تعرض السفير الاميركي في لبنان ديفيد ساترفيلد لحملة انتقادات عنيفة الشهر الماضي من قبل شريحة كبيرة من الطلاب والسياسيين والمحللين نتيجة موقف حكومته الذي حمّل "حزب الله" مسؤولية التدهور العسكري في الشريط الحدودي المحتل والذي دعم بطريقة غير مباشرة الاعتداءات الاسرائيلية على البنية التحتية اللبنانية. أثار هذا الموقف المؤيد لاسرائيل حفيظة العديد من اللبنانيين حيث طالب بعضهم بطرد السفير الاميركي من لبنان وارسال رسالة شديدة اللهجة لواشنطن لانحيازها الاعمى للدولة اليهودية. طبعاً لم تستجب الحكومة اللبنانية لدعوة بعض الفرقاء لطرد ساترفيلد ولم تأخذها جدياً بعين الاعتبار لأن معاداة الولاياتالمتحدة، القوة الرئيسية العظمى في النظام العالمي وراعية التسوية السلمية بين العرب واسرائيل، سوف تترتب عليها عواقب وخيمة وتكاليف باهظة لبلد صغير يعاني من ركود اقتصادي حاد ومواجة مكلفة في الجنوب. السؤال الذي يطرح نفسه هو: ما هي المهمات والوظائف التي يضطلع بها السفير الاميركي في بيروت؟ هل هو المسؤول الذي يصيغ السياسة الاميركية حيال لبنان ام انه يمثل حكومته فقط وينقل مواقفها للدولة اللبناية؟ ماذا يمكن القول عن شخصية ساترفيلد وخلفيته السياسية؟ وهل يمكن فهم السياسة الاميركية فهماً صحيحاً من خلال التركيز على دور سفيرها في لبنان؟ وما هي الدروس المفيدة التي يمكن استخلاصها عن السياسة الاميركية ليس فقط نحو لبنان بل تجاه المنطقة العربية ككل من دراسة العلاقة المعقدة بين واشنطن وسفيرها في الميدان؟ اولاً، تجدر الاشارة الى ان السفير الاميركي هو بمثابة الممثل الاول للولايات المتحدة في لبنان، فهو العين الساهرة والأذن الصاغية في ما يتعلق بمصالح واشنطن. والاهم من ذلك يفترض في السفير الاميركي ان ينقل بأمانة وموضوعية وتحليل نقدي للوضع الداخلي في البلد الصغير تصورات ومواقف النخب والشرائح الاجتماعية - السوسيولوجية من المسائل المهمة والمصيرية ورؤيتها للدور الاميركي. بكلام آخر، مهمة السفير ان يثقف المسؤولين الاميركيين عن ما يجري داخل الساحة اللبنانية ويقدم اقتراحاته للادارة في واشنطن عن السياسات التي تجب صياغتها تجاه لبنان. هذه النقطة مهمة جداً لأن موقع ومهمة السفير الميدانية تسمحان له ان يستوعب التركيبة الداخلية المعقدة وتصورات اللبنانيين المتعددة وينقلها الى رؤسائه في واشنطن الذين تنقصهم الخبرة الميدانية الحيّة والإلمام الثقافي والفكري والعلمي بالوضع اللبناني. هنا تكمن اهمية السفير حيث يشكل همزة وصل وجسر عبور بين بيروتوواشنطن. صحيح ان السفير الاميركي هو الممثل الاول لحكومته في لبنان ولكنه من الناحية النظرية يحاول جاهداً ان يعبّر تعبيراً حقيقياً عن رؤية لبنان واللبنانيين لعلاقتهم مع وطنه الأم. واحياناً كثيرة لا تؤخذ مقترحات وآراء السفير في الحقل الميداني جدياً من قبل المسؤولين في واشنطن لكونه يتعاطف تلقائياً مع تطلعات ورؤى محلية تترك بصماتها على تفكيره وتحليله. صحيح ان السفير المنتدب من قبل دولة ما هو اولاً واخيراً ممثل لمصالح بلاده في تلك الدولة ولكنه يطمح ويحاول جاهداً ان يحافظ على علاقة جيدة وفعّالة بين حكومته والبلد الذي يستضيفه. مقياس نجاح اي سفير معتمد بدولة ما هو مستوى وعمق العلاقة السياسية والاقتصادية والاستراتيجية بين وطنه الام وهذه الدولة. هناك امثلة عديدة لسفراء اميركيين لم يحظوا بدعم من حكومتهم واستدعوا الى واشنطن لتعاطفهم الشديد مع قضايا العرب وغير العرب في البلاد المُعتَمدين لديها. جون بادو السفير والاكاديمي الاميركي، الذي مثل واشنطن في مصر في الخمسينات والستينات أُعفي من خدماته نتيجة تدهور العلاقات المصرية - الاميركية ولاختلافه العلني مع حكومته وطريقة تعاملها مع النظام الناصري. فلقد نظر المسؤولون الاميركيون الى بادو بريبة وشك لتعاطفه مع مصر وفشله في نقل موقف حكومته المتشدد تجاه سياسات عبدالناصر. النقطة الثانية والمهمة في هذا الاطار ان شخصية وثقافة السفير المعتمد في بلد ما تحدد الى مدى بعيد طريقة تعامله ليس فقط مع حكومته بل ايضاً مع سلطات البلد المضيفة. والاهم من ذلك هو علاقة السفير المميزة بالقيادة السياسية الفعالة في حكومته. اضحى منصب السفير في الولاياتالمتحدة بمثابة مكافأة سياسية لبعض اصدقاء ومساعدي الرئيس الاميركي في حملته الانتخابية. وبقدر نوعية وطبيعة العلاقة الحميمة بين السفير المعتمد وقنوات البيت الابيض بقدر ما تصبح مهمة ودور السفير اكثر فعالية من حيث قدرته على القفز فوق بيروقراطية وزارة الخارجية الاميركية والتعاطي مباشرة مع صنّاع القرار السياسي الخارجي. ولقد تميزت ادارة ريتشارد نيكسون وهنري كيسنجر في تهميش وزارة الخارجية من خلال فتح قنوات اضافية للتواصل مع بعض السفراء في العواصم المهمة. هناك اذن ثلاثة عوامل - شخصية وثقافة وعلاقة السفير مع قيادته الفعالة - تلعب دوراً مهماً في انجاح او فشل مهمته الديبلوماسية. في هذ الاطار، تجدر الاشارة الى ان ساترفيلد يعتبر من الديبلوماسيين المخضرمين في وزارة الخارجية الاميركية ولديه إلمام عميق في شؤون وقضايا العالم العربي وخاصة لبنان حيث عمل في السفارة الاميركية في بيروت قبل فترة وجيزة من تعيينه سفيراً لحكومته في العاصمة اللبنانية. ولقد ترقى ساترفيلد تدريجاً في وزارة الخارجية وأثبت جدارته الديبلوماسية وبذلك لم تكن ترقيته مكافأة سياسية من البيت الابيض لتقديمه خدمات شخصية او مادية لبيل كلينتون. والشيء الاكيد بالنسبة لساترفيلد انه رجل مؤسساتي وابن وزارة الخارجية الصدوق والمطيع، اي انه يحترم تقاليدها وهرميتها ويعمل من الداخل من ضمن منظومة صياغة القرار السياسي الخارجي في الوزارة. ولم يكن ساترفيلد ليحصل على منصب سفير في لبنان لو لم يملك القدرة والموهبة والارادة على التأقلم مع معطيات ومتطلبات السياسة الاميركية في المنطقة عامة ولبنان خاصة على رغم تحفظاته على بعض الخطوط العريضة لسياسة واشنطن. المهم ان ساترفيلد سيتبع القنوات الكلاسيكية ضمن مؤسسة وزارة الخارجية للتعبير عن رؤيته للوضع الداخلي في لبنان وميزان القوى الذي يحدد الأطر العامة للسياسة الحكومية. هذا يقودني الى التشديد على نقطة ثالثة ومفادها ان تأثير ساترفيلد على صياغة السياسة الاميركية نحو لبنان قليل الفعالية لعدة اسباب، السبب الاول يعود الى الدور الهامشي الذي يلعبه البلد الصغير في السياسية الخارجية لواشنطن في المنطقة العربية. مثّل لبنان في السبعينات والثمانينات وجع رأس بالنسبة للولايات المتحدة وتكاليف باهظة انسانياً وسياسياً دفعتها الى القبول بتسليم مفتاح القرار الى جاره الاقليمي طالما يستطيع الحفاظ على الاستقرار السياسي والسلم الاهلي. أقنعت الحرب اللبنانية المدمرة الولاياتالمتحدة بأن اللبنانيين غير قادرين على حكم انفسهم بأنفسهم ومن ثم فهم بحاجة ماسة الى وصاية محلية - اقليمية لمنع انفجار الصراع الداخلي وامتداد شظاياه الى محيطه المهم. باختصار، لم يعد الملف اللبناني يحظى بأهمية قصوى في دائرة القرار السياسي الخارجي الاميركي منذ الثمانينات ولم يعد يتطلّب استثماراً سياسياً او ديبلوماسياً ضخماً من قبل المسؤولين الاميركيين. اذاً، لبنان لم يعد محور خلاف جوهري داخل الادارة الاميركية ومهمة ودور السفير ساترفيلد تقتصر على مراقبة الساحة اللبنانية وتصريف اعمال السفارة والرعايا الاميركيين وليس على مساعدة واشنطن وصياغة سياستها اللبنانية. السبب الثاني لضعف تأثير ساترفيلد على صياغة سياسة واشنطن يكمن في خلفيته الثقافية والفكرية ومرجعيته السياسية. يعتبر السفير الاميركي من جيل ما يسمى ب"المستعربين" ضمن وزارة الخارجية حيث ينصبّ اهتمامهم واختصاصهم على الشؤون العربية - الاسلامية ومصالح الولاياتالمتحدة الحيوية في هذه المنطقة المهمة. هذا الجيل في طريقه الى الانقراض ويواجه حملة نقدية عاتية من قبل اللوبي الصهيوني واصدقاء اسرائيل الذين يتهمونه بالانحياز لصالح العرب وعدم القدرة على فهم واستيعاب المتغيرات الاستراتيجية في الشرق الاوسط والعالم. ويعبّر الكاتب الاميركي روبرت كابلن في كتابه "المستعربون" عن هذه الرؤية خير تعبير حيث يحاول تفكيك البنية الايديولوجية والثقافية - التاريخية لبعض ما وصفهم بأنهم من جيل "المستعربين". ويتزامن تآكل النخبة السياسية الاميركية المختصة في الشؤون العربية - الاسلامية مع تغيير جيلي مهم في وزارة الخارجية. فلقد شهدت العشر سنوات الماضية صعود جيل جديد وشاب من المسؤولين الاميركيين الذين عملوا سابقاً في مراكز الابحاث المؤيدة لاسرائيل والذين يفتخرون شخصياً وعلنياً بكونهم صهيونيين كما قال مارتن انديك السفير الاميركي الحالي في تل ابيب. هذا الجيل الجديد لا يدير عملية السلام فقط بل يضع ايضاً الخطوط العامة للسياسة الخارجية الاميركية في المنطقة. بعض اعضاء هذا الجيل الجديد من امثال انديك ودانيس روس وارون ميلر وغيرهم احتلوا مراكز ومناصب كانت شغلتها النخبة المختصة في الشؤون العربية لعشرات السنين من امثال ريتشارد مورفي وريتشارد باركر وروبرت بلاتر وهارمان ايلتز وغيرهم. المهم ان الجيل الثقافي والسياسي الذي ينتمي اليه ساترفيلد تضاءل نفوذه وتأثيره على صياغة السياسة الاميركية في المنطقة العربية وخياراته العملية هي إما أن يتأقلم مع الواقع الجديد او ان يعتزل المسرح السياسي الاميركي. ومما لا شك فيه ان العديد من المسؤولين الاميركيين يحاول التكيّف مع المعطيات الجديدة ساعياً بهدوء وعقلانية التأثير على صياغة القرار السياسي الخارجي بغض النظر عن جدوى وفعالية هذا الاسلوب. وتجدر الاشارة الى ان ساترفيلد وزملاءه من النخبة نفسها يستطيعون وبسهولة احياناً تبرير مواقفهم التي تفتقر الى البعد الاخلاقي والانساني بحجة الدفاع والمحافظة على المصالح الاميركية الحيوية. عدد قليل جداً من هذه النخبة لديه القناعات الفكرية والارادة الصلبة التي تدفعه الى التمرد ورفض الواقعية وشبكة المصالح التي تتحكم بآلية اتخاذ القرار في اشنطن. أحد الاسباب الاخرى التي تؤثر سلباً على قدرة ساترفيلد في صياغة السياسة الخارجية نحو لبنان تكمن في انتقال مركز الثقل السياسي من وزارة الخارجية الى مجلس الامن القومي في البيت الابيض. لقد تميزت ادارة كلينتون باعتمادها الشديد على مسؤولي الشرق الاوسط في مجلس الامن القومي في رسم سياستها غير عابئة بالنتائج الخطيرة المترتبة عن ذلك. لا يملك مجلس الامن القومي الكوادر المؤهلة لصياغة سياسة مرنة تأخذ بعين الاعتبار التركيبة المعقدة لمجتمعات ودول المنطقة ويسيطر الهاجس الامني والرؤية الاسرائيلية سيطرة تبدو شبه كاملة على استراتيجيات ومقترحات مجلس الامن القومي الشرق اوسطية. تجدر الاشارة هنا الى ان مارتن انديك، السفير الاميركي الحالي في اسرائيل، كان المسؤول الاول عن الشرق الاوسط في مجلس الامن القومي في البيت الابيض خلال فترة كلينتون الرئاسية الاولى والذي ساهم الى حد كبير في وضع الأطر الرئيسية للسياسة الخارجية الاميركية في المنطقة. ففي حين يسعى السفير الاميركي ووزارة الخارجية الى فهم خصوصيات وديناميكيات البلد الصغير يركز مجلس الامن القومي على العوامل الدولية - الاقليمية المؤثرة على المصالح الاميركية في المنطقة ككل وليس في لبنان فقط. هذا التركيز يؤدي الى اضعاف الدور اللبناني وتقديمه كقربان على مذبح القوى الاقليمية الاكثر اهمية استراتيجياً. بالاضافة الى كل هذه العوامل، هناك عامل آخر يؤدي الى ضعف الدور الذي يلعبه السفير الاميركي في صوغ سياسة حكومته: لقد أدت ثورة الاتصالات والمعلوماتية الى التواصل المباشر بين الحكومات المسؤولة من دون المرور او الرجوع الى السفارات والسفراء المعتمدين. ينطبق هذا الواقع الجديد على اللعبة الديبلوماسية في معظم بلدان العالم وليس فقط على بلد صغير بحجم لبنان. خلاصة القول ان السفير الاميركي في لبنان لا يصوغ سياسة بلاده بقدر ما يمثّل وينقل توصيات ومقترحات رؤسائه الى الحكومة اللبنانية. مهمته الصعبة تكمن في محاولته تسويق وتعليب السياسة الاميركية بكل تناقضاتها وتذبذباتها وازدواجيتها. وقبل ان يسارع البعض ويطرح غياب البعد الاخلاقي في وظيفة السفير الاميركي، نحيله على الأب الروحي للديبلوماسية الواقعية الغربية، داغاليا، الذي شدد على انه ليس هناك ما يمنع السفير من ان يكذب ويخدع ويغش لأجل وطنه! * استاذ العلاقات الدولية والديبلوماسية في جامعة سارة لورانس في نيويورك.