اشتد الالتباس المحيط بمفهوم "تلازم المسارين"، اللبناني والسوري، بعد اقحام البعد المتعلق بوجود اللاجئين الفلسطينيين في لبنان عليه. وفيما كان تلازم المسارين يعني، حتى ايام خلت، ان تلتزم اسرائيل بالانسحاب في آن واحد من جنوبلبنان والبقاع الغربي المحتلين ومن الجولان، بات يعني، بعد تصريحات رئيس الجمهورية اللبنانية العماد اميل لحود، بمناسبة اجتماع وزراء الخارجية العرب في بيروت تضامناً مع لبنان، حلّ مشكلة اللاجئين الفلسطينيين وعددهم مائتا الف، الموجودين في مخيمات اكبرها يقع في الجنوب. وقد اكتسبت هذه التصريحات ثقلاً مضاعفاً اذ كرر مضمونها الدكتور بشّار الأسد في سياق مقابلة صحافية اجريت في المناسبة نفسها. من المستغرب اجتزاء اللاجئين الفلسطينيين في لبنان وطرح مصيرهم للتفاوض والبتّ دون سواهم من اللاجئين في سائر الاقطار العربية، في الوقت الذي تشتد عالمياً حملة "الحق في العودة" للاجئين. لكن لعل ذلك التجسيد العملي للصراع على ورقة المخيمات الفلسطينية في لبنان والذي بدأ منذ اشهر طويلة، اثر الحكم غيابياً بالاعدام على سلطان ابو العينين، كبير مسؤولي فتح في لبنان، واعتقال مسؤولين آخرين من التنظيم نفسه وممارسة حصار على مخيم عين الحلوة، قرب صيدا، والتركيز على اظهار مخيمات الجنوب كبؤر فالتة امنياً. ثم حدث في الاشهر الماضية، وبالتلازم مع هذه الاحداث، ابراز خاطف للوجود المسلح لتنظيم "الجهاد" الفلسطيني، عبر اشراكه في عمليات عسكرية في الجنوب، رافقها اصدار بيانات وعقد مؤتمرات، وعبر استقبال قيادته على اعلى المستويات الرسمية اللبنانية. وكان في ذلك كله تلميح بالخطر الفلسطيني، تحول الى تهديد صريح به مع تحول الوعد الانتخابي لايهود باراك الى قرار حكومي اسرائيلي بالانسحاب "على كل حال" قبل 7 تموز يوليو 2000، من الشريط المحتل في لبنان. من بداهات الاشياء ان الانسحاب الاسرائيلي من اي ارض عربية محتلة هو مكسب من غير المعقول ممانعته. والانسحاب الاسرائيلي من لبنان هو، علاوة على ذلك، انتصار للمقاومة: انتصار لفعل المقاومة، دفع اللبنانيون ثمناً فادحاً لنيله، وانتصار لمنطق المقاومة، وانتفاضة الحجارة في فلسطين والعمليات الموجهة ضد قوات الاحتلال وعملائه في الشريط اللبناني المحتل - منطق المقاومة الذي يحمل طلاب جامعة بيرزيت على الغضب من كلام رئيس الوزراء الفرنسي ليونيل جوسبان، اذ تملق الحق الفلسطيني لكنه شتم المقاومة اللبنانية وانكرها. ومنطق المقاومة الذي يجعل طلاب لبنان يتظاهرون ضد جوسبان مرددين شعار "من بيرزيت الى بيروت، شعب واحد لا يموت". ومنطق المقاومة الذي يجعل تظاهرة باريس المستنكرة لتصريحات المسؤول الفرنسي، ومنظميها وجل المشاركين فيها، لبنانيين وعرباً وفرنسيين، يساريين وعلمانيين، وبينهم نسبة عالية من الشابات المرتديات الجينز الضيق، يصرخون فجأة امام مقر الحزب الاشتراكي الفرنسي، وبفرنسية لا تشوبها شائبة: "كلنا حزب الله"! ومن بداهات الاشياء ايضاً ان يسعى المفاوضون الى توظيف هذا الانتصار في مسار المفاوضات. وهو معنى "التفضيل" اللبناني والسوري ان يتم الانسحاب الاسرائيلي في اطار اتفاق. لكن من المعلوم ان لكل عنصر من العناصر المؤثرة في اية مفاوضات حدودها، وان اسرائيل ليست في موقف الضعف في المحصلة العامة لتوازن القوى في المنطقة. بل ان الاتفاقات التي تجريها والتي تزمع اجراءها، هي في طور من اطوارها، الطور الاهم، تكريس لتفوقها، وان العرب، منذ انور السادات حتى اللحظة، لا يفعلون سوى تنظيم مفاعيل هزيمتهم، بتعثر او بتوفيق، والفارق بينهما في غاية الاهمية. وعلى العكس مما قد يبدو، لا يشكل التهديد باللاجئين الفلسطينيين في لبنان - يا لبؤسهم، ويا حسرتاه عليهم، ويا لهول تلك المفردات: "عليهم ان يرحلوا عنا" و"بقاؤهم خيانة لاطفالنا" - سوى مظهر من مظاهر الافتقار الى هامش حقيقي للمناورة. وبعيداً عن العواطف القومية، كما يقول الصديق جوزف سماحة في مقالته الاحد الماضي في "تيارات"، وفي حسابات سياسية باردة، فلنتخيل اسوأ سيناريو ممكنا للمستقبل القريب: تستمر المفاوضات على الجانب السوري معرقلة لألف سبب وسبب، وينسحب جيش الاحتلال الاسرائيلي من الاراضي اللبنانيةالمحتلة، بلا اتفاق ولا تفاهم. هل سيسمح للفلسطينيين بالخروج مسلحين من مخيماتهم لمهاجمة المستوطنات؟ وعلى فرض انهم، مع سواهم، فعلوا، وردّت اسرائيل بقصف موجع وعنيف على لبنان و"حتى على سورية"، كما هدد باراك بوضوح، فهل ستنقلب الطاولة، كما يقول باتريك سيل، الصحافي البريطاني العارف بالشأن الدمشقي، في تقريره المرافق لاجتماع وزراء الخارجية العرب "الحياة"، السبت 11 آذار؟ هل ستندثر، كما يقول، 25 سنة من الجهود الديبلوماسية باتجاه وضعية "سلمية"؟ هل سيهب العرب للدفاع عن لبنان وسورية؟ هل سيشوب التأييد الاوروبي قبل الاميركي، لاسرائيل، شائبة؟ هل ستندلع الحرب؟ هل نحن مستعدون حقاً لاحتمال كهذا؟ ولماذا لا يجري، عوضاً عن التلويح بما لا نملك او بما لا نشتهي، قلب الطاولة حقاً بالاخلال بالتوازن القائم، وتعديله لمصلحتنا؟ قد لا تعد ولا تحصى المآخذ على مآل تجربة المقاومة الفلسطينية، وعلى الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، وعلى ممارسات السلطة الوطنية الفلسطينية تالياً. الا ان القطيعة في العلاقة السورية الفلسطينية قد بدأت طويلاً قبل اوسلو. بل يمكن القول ان تلك القطيعة كانت احد صنّاع اوسلو، كما كانت حرب الخليج واخراج العراق من دائرة التوازن العربي، صانعاً آخر لها. ومذاك، سعى ياسر عرفات، في مناسبات عدة، للتصالح مع القيادة السورية، الا انه ووجه دوماً بتحريم قاطع. وجرى صدّ تام لكل المحاولات التي قامت بها جهات عربية ودولية صديقة للطرفين. بل اصبحت اللعبة المفضلة لاسرائيل هي استغلال هذه القطيعة، للدفع طوراً بالمسار الفلسطيني واعتباره اولوية، ثم اهماله حين يصطدم بما لا ترغب فيه اسرائيل، والانقلاب الى المسار السوري - اللبناني واعتباره هو الآخر، والى حين، اولوية! لقد نجحت اسرائيل في احباط احد الطرفين العربيين، دوماً بواسطة الطرف الآخر. فما الذي يمنع، إن لم يكن "وحدة" المسارات الثلاثة، فعلى الاقل تحقيق حد عال من التنسيق بينها؟ ذلك ان ما جرى في ربع القرن الماضي، لا ينتمي الى ترتيبات ديبلوماسية قابلة للانهيار في اي لحظة، ولا شيء يقول انها ستنهار، إن انهارت، لمصلحة الحق العربي. تلك اوهام من قبيل خداع النفس، سيئة النية او حسنتها، لا فرق. ولن اعدد المحطات التي افضت الى هذه المحصلة، من كمب ديفيد الى الاجتياح الاسرائيلي لبيروت عاصمة العرب، الى حرب تدمير العراق، الى المجزرة الجزائرية، والاخيرتان مستمرتان، الى مدريدواوسلو والباندوستانات الفلسطينية القائمة او التي ستقوم. محطات يحكمها ويلازمها انهيار متوال في كل شيء: في الاقتصاد، في التعليم، في الثقافة، بحيث نأتي، كعرب، في اسفل سلم كل الاحصاءات العالمية في كل الميادين. فلماذا، والحال تلك، لا نستجمع، مصلحياً ونفعياً، ما نملك من قوى، وهي ليست هائلة، ونسعى للخروج بالفائدة الممكنة للجميع، ثم نعود فنتباغض! اما ان نستمر في المراوحة في اضيق الدوائر، وحدة وتلازم المسارين، فلا يضيف الى اللوحة شيئاً، ولا يعدل في احتمالاتها كثيراً. بل يصبح الدفاع عن هذا التكتيك اقرب الى هجائه منه الى المديح. فها الصديق جوزيف سماحة يدافع عن تلازم المسارين بطريقة غريبة، اذ يقول ان المبدأ سليم لكن التطبيق سيء. ولا اظن احداً يناقض ذلك، بمن فيهم غلاة الانغلاق اللبناني، سيما اذا كان في اطار الحسابات المنفعية، وهي دوماً وتعريفاً ومبدئياً، متبادلة، والا لا تعود منفعية. انه يقول ان "الاداء، وتوزيع الاعباء، وعدم الاستفادة من مزايا كل طرف، وضعف التنسيق وانعدامه احياناً حيال قضايا مهمة، ووجود تباين في مواضيع البحث مع اسرائيل، وضعف الشفافية، وعدم تأهيل كل من المجتمعين وكليهما معاً لتحديات المستقبل"، الخ… تفاصيل! يثبت ذلك الحاجة الى نقلة كبرى من لاعب شطرنج حذق.