أثارت تصريحات رئيس الوزراء الفرنسي ليونيل جوسبان في اسرائيل حول عمليات حزب الله العسكرية، عاصفة سياسية في فرنسا لم تهدأ حتى الآن، وموجة عارمة من الغضب الشعبي في فلسطينولبنان، كان اقساها المظاهرات التي وقعت في حرم جامع بيرزيت، بعكس موجة الفرح والتقدير العالي التي أثارتها مواقف الرئيس الفرنسي شيراك وتصريحاته اثناء زيارته لاسرائيل وفلسطين عام 1996. وبصرف النظر عن نيات الطلبة، ودوافع بعض القوى والشخصيات الفلسطينية العربية فكرياً وسياسياً، للترحيب بالسلوك غير الديموقراطي العنيف الذي قام به المتظاهرون، فإن التقويم الموضوعي الهادئ ل"واقعة" بيرزيت يؤكد خروج بعضهم عن اعراف الفلسطينيين وتقاليدهم في التعامل مع الضيوف الرسميين والتصرف امام وسائل الاعلام الدولية. وألحقت حجارتهم اضراراً ليست بسيطة بسمعة فلسطين، وبعلاقات السلطة الفلسطينية الديبلوماسية بدول العالم. ولم تخدم المصلحة الفلسطينية في توسيع جبهة الاصدقاء وتحييد ما يمكن تحييده من الخصوم والاعداء، وكسب ما يمكن كسبه من المحايدين. ولم يأخذ المتظاهرون في الاعتبار تصريحات جوسبان الايجابية ازاء المسألة الفلسطينية، وتجديده دعم فرنسا لقرارات الشرعية الدولية المتعلقة بحقوق الفلسطينيين، وشجبه الاستيطان، ومساندة حق الشعب الفلسطيني في دولة مستقلة، وكانوا اشبه بمحامٍ فشل في الدفاع عن قضية عدالتها واضحة. ولم يحافظوا على قدسية "حجر الانتفاضة" ولم يميّزوا بين اشكال مواجهة الاحتلال وبين الحوار الديموقراطي والتعبير عن وجهة النظر امام شخصية مرموقة. كل ذلك في وقت يحتاج الشعب الفلسطيني لكل اشكال الدعم المادي والاسناد المعنوي العالمي، وايضاً لمن يسمع رأي طلابه وعماله ونسائه وفلاحيه ومثقفيه، ويطّلع مباشرة على اوضاع اللاجئين وحجم معاناتهم في المخيمات، ويشاهد بأم عينيه خطر الاستيطان على عملية السلام ومستقبل التعايش بين الشعبين واستقرار المنطقة. واذا كان طلبة بيرزيت اخطأوا بحق انفسهم وبمفهوم الديموقراطية وأساؤوا التعبير والدفاع عن موقف عادل، فإن جميع المشرفين على برنامج الزيارة لم يقدروا جيداً درجة الاحتقان التي يعيشها الشارع الفلسطيني، ولاحقاً بالغت اجهزة الامن الفلسطينية في تدارك تقصيرها في تقدير الموقف. واياً تكن قناعات ودوافع جوسبان الخاصة بشن هجومه المباشر ضد الاعمال القتالية التي يخوضها "حزب الله" لتحرير ارضه من الاحتلال، فقد اخطأ تقدير الموقف ولم يدرك ابعاد تصريحاته غير المتوازنة وغير الموزونة وغير المنسجمة مع سياسة فرنسا الرسمية في لبنان، واثرها في علاقتها مع شعوب المنطقة وبقية برنامج زيارته. والاخطر ان تصريحاته صدرت في وقت يتبارى ساسة اسرائيل، وضمنهم رئيس الديبلوماسية في حكومة باراك، باطلاق تصريحات عنجهية وتهديدات ذات نكهة عنصرية فاشية ضد اطفال لبنان، لا تمت الى السلام بصلة، وايضاً في وقت يلف الظلام الدامس طرابلس وبعلبك بعد تدمير الطيران الاسرائيلي منشآت الطاقة ومرافقها الحيوية. لا شك في ان تصريحات جوسبان وردود الفعل الشعبية والرسمية عليها شدّت انتباه الرأي العام العالمي الى الصراع العربي - الاسرائيلي، وعزّزت مكانة "حزب الله" في صفوف الشعب اللبناني ووفرت له دعماً عربياً سياسياً ومعنوياً كبيراً، وسلّطت اضواء دولية واقليمية على مواقفه وسلوكه في مرحلة حساسة من مسيرة السلام على المسار السوري وملحقه اللبناني. فهل يستثمر "حزب الله" هذا الدعم في تعزيز مكانته المحلية والاقليمية، والتفاعل مع التوجه السوري اللبناني - الاسرائيلي الاميركي نحو التوصل الى اتفاقات سلام في الشهور القليلة المقبلة أم يصيبه الغرور ويقوده الى مغامرة سياسية غير محسوبة، تدخله في تصادم مباشر مع التيار الدولي الاقليمي الجارف؟ وهل ان تطور حركة المسار السوري يقرّب الخط الجهادي ل"حزب الله" من استنفاد أغراضه الوطنية، ويحوّل تظاهرات التأييد الشعبي في بيرزيت وبيروت اشبه باحتفالات التكريم والوداع التي تجريها القوى السياسية بالمناسبات؟ وبصرف النظر عن دقة المعلومات التي تتناقلها الاوساط الديبلوماسية حول قرب استئناف المفاوضات "العلنية" على المسار السوري، واذا كانت تصريحات باراك في مجلس الوزراء يوم 26 شباط فبراير وتوقيتها حول "وديعة رابين"، وموافقة بيريز وشامير ونتانياهو على الانسحاب من الجولان حتى خطوط 4 حزيران يونيو 1967 …الخ ليست عفوية، وهي كذلك، فإن التفسير المنطقي الوحيد لها انها جاءت على خلفية تطور الاتصالات السرية الجارية بين الطرفين، وتمهد الطريق امام عودة وفودهما الى شيبردزتاون في غضون اسابيع قليلة. كما انها استهدفت تهيئة الرأي العام الاسرائيلي لدفع ثمن "السلام المؤلم" الذي تحدث عنه. اما العودة الى طاولة المفاوضات فتؤكد انتهاء الطرفين من ملء الفراغات التي ظهرت في "الملخص الموسع" الذي قدمه كلينتون رسمياً في آخر جولة من المفاوضات. ولم يبق امامهما سوى اخراج الموضوع، واستكمال وضع اللمسات الاخيرة على بنود الاتفاق. واياً يكن ترتيب جدول الاعمال وعدد جولات التفاوض فلا جدال في ان مصالح الطرفين ومصالح الراعي الاميركي تدفع باتجاه التوصل، قبل حزيران يونيو المقبل، الى "معاهدة سلام" او "اتفاق اعلان مبادئ" تفصيلي وموسّع، يكون مرشداً لعلاقتهما المستقبلية، وينقلها من حالة الحرب الى حالة جديدة من السلام، وسيتضمن الاتفاق حتماً التزامهما انهاء نزاعهما وترسيم الحدود، ويحدد بدقة طبيعة السلام والفترة الزمنية التي سيستغرقها تطبيع العلاقات الثنائية وآلية تجسيده سياسياً وديبلوماسياً وامنياً واقتصادياً. يليه او يرافقه، وليس قبله، "اتفاق سلام" لبناني - اسرائيلي شامل ينهي النزاع ايضاً، بصرف النظر عن رأي كل القوى اللبنانية من دون استثناء، ويعالج الوضع المتفجر في جنوبلبنان، وينهي مبررات وجود الحزام الامني الذي أنشأته اسرائيل. ويعتقد اركان البيت الابيض ان الحل على المسارين السوري واللبناني بات في متناول اليد وله ميزات متعددة عن الحل على المسار الفلسطيني الذي يبقى صعباً. وحين يتوصل الطرفان السوري واللبناني الى اتفاقات مع اسرائيل فإن هذه برعاية تستكمل اتفاقاتها مع "دول الطوق"، وستشهد المنطقة تسارعاً في انفتاح مزيد من الدول العربية ديبلوماسياً واقتصادياً على اسرائيل. وبصرف النظر عن نيّات القيادة السورية فاتفاقها مع اسرائيل سيمنح باراك لقب "بطل السلام" ويعزز مكانته محلياً واقليمياً ودولياً. واذا كانت موافقة اسرائيل على الالتزام بقرارات الشرعية الدولية وبخاصة تنفيذ قرار 242 و338، والانسحاب حتى خطوط الرابع من حزيران يونيو، وحلّ مسألة الاستيطان بما ينسجم مع المصالح السورية، تمثل نماذج مفيدة للمفاوض الفلسطيني، فالاتفاق "المنتظر" سيجلب معه ضغوطاً عربية واميركية على القيادة الفلسطينية للصبر على باراك، وتأجيل صرف شيكات شرم الشيخ وواي ريفر وبقية حساب اوسلو، وقبول الترضيات البسيطة التي سيقدمها ولن تتعدى بعض حقوقها القديمة التي ماطل في تنفيذها. وسيدفع الاتفاق السوري - الاسرائيلي بالمفاوضات الفلسطينية - الاسرائيلية حول قضايا الحل النهائي للمراوحة مكانها طيلة السنوات الثلاث الباقية من ولاية باراك، الا اذا قبلوا اقل ما حققته سورية، ورضخوا للموقف الاسرائيلي وقبلوا اجراء تعديلات واسعة على حدود 4 حزيران، وبقاء المستعمرات والقدس تحت السيادة الاسرائيلية. الى ذلك سيضع الاتفاق السوري - الاسرائيلي وتابعه الاتفاق اللبناني - الاسرائيلي، "حزب الله" بين خيارين صعبين: اما الدخول في اللعبة السياسية الجديدة واحداث تغيير جذري وسريع في استراتيجيته السياسية والجهادية وفتح مسافة عن ايران والتساوي بالمعارضة الوطنية اللبنانية، او التصدي لها والتمسك ببرنامجه وخطه "الجهادي" وبإيران مرجعية له، والدخول في تصادم عنيف مع سورية واجهزة السلطة اللبنانية. اعتقد ان قيادة "حزب الله" التي اجادت، على مدى عقد من الزمن، قيادة الكفاح الشعبي اللبناني من اجل تحرير الجنوب، ونجحت في نسج خيوط تحالفاتها المحلية والاقليمية، وكيّفت بجدارة اعمالها القتالية بما يخدم توجهاتها الوطنية العامة ومصالح الحزب الخاصة، ستعتمد الخيار الاول، وتتحاشى العاصفة القوية التي ستهبّ على المنطقة بعد الاتفاق السوري اللبناني - الاسرائيلي وتتجنب التصادم مع تيار السلام الجارف الذي سيكتسح سورية ولبنان واقطاراً عربية اخرى. ولن تتوانى قيادة "حزب الله" في تبرير براغماتيتها السياسية بتحميل القيادة الفلسطينية مسؤولية اقفال طريق الجهاد امام المجاهدين لتحرير القدس. وستعمل على تكييف بنية الحزب الداخلية وتوجهاته الوطنية بما يتلاءم والحفاظ على دوره كقوة سياسية لبنانية طليعية. وستهبّ اكثر من قوة محلية واقليمية ودولية الى الترحيب بالتوجهات الجديدة ل"حزب الله" ولن تتردد في مساعدته على معالجة ذيول انقلابه على الذات، وبخاصة مصير اجهزته العسكرية. وبصرف النظر عن تقويم حجم الخسائر التي ألحقتها "واقعة بيرزيت" بالمصالح الفلسطينية ورد فعل السلطة الفلسطينية، ومدى تأثيرها في دور فرنسا في مراقبة تنفيذ الاتفاق الجديد، فإن تظاهرات طلبة بيرزيت وما سبقها وتلاها من تحركات شعبية في مناطق اخرى تبقى تعبيراً صارخاً عن حال الاحتقان التي يعيشها الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال وما آلت اليه عملية السلام على مسارها الفلسطيني. وهي ايضاً رسالة احتجاج "قاسية على الذات"، شديدة اللهجة موجهة الى كل القوى الاقليمية والدولية الصامتة على الممارسات الاسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني، وتلاعبها بالاتفاقات. خلاصتها: لا أمن ولا استقرار في المنطقة قبل ان يحقق الشعب الفلسطيني كامل حقوقه، مثله مثل السوريين واللبنانيين. ويمكن اعتبارها ايضاً نداء للنظام العربي بعدم تطبيع العلاقة مع اسرائيل قبل تحرير القدس، وعودة اللاجئين. وايضاً رسالة صادقة تتضمن التحية والتقدير للدور الذي لعبه "حزب الله" في تحرير الجنوباللبناني من الاحتلال الاسرائيلي، ووداعاً لخطّه الجهادي بالنيابة عن كل الشعوب العربية. * كاتب سياسي فلسطيني.