الشاي والقهوة يقللان الإصابة بالسرطان    المملكة توزع 2.100 حقيبة إيوائية في شمال قطاع غزة    لاعبو عمان: جمهورنا كان اللاعب رقم 11 بعد النقص العددي أمام السعودية    تعزيز التوسع العالمي لعلامة جايكو و أومودا مع إطلاق مركز توزيع قطع الغيار في الشرق الأوسط    غزة بين نيران الحرب وانهيار المستشفيات    انخفاض عدد سكان غزة بنحو 160 ألف نسمة في نهاية 2024    ضبط إثيوبيين في جازان لتهريبهما (87663) قرصًا خاضعًا لتنظيم التداول الطبي    «تعليم مكة» يُكرم 1000 طالب وطالبة لتفوقهم خلال العام الدراسي 1445 ه    أكثر من نصف مليون مستفيد من برامج "جمعية أجياد للدعوة" بمكة خلال عام 2024م    غارات أمريكية وبريطانية تستهدف صنعاء    ولي العهد يعزي رئيس وزراء بريطانيا في وفاة شقيقه    سعود بن نهار يلتقي العتيبي    أمطار وصقيع على الشمالية    أمير المدينة المنورة يرأس اجتماعاً لمناقشة استعدادات الجهات المعنية لاستقبال شهر رمضان    "الجاسر" يقف ميدانيًا على مشروع مطار جازان الجديد    أنجلينا جولي وبراد بيت يتوصلان إلى تسوية بشأن الطلاق بعد نزاع 8 سنوات    ضبط 7 سوريين في الرياض لارتكابهم حوادث احتجاز واعتداء واحتيال مالي    كونسيساو مدرب ميلان يتحدى ابنه في ظهوره الأول مع الفريق    مدير عام «مسام»: نجحنا في انتزاع 48,705 ألغام في عام 2024    أمير حائل يستقبل مدير الدفاع المدني    نائب أمير تبوك يستقبل مدير شرطة المنطقة    سوق الأسهم السعودية ينهي آخر تعاملات عام 2024 باللون الأخضر    أصول الصناديق الاستثمارية العامة تتجاوز ال 160 مليار ريال بنهاية الربع الثالث 2024م .. 84% منها "محلية"    تطبيق "سهم" يتجاوز حاجز المليون مستخدم في عام واحد فقط    مجلس الوزراء يشيد بنجاحات القطاع غير الربحي    انتهاء مدة تسجيل العقارات لأحياء 3 مدن.. الخميس القادم    التعاونية وأمانة منطقة الرياض تطلقان "حديقة التعاونية"    «الإحصاء»: معدل مشاركة السعوديات في القوى العاملة يصل إلى 36.2%    بتوجيه من القيادة.. وزير الدفاع يبحث مع الرئيس الإماراتي التطورات الإقليمية والدولية    هل يكون 2025 عام التغيير في لبنان؟    الصحة: إيقاف طبيب أسنان مقيم لارتكابه عددًا من الأخطاء الطبية في الرياض وتبوك    صناعة المحتوى الإعلامي في ورشة بنادي الصحافة الرقمية بجدة    النصر بطلًا لكأس الاتحاد السعودي لقدم الصالات    ميزة لاكتشاف المحتوى المضلل ب «واتساب»    المملكة تواسي حكومة وشعب كوريا.. القيادة تعزي الرئيس الهندي    ابق مشغولاً    مداد من ذهب    هزل في الجِد    هل قمنا بدعمهم حقاً ؟    رحلات مباركة    في نصف نهائي خليجي 26.. الأخضر يواجه عمان.. والكويت تلاقي البحرين    التأكد من انتفاء الحمل    زهرة «سباديكس» برائحة السمك المتعفن    مركز مشاريع البنية التحتية بمنطقة الرياض يعلن تفعيل أعماله في 19 محافظة و47 بلدية    نائب أمير مكة يطلع على أبرز المشاريع المنجزة بمحافظات المنطقة    لغير أغراض التحميل والتنزيل.. منع مركبات توصيل الأسطوانات من التوقف في المناطق السكنية    «الصفراء» حرمتهم.. والمدرج مكانهم    مُحافظ جدة يُكرّم عدداً من ضباط وأفراد مكافحة المخدرات    القهوة والشوكولاتة.. كماليات الشتاء والمزاج    5 فوائد للشاي الأخضر مع الليمون    مجلس إدارة هيئة الإذاعة والتلفزيون يعقد اجتماعه الرابع لعام 2024    أمير الشرقية يشدد على رفع الوعي المروري    مغادرة ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة والزيارة    الأخضر يختتم استعداداته لمواجهة عُمان في نصف نهائي خليجي 26    كلام البليهي !    التغيير العنيف لأنظمة الحكم غير المستقرة    13 ألف خريج وخريجة من برامج التخصصات الصحية    التعصب في الشللية: أعلى هرم التعصب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التطبيع : كلمة زائفة أخرى من قاموس الهزائم العربية
نشر في الحياة يوم 14 - 03 - 2000

إذا سلّمنا بأن غياب العقل النقدي، والعجز بالتالي عن الارتقاء إلى مستوى ثقافة الاسئلة في مجتمع ما، ينتج عنه مغادرة الفكر للواقع، والغرق في العقم الايديولوجي وفقدان المناعة ضد خداع الذات، والتمترس داخل قواقع اليقين البالية في مواجهة المتغيرات والوقائع الجديدة، وحينئذ تتلبس الأفكار ملامح وسلوكيات الغرائز، وتلجأ الى مراوغات اللغة وتلوناتها لإخفاء ضعف العقل، وعلاج "الجروح النرجسية" التعبير لجورج طرابيشي، إذا سلّمنا بذلك، سنجد أن العقل العربي الرسمي والسائد هو حالة واضحة لكل ذلك الى درجة البؤس. وإذا عرضنا المفاهيم والشعارات العربية طوال نصف قرن في مواجهة إسرائيل والى الآن، سيتأكد ذلك من دون أي التباس، أي منذ "إسرائيل المزعومة"، ولافتة الكنيست المُختلقة "من الفرات الى النيل تمتد أرض إسرائيل"، وبروتوكولات حكماء صهيون "السرية" لحكم العالم ثبت أنها من تلفيق اغناتيف وزير داخلية روسيا القيصرية إبان اغتيال القيصر الكسندر الثاني وخلال "تطهير" أراضي روسيا "المقدسة" من اليهود والألمان، ثم "أعوان الرجعية والاستعمار"، و"سنهزم إسرائيل ومن وراء إسرائيل"، و"ما أخذ بالقوة لن يسترد إلا بالقوة"، و"تحرير كامل التراب الفلسطيني من النهر إلى البحر"، ولاءات الخرطوم الثلاث، و"مرحلة الردع"، و"جبهة الصمود والتصدي"، وصولاً إلى "السلام خيار استراتيجي"، "التضامن العربي"، "حشد الطاقات"، ومبتكرات الوعي الزائف التي لا تتوقف، وعادة الحرب الإعلامية ضد إسرائيل مستمرة عبر الإعلام المرئي والمسموع والمقروء.
لكن ثمة ما هو حقيقي في ظل كل ذلك وهو ضياع الحرية والحقيقة، وتأسيس جمهوريات الخوف والاستتباع التي تقودها نماذج ما دون الحد الأدنى، التي هُزمت في معارك الحرب والسلم على السواء، وانكشفت المواجهة مع إسرائيل عن هزيمة حضارية شاملة للعرب، وفي كل الجوانب من دون استثناء، ورغم كل ذلك، ومع فقدان كامل لشرف الاعتراف بالهزيمة، لم يكف ذلك العقل عن طريق أداته الأولى بلا منازع وهي المثقف الرسمي وأجهزة الدعاية الباهظة الكلفة عن تغذية قاموس الهزائم بالمزيد من المفاهيم والشعارات الزائفة، من دون كلل أو ملل، ناهيك عن الفضائحية والتشهير بإسرائيل للاستهلاك المحلي مثل: التآمر على خصوبة العرب! وتزوير القرآن، واللبان العلكة الجنسي، والبذور والأسمدة المشعة، والتسبب في الزلازل، والتسبب في سحابة التلوث فوق القاهرة، ونقل الإيدز وأخيراً وليس وليس آخراً التسبب في مأساتي الكشح 1998 و2000، والحبل على الجرار في تراكم مفاهيم الحشد والتعبئة الزائفة ذات الأهداف الملتوية، وفي تدليل واضح على انهيار الإدراك العام "وتحطم العقل" التعبير لحازم صاغية، والانصراف عن المواجهة الأصلية وهي معركة السلام، غير أن ما يعنينا هنا هو آخر حلقات تلك السلسلة غير الذهبية وهي الكلمة / الاتهام وأعني بها كلمة "التطبيع".
شُرعت تلك الكلمة أولا في مصر، أول من وقع اتفاقات الهدنة في حرب 1948، وأول من وقع اتفاقات السلام في نهاية السبعينات.
وردت عبارة علاقات عادية أو طبيعية NORMAL RELATIONS في الفقرة الأخيرة من الوثيقة الثانية من اتفاقات كامب ديفيد الموقعة في 17 أيلول سبتمبر سنة 1978. كما وردت في الملحق الثالث، وفي البروتوكول في شأن علاقات مصر وإسرائيل في معاهدة السلام الموقعة في 26 آذار مارس 1979، وكان المقصود إنهاء حال المقاطعة التي انتهت بقرار رسمي بقانون في شباط فبراير 1980، وكانت المقاطعة يحكمها القانون 506 الصادر في 1955 وتشمل كل أوجه العلاقات، وبشكل جامع مانع.
وعندما كان الرئيس السادات يعتبر زيارة إسرائيل رصيداً سياسياً، سافر معه وبعده الكثير من الصحافيين ورؤساء التحرير ورجال الثقافة والفكر والفن.
وعندما تغير الموقف واعتبر الرئيس مبارك زيارة إسرائيل ورقة سياسية، امتنعوا عن زيارة إسرائيل، ثم ترددت تلك الكلمة "تطبيع" المسكوكة مثل كل شعارات الفاشية على شكل اتهام سريع وحاسم، وفي الوقت نفسه ملتبس وغامض، وليس له معنى محدد، ومنقطع الصلة بالعبارة الأصلية، وليس له تصنيف يحدد ما يطبق وما لا يطبق عليه، وهو بالقطع لم يطبق على السياسيين والديبلوماسيين والعسكريين، ولا على رجال البنوك، ولم يوجه الى العديد من الصحافيين ورؤساء التحرير ورؤساء مجالس إدارات الصحف القومية ومنهم من أصبح نقيباً للصحافيين، لكنها أطلقت على الكاتب المسرحي علي سالم والمطرب مدحت صالح والمخرج السينمائي الراحل حسام الدين مصطفى. ولاپبد أن يثور هنا تساؤل: هل لأن المجموعة الأخيرة ليست من الصحافيين، أي ليست لهم أنياب ترد الصاع صاعين، وبذلك هم أهداف سهلة على شاكلة ضحايا الإرهاب في الجزائر؟ أم لأن أغلب "الزوار" قبلهم من الصحف "القومية" أي يعملون لدى الدولة؟ وفي اعتقادي أن هذا النوع من الاسئلة لا ينتظر إجابات.
وإذا تناولنا الجوانب الأخرى من قضية "التطبيع" أو بمعنى أدق العلاقات بين مصر وإسرائيل سنجد الآتي:
- عدد الليالي السياحية الإسرائيلية في مصر خلال العام 1996 فقط هو 5،1 مليون ليلة تقريباً، وعدد السياح 321 ألف سائح، وتأتي إسرائيل الدولة الرابعة سياحيا في مصر قبل فرنسا، وقبل أي بلد عربي.
- إسرائيل مستورد رئيسي للبترول المصري وهو يمثل 30 في المئة من مجموع استهلاكها البترولي.
- تشارك إسرائيل في العديد من المشاريع في مصر وأهمها حصة 20 في المئة من مجمع البتروكيماويات في الاسكندرية بكلفة كلية 2،1 بليون دولار، ويشارك مواطنون إسرائيليون في العديد من المشاريع أهمها حصة 49 في المئة من مصنع "دلتا" للملابس الداخلية وهو أكبر مصنع من نوعه ويعمل فيه أكثر من 3 آلاف عامل وموظف.
- عدد الزيجات المختلطة بين شبان مصريين وفتيات إسرائيليات 1039 حالة حتى نهاية 1996.
- عدد الشباب المصري الذي يعمل في إسرائيل سنويا يتراوح ما بين 10 آلاف إلى 20 ألفاً، وأفادت مذكرة تلقتها وزارة الخارجية المصرية من شعبة شركات العمالة المصرية في الخارج، والتابعة لاتحاد الغرف التجارية المصري أن عدد الشباب الذين توجهوا للعمل في إسرائيل سنة 1995 فقط وصل الى 14 ألف شاب.
- تستورد مصر الفواكه والملابس والأدوات الصحية والسيراميك والمبيدات والبذور والتكنولوجيا والمعلومات في مجالات الزراعة والثروة الحيوانية والصناعات الزراعية.
- تخرج ستمئة باحث مصري وتدربوا في إسرائيل في المجالات الزراعية والكيمياء الحيوية حتى 1996.
- تم توقيع اتفاق تجاري ينظم العلاقات بين مصر وإسرائيل بدأ سريانه في أيار مايو 1981 ويقضي بتطبيق شروط الدولة الأجدر بالرعاية.
- تتذبذب إسرائيل ما بين المرتبة الأولى والثالثة في تعاملات مصر التجارية بما فيها البترول، متنافسة في ذلك مع أكبر الدول العربية في التعاملات التجارية مع مصر.
- من اللافت أن صادرات مصر إلى إسرائيل زادت ابان فترة حكم نتانياهو، وهي نفسها فترة الفتور السياسي بينهما، وذلك يخفي مُعامِلاً جديداً في تلك العلاقة وهو عدم تأثر الاقتصاد بالسياسة بينما الارتباط وثيق بين الدعاية والسياسة.
- طوال 27 سنة منذ حرب تشرين الأول اكتوبر 1973 لم يحدث صدام مسلح أو تهديد باستعمال القوة بين مصر و"جارتها" إسرائيل، في حين أنه حدث صدام مسلح مع "جارتها" العربيتين ليبيا والسودان.
- يعمل الخبراء الإسرائيليون في المعامل والمزارع في مناطق عدة في مصر، ولهم ثلاث مزارع ضخمة في العامرية والمنوفية وطريق القاهرة - الاسكندرية الصحراوي.
- تطير طائرات تابعة لشركة "مصر للطيران" إلى إسرائيل في رحلات منتظمة تحت اسم "اير سينا"، والشيء نفسه تقوم به شركة "العال" الإسرائيلية.
- توجد شركة باص للنقل البري بين البلدين وهي مساهمة مشتركة بينهما.
- يدخل الإسرائيليون الى مناطق واسعة من سيناء بالهوية الشخصية من دون فيزا ومن دون جواز سفر ولمدة اسبوعين، وهو ما لا يحق لحاملي كل الجنسيات العربية.
- لإسرائيل مركز أكاديمي يتردد عليه الطلاب الباحثون في القاهرة منذ سنة 1982، ويعمل فيه 3 إسرائيليين و5 مصريين، وتلقى فيه المحاضرات بالعبرية والإنكليزية والعربية بصفة أسبوعية، ولا يقل عدد البحوث والدراسات المشتركة في غير المجالات السياسية عن 2500 بحثاً ودراسة حتى نهاية 1996.
- تنتشر شرائط الكاسيت للأغاني الإسرائيلة داخل مصر، وأشهرها لمغنية اسمها عزيزة سلطان.
- الترتيبات العسكرية في سيناء والمياه الاقليمية حولها وفي غرب القناة جواً وبراً تعطي لإسرائيل عمقاً استراتيجياً حاسماً.
- لإسرائيل سفارة في القاهرة وقنصلية في الاسكندرية، ولمصر سفارة في تل أبيب وقنصلية في إيلات.
- تم توقيع اتفاقية لتوريد الغاز من مصر إلى إسرائيل في نهاية 1999 مدتها 20 سنة تتضمن إنشاء خط لأنابيب الغاز عبر سيناء، بعد منافسة شديدة مع قطر، وتسمح الاتفاقية من الناحية العملية لإسرائيل بتسويق الغاز المصري مستقبلاً إلى كل من لبنان وسورية وتركيا، وتتلكأ إسرائيل في تنفيذ الاتفاقية انتظاراً لتقويم الاكتشافات الغازية في صحراء النقب.
- طبقاً للاتفاقات يوجد تعاون أمني بين مصر وإسرائيل، وذلك يذكّر بأنه عند وجود الشيخ أحمد ياسين في السودان بعد زيارته ايران لم توافق مصر على منحه تأشيرة دخول إلا بعد تأكيدات إسرائيلية بالسماح له بدخول غزة.
- بعد التحكيم الدولي الخاص بمنطقة طابا لمصلحة مصر، تعتبر الحدود الحالية بين مصر وإسرائيل هي الحدود المستقرة والنهائية والمعترف بها بين الطرفين، رغم أن لمصر مناطق داخل إسرائيل مثل قرية أم الرشراش التي أصبحت جزءاً من ميناء إيلات، في حين أن الحدود بين مصر والسودان غير مستقرة وليست نهائية.
وهكذا لم يتبق لتطبيق الكلمة الاتهام سوى المجال الثقافي، ومجال المعلومات والوثائق، أي مجال المعرفة والإبداع وبالتالي مجال المقارنة بين ما حدث هناك وما حدث هنا، ومعرفة لماذا انتصرت إسرائيل ولماذا هزمنا، والتفاصيل الدقيقة الموثقة لكل ذلك. وقبل أن نتوغل في تحليل قضية "التطبيع" اضيف بعداً آخر أعتقد أنه مهم وهو رأي بنيامين نتانياهو في المثقفين والكتاب الإسرائيليين أورده في كتابه "مكان بين الأمم": "... تحولت الرغبة في التخلص من المناطق يقصد الضفة والقطاع الى ما يشبه المسلمات لدى المفكرين الأخلاقيين والمثقفين لا يجوز معارضتها، ولتحقيق هذا الهدف الانسحاب تجند عدد من الكتاب والمسرحيين والمحاضرين والصحافيين المعروفين في الدولة، وفي سبيل ذلك كانوا على استعداد لتجاهل المؤشرات الانذارية كافة التي تؤكد أن منظمة التحرير وشركاءها لم يتنازلوا قيد أنملة عن خطتهم لإبادة إسرائيل...". إنه الحب المفقود بين الفاشية والثقافة، وهو نفسه موقف النازية من المثقفين الأحرار حين بدأت بحرق الكتب في سنة 1933، وبعدها هاجر توماس مان ووالتر بنيامين وانا سيريل وحنه أرندت والبرت اينشتاين والعديد من مفكري وكتاب المانيا. وهو الموقف نفسه الذي اتخذه العديد من الكتاب والمفكرين والمبدعين من الفاشية الاسبانية والبربرية السوفياتية والموقف نفسه نرى تطبيقاً حديثاً له في إسرائيل، إذ وقف كتابها الكبار ضد اليمين القومي والديني العنصري مثل ديفيد غروسمان مؤلف "ابتسامة الجدي" و"ريح أصفر" وعاموس عوز في رواية "ميخائيل يا حبيبي"، واليف بيت يهوشواع في قصة "في مواجهة الغابات" و"صيف 70"، حيث تفيض أعمالهم بقيم إنسانية رفيعة، والاعتراف بالحق الفلسطيني، والعداء للأسس الاسطورية للصهيونية ولفكرة إسرائيل الكبرى، كما أن الادب العبري ذا الوجدان العربي الذي أبدعه اليهود العرب الذين دفعتهم الفاشية الى الهجرة من العالم العربي، هذا الأدب يصعب حصره، ومنه على سبيل المثال "صيف الاسكندرية" للروائي المصري الراحل إسحاق جارمازانو، "ميشيل عزرا سيفرا وأولاده"، عن دمشق لحاييم هزاز، و"فكتوريا"، "وداعاً بغداد"، "نذر الخريف" عن العراق لكل من سامي ميخائيل وايلي عامير وشمعون بلاص، والشيء نفسه عن اليمن والمغرب والعديد من الدول العربية الأخرى، حتى أن المرء يحار في توصيف ذلك الأدب. كما أن الدراسات الإسرائيلية عن الأدب العربي غزيرة وحيوية، ومنها دراسات ساسون سوميخ عن يوسف إدريس ونجيب محفوظ، وكانت دراساته المترجمة الى لغات عدة إحدى وثائق استحقاق محفوظ جائزة نوبل.
وبالإضافة الى ذلك هناك التعبير السياسي لهؤلاء الكتاب في حركات السلام واحزاب اليسار وروابط الحوار والنقابات المشتركة وكتلة السلام التي أسسها أوري افنيري، وفاليسا لانجير محامية "العربي" هذا الضمير الذي يسير على قدمين، والتي أوحت الى المخرج كوستا غافراس بفيلم "حنا ك"، والجميلة ليا تسيميل محامية الانتفاضة وزملاؤها من المناضلين اليهود والعرب في "مركز المعلومات البديلة". وبعضنا يذكر تظاهرات الاحتجاج الوحيدة في الشرق الأوسط التي اندلعت في تل أبيب والقدس وسار فيها مئات الألوف احتجاجاً على غزو لبنان ومجازر صبرا وشاتيلا، ونجحت في تقديم وزير الدفاع شارون ورئيس الأركان إيتان الى المحاكمة، وانتهت الى اسقاط حكومة بيغن اليمينية، ناهيك عما تمثله الأطراف السياسية والثقافية غير المقيدة للعرب في إسرائيل من ارصدة وجسور للسلام، بعد أن تم تخويفهم ومقاطعتهم ضمن سياسة التبديد وفنون صناعة الأعداء التي مارستها القوى الفاشية العربية. وهنا تبدأ الأسئلة الحرجة، اذ ألا تفيدنا تلك الابداعات والمواقف السياسية في معركة السلام؟
والشيء نفسه يمكن تطبيقه على فضاء المعلومات والوثائق في إسرائيل، وفي هذا السياق تترى أعمال المؤرخين الجدد التي تعتبر قراءة أخرى للصراع وللتاريخ الصهيوني، ونشر خرائط 400 قرية عربية تمت إزالتها عند إنشاء الدولة، وما أعلن عن مجزرة قرية طنطورة الفلسطينية، وكل ذلك غائب أو ناقص في الوثائق العربية، وكان قتل الأسرى المصريين وشيخوخة نظام الأمان في مفاعل ديمونة النووي قد أعلن عنهما في إسرائيل. وتضيف القرارات الأخيرة لوزير التعليم يوسي ساريد بإحياء ذكرى مذبحة كفر قاسم في الكتب المقررة لتلاميذ المدارس الإسرائيلية، ومحاولته تدريس الأدب الفلسطيني، بما فيه الأدب القومي ومنه قصائد محمود درويش، وكذلك أعمال الأدباء من اليهود العرب للمرة الأولى.
إن كل ما سبق هو جزء من القراءة العبرية للصراع، وقبل ذلك هو جسور حقيقية من أجل السلام العادل والتعاون الاقليمي وإرساء أسس التسوية التاريخية والثقافية بعد مرحلة التسوية الجغرافية. ولكل ذلك فإن عزل إسرائيل عن الاقليم العربي هو مطلب المؤسسة العسكرية الإسرائيلية واليمين القومي والديني ونتانياهو وباراك أيضاً، ويحين السؤال الحرج الثاني عن المستفيد على الجانب العربي الى جوار اليمين العنصري في إسرائيل، من غياب تلك الجسور وتلك القراءة عن العقل العربي؟
واخيراً تمنح الاتفاقية بين مصر وإسرائيل الحق للطرفين لإقامة مركز اكاديمي كل لدى الآخر، واستغلت إسرائيل هذا الحق "طبعاً" منذ 1982 ولم تنفذه مصر. ومرة أخرى من المستفيد من إبعاد العقل المصري والعربي عن دراسة المجتمع الإسرائيلي؟ وهكذا يتم إبعاده عن معركة السلام كما أبعد عن معارك الحرب من قبل، وتستمر بالتالي مفاهيم الحشد والتعبئة الفاشلة التي حصرت مرحلة المواجهة لأربعة عقود ونيف في حدود الحسم العسكري، وها هي تكرر الفشل بحصر مرحلة السلام في حدود الأمن، وإبعاد العقل المدني عن التفاعل. إن المستفيدين الى جانب اليمين العنصري في إسرائيل هم، من الجانب العربي، أعداء الديموقراطية والفاشيون الذين يطوقون كل إمكانية للحاور بين القوى المدنية الديموقراطية العربية وبين أنصار السلام المعادين لقوى الحرب والتوسع في إسرائيل، مخافة أن يتحول التطويق الى الاتجاه المعاكس.
والتطبيع هو الشفرة الجديدة بين أطراف ذلك الحلف القديم غير المباشر بين الفاشية على الجانبين، ذلك الحلف غير المقدس الذي قاد الصراع لنصف قرن حتى الآن، ودفعت الشعوب العربية فيه فاتورة الخسائر وحدها إذ ضاع عليها قرن التحرر والتحديث، وحُذف العمل السياسي والثقافة الحرة من العقل العربي وحل محلهما التعصب والديماغوجيا وفن صناعة الأعداء، في ظل شعارين صُنعا من الزيف والأوهام ارتفعا على الجانبين وتبادلا المبررات والشرعية وهما "إزالة إسرائيل" و"إسرائيل الكبرى"، وما زالا يعملان على قدم وساق من أجل استمرار الخسائر العربية والحرب إلى الأبد.
وهكذا يمكن معرفة أين سُكت تلك الكلمة / الاتهام التي تركت حرية غير مشروطة للحكومات كي تكون "على حل شعرها"، وقيدت المثقف والثقافة الحرة. إنها بالطبع من مسكوكات الثقافة الرسمية ومثقفيها الرسميين، ولا يغير من الامر شيئاً بل يؤكده أن تتبع قوى فاشية غير رسمية السبيل نفسه.
* كاتب مصري.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.