ولا يعني بالضرورة أن تكون ديموقراطياً. بيد أن التجربة التاريخية أثبتت أن من يدعو الى الوحدة العربية لا بد من أن يستند الى ارادة الغالبية الساحقة من الأمة، وأن يسعى الى التعبير عن هذه الارادة بالديموقراطية من خلال برنامج سياسي واجتماعي مطروح للناس كخيار ديموقراطي. أن تكون عروبياً لم يعن ولا يعني بالضرورة أن تؤمن بالعدالة الاجتماعية، ولكن التجربة التاريخية أثبتت أنه لا بد في عصرنا من جمع الفكرة القومية مع الديموقراطية والعدالة الاجتماعية. ولأن الاستعمار واسرائيل قد حددا موقفاً ضد العروبة كهوية لشعوب المنطقة، فأن تكون عروبياً في أيامنا يعني بالضرورة أن تدعم المقاومة. إذ لا يمكن ان تكون ديموقراطياً ومعادياً للعروبة، ولا يمكن أن تكون ليبرالياً وتدعم سياسات أميركا واسرائيل في المنطقة. وبما أن المقاومة لا تشمل بحد ذاتها برنامجاً لما بعد التحرير، فالعروبيون الوحدويون يجب أن يمتلكوا ذلك البرنامج. أن تكون عروبياً يعني أن تكون قادراً على طرح الفكرة العربية بشكل يلتقي مع مصالح الناس، ويشكل حلاً لهمومهم. ويجب أن يتحلى خطاب العروبة بالواقعية من أجل تغيير الواقع لا من أجل تكريسه، وبالنقدية الثورية من أجل ترشيد وعقلنة وأنسنة الحلم حتى لا يتحول الى طوبى. فالحرية والواقعية النقدية خياران متلازمان، وهذا ما تشترطه عروبتنا الانسانية في أيامنا. * كاتب لبناني