حرص السيد مارتن انديك، مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأوسط، في مقابلة اجرتها معه أخيراً محطة فضائية عربية، على تأكيد ان واشنطن لا تتبع سياسة مزدوجة المعايير. قال انديك ان الشرعية الدولية هي الأساس في السياسة الأميركية تجاه قضايا الشرق الأوسط والمنطقة العربية، ولفت الى ضرورة التمييز بين قرارات هيئة الأممالمتحدة ذات الطابع الملزم والتي تصدر عن مجلس الأمن. وبين التوصيات والاقتراحات الصادرة عن الجمعية العمومية للهيئة الدولية. وعندما لفت نظره الى القرار 425 الصادر عن مجلس الأمن والمتعلق بالانسحاب من الأراضي اللبنانية، حرص انديك على تأكيد ان اسرائيل وافقت على تنفيذ هذا القرار الا ان هذه الاشارة المبتسرة تركت العديد من الأسئلة معلقة في الهواء. لقد اتخذ قرار مجلس الأمن قبل عشرين عاماً تقريباً 19/3/1978، فماذا كان موقف الولاياتالمتحدة من القرار يومها؟ وماذا كان موقف الادارات الأميركية المتعاقبة بعد اتخاذ القرار؟ ماذا كان موقف اسرائيل من القرار ولماذا غيرت موقفها؟ واذا كانت اسرائيل قد غيرت موقفها من القرار الدولي بسبب ضغوط معينة، فماذا كان موقف الادارة الأميركية من هذه الضغوط؟ كل هذه الأسئلة لها علاقة مباشرة بمغزى الموقف الاسرائيلي الجديد من القرار 425، هذا اذا كان الموقف الاسرائيلي جديداً كما أشار انديك. كما ان الاجابة على هذه الأسئلة تكفل تسليط الأضواء على الموقف الأميركي. على مدى انسجامه مع الشرعية الدولية أو ابتعاده عنها، وعلى صواب الانتقادات الموجهة الى الادارة الأميركية حول كيلها بمكيالين في سياستها الخارجية. حظي القرار الدولي، يوم صدوره بتأييد الادارة الأميركية، بل انه يمكن القول بأن القرار كان صدى للموقف الأميركي الذي تجلت خطوطه الرئيسية في بيان الرئيس جيمي كارتر حول الاحتلال الاسرائيلي لأراضي لبنانية. وكان أحد الحوافز الى صياغة مثل هذا القرار، هو استباق مشروع قرار عربي يدين اسرائيل ويطلب انسحابها غير المشروط من الأراضي اللبنانية. كما ان الادارات الأميركية اللاحقة لبثت تؤيد، من حيث المبدأ، القرار، قبيل انعقاد مؤتمر مدريد في تشرين الأول اكتوبر 1991 أرسلت الادارة الأميركية ما دعي برسالة التطمين الى رئيس الجمهورية اللبنانية وقد جاء فيها ان الولاياتالمتحدة "تستمر … في تأييدها قرار مجلس الأمن الرقم 425، وهي تعتقد ان للبنان الحق في الاستقلال ووحدة أراضيه، ضمن حدوده المعترف بها دولياً" كذلك اشارت الرسالة الى ان موقف الولاياتالمتحدة يتمثل في التطبيق الكامل للقرار … لا يتوقف على تسوية شاملة في المنطقة ولا يرتبط بها". ولكن لئن كانت الادارة الأميركية قد دعمت القرار 425 يوم صدوره، ولئن أعلنت ادارة جورج بوش تمسكها به، فهل يعني انها ضمنت تنفيذه؟ رفضت اسرائيل رفضاً باتاً تنفيذ القرار عند صدوره، بيد ان الرئيس الأميركي كارتر مارس ضغطاً على حكومة بيغن لسحب قواتها من لبنان، وهدد، كما أوضح في مؤتمر صحافي عقده خلال زيارة لعمّان عام 1983، يايقاف المساعدات العسكرية والمالية عن اسرائيل اذا لم تنسحب القوات الاسرائيلية من الأراضي اللبنانية. ورضخ بيغن للضغط الأميركي ولكن بصورة جزئية اذ احتفظت اسرائيل بالجزء المحتل حالياً من جنوبلبنان. ولم تستمر الادارة الأميركية في الضغط على اسرائيل للانسحاب الكامل والفوري من لبنان. بالعكس قام اللوبي الصهيوني في الولاياتالمتحدة بهجوم مضاد على اندور يونغ مندوب الولاياتالمتحدة الذي ساهم في صياغة القرار، فأبعد عن منصبه، كما ان الموقف من لبنان، كان أحد الأسباب التي جعلت اللوبي الصهيوني يعارض تجديد الرئاسة لكارتر. بعد ادارة كارتر، تراوحت مواقف الادارات الأميركية من القرار 425 بين السير على طريق معاكس للقرار جملة وتفصيلاً، وبين التأييد اللفظي له. لقد كان بعض مسؤولي ادارة ريغان مشاركين في التخطيط لاحتلال لبنان عام 1982. وبعد الاحتلال، مارس جورج شولتز، وزير الخارجية الأميركي، ضغطاً على الحكومة اللبنانية لكي تتخلى عن مضمون القرار 425 ولكي تقبل بانسحاب مشروط يضمن مصالح اسرائيل الاستراتيجية، وذهب شولتز الى أبعد من ذلك بكثير، فعندما أخذ الاسرائيليون يتحدثون عن احتمال الانسحاب من بعض الأراضي اللبنانية بسبب الخسائر التي أخذوا يتعرضون لها على يد المقاومة اللبنانية، كان رأي شولتز انهم يجب ان يقلعوا عن مثل هذه الأحاديث وان يؤخروا أية ترتيبات عملية للانسحاب الى ان يحصلوا من اللبنانيين، كما قال في تصريح لصحيفة "وول ستريت جورنال" 30/3/1984 على تنازلات كافية. وعندما سئل السفير الأميركي ريان كروكر في لبنان بعد حرب الخليج وبعد انتشار الشكوى العربية من المعايير الأميركية المزدوجة، عن رأي بلاده في وسيلة اخراج القوات الاسرائيلية من لبنان، اجاب كروكر بپ"المثابرة" وبپ"الجهود الحثيثة" نصل الى غاية الطريق وسنرى اخراج القوات الاسرائيلية من لبنان. وقد ذهب بوش من البيت الأبيض، وغادر كروكر لبنان من دون ان تؤدي الجهود الأميركية "الحثيثة" الى أية نتيجة تذكر. اذا كانت الادارة الأميركية الحالية هي الأكثر تعاطفاً وتأييداً لاسرائيل، فإن موقفها من القرار 425، لم يخرج عن الموقف الأميركي العام - موقف كارتر استثناء - أي التأييد اللفظي للقرار، مع الابتعاد عن ممارسة أي ضغط على اسرائيل لتنفيذه بصورة ناجزة. في هذا السياق، وعندما تقدمت الولاياتالمتحدة مع روسيا والنروج في نهاية عام 1993، بمشروع قرار في شأن عملية السلام،، فقد أصرت على استناد العملية الى القرارين 242 و338 تحديداً، وعندما حاولت المجموعة العربية اقناع واشنطن باضافة القرار 425 الى القرارين الدوليين كأساس للعملية، "باءت هذه المحاولات بالفشل" كما أوضح المندوب العماني الذي كان يرأس المجموعة العربية. فشلت المحاولات لأن ادارة كلينتون، لم تكن لترغب في الضغط على اسرائيل أو التسبب في احراجها، رفضت الاقتراح العربي. ان امتناع الادارة الأميركية عن ممارسة الضغط على اسرائيل لتطبيق القرار 425، كان من العوامل الرئيسية التي ساعدت اسرائيل على الاستمرار في احتلال الأراضي اللبنانية، الا ان هذا لا يعني انه لم تكن هناك ضغوط أخرى على اسرائيل للانسحاب. هذه الضغوط كانت تتمثل في الانتقادات الواسعة التي كانت توجه الى اسرائيل من على المنابر الدولية خصوصاً هيئة الأممالمتحدة، وكذلك كانت تمثل، وهذا الأهم، في المقاومة اللبنانية. هذه الضغوط اللبنانية والعربية والدولية، العسكرية والديبلوماسية، كانت وسيلة تفعيل القرار الدولي 425. وما نشهده اليوم من اشتداد الضغوط الداخلية في اسرائيل للانسحاب من لبنان يرجع أساساً الى عمليات المقاومة وضغوطها. في غياب هذه الضغوط، فإنه لم يكن هناك حافز حاد لاسرائيل للانسحاب غير المشروط من الأراضي اللبنانية. اتسم موقف الادارات الأميركية تجاه نشاط هيئة الأممالمتحدة في جنوبلبنان بدرجة ملحوظة من السلبية. فعندما كان الاسرائيليون يقومون بمضايقة القوات الدولية يونيفيل في جنوبلبنان وصولاً الى الاعتداء على أفرادها وانزال الاصابات بهم، كان التجاهل والسلبية يطبعان ردود فعل واشنطن على هذه الأعمال. ولما نظرت الجمعية العمومية لهيئة الأممالمتحدة، في نيسان ابريل 1996 في مشروع قرار يدين العدوان العسكري الاسرائيلي "على قاعدة الأممالمتحدة في قانا"، صوتت الحكومة الاميركية ضد القرار. وعندما أعلنت الأمانة العامة لهيئة الأممالمتحدة عن تقريرها المتعلق بالعدوان على قانا، حاولت واشنطن ان تمنع نشره، ولما نشر بطرس بطرس غالي، الأمين العام السابق لهيئة الأممالمتحدة، التقرير كوسيلة لردع اسرائيل عن القيام بمثل هذه الأعمال في المستقبل ولحثها على تنفيذ القرارات الدولية المتعلقة بجنوبلبنان، نقم المسؤولون الأميركيون عليه، وتحول عمله الى واحد من الأسباب الرئيسية للعمل على الحيلولة دون تجديد ولايته. وقبل بطرس بطرس غالي، كانت التقارير التي قدمها كورت فالدهايم الى مجلس الأمن والتي أشارت الى العراقيل التي أقامتها اسرائيل أمام تنفيذ القرار 425، سبباً من أسباب اتهامه بأنه أكثر الأمناء العاملين لهيئة الأممالمتحدة عداء لاسرائيل، ولشن حملة تشهير دولية ضده تناولت ماضيه خلال الحرب العالمية الثانية. لقد استجابت واشنطن بسرعة لهذه الحملة واتخذت قراراً بمنعه من دخول الولاياتالمتحدة حتى قبل ان يجري التحقيق على مدى صواب الاتهامات الموجهة اليه من أطراف صهيونية. الى جانب تبني مواقف متصلبة ضد الانتقادات الدولية الموجهة الى اسرائيل، اتخذت الادارة الأميركية موقفاً عنيفاً لا ضد المقاومة اللبنانية فحسب، ولكن أيضاً ضد اللبنانيين لأنهم يتبنون المقاومة ويعاضدونها. فعندما بحثت مسألة الاعتداء الاسرائيلي في ربيع عام 1996 في مجلس الأمن، انتقدت مادلين أولبرايت، بصفتها مندوبة الادارة الأميركية في المجلس، "أولئك الذين يسمحون لميليشيات حزب الله ان تتصرف بلا عقاب" وقالت انهم عليهم "ان يتحملوا العواقب". وعندما بوشر البحث في "تفاهم نيسان"، في الفترة نفسها، قدم الوفد الأميركي مشروعاً للتفاهم ينص على "امتناع حزب الله عن شن عمليات ضد الجنود الاسرائيليين في جنوبلبنان"، من دون ان يقابل ذلك انسحاب اسرائيل الفوري وغير المشروط عملاً بالقرار 425. تلك هي بعض أوجه الموقف الأميركي من القرار الدولي 425. وهي تبين، انه باستثناء فترة قصيرة خلال حكم الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر، فإن السياسة الأميركية كانت تعمل على عرقلة تنفيذ القرار الدولي، واحباط الضغوط الدولية والعربية واللبنانية الرامية الى تنفيذه. هذه السياسة ساعدت اسرائيل على رفض تنفيذ القرار، وهي تساعدها اليوم على اعطاء تفسيرات له تتناقض مع نصه وروحه، وتستجيب لمصلحة اسرائيل في اضفاء شيء من المشروعية على استمرار الاحتلال. ان موقف الادارة الأميركية تجاه القرار الدولي 425 هو دليل على ازدواجية المعايير في سياسة الولاياتالمتحدة الخارجية، وليس على صلابتها وسلامتها. اما اعتبار قبول اسرائيل بالقرار الدولي بعد عشرين عاماً من اتخاذه دليلاً على انتفاء المعايير المزدوجة من السياسة الأميركية، فهو لا يعدو الاستخفاف بعقول العرب، والاستهزاء بهم. انه ليس من الضروري ان يحب السيد انديك العرب ولا ان يقبل مواقفهم ودعاويهم، ولكن هذا لا يمنعه من ان يظهر بعض الاحترام لهم.