واقعتان تلخصان بكثافة المعقول واللامعقول في المشهد السياسي العربي. الأولى مشاهدة الرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة يصافح بحرارة رئيس الحكومة الاسرائيلية ايهود باراك وهي مبادرة رمزية صغيرة لكنّ تأثيرها لا يقل عن تأثير خفقة جناح فراشة في بحر الصين على تغيير وجهة اعصار في البحر الكاريبي حسب نظرية الكاووس الفيزيائية. الثانية سماع جمعية المحامين المصريين الخاضعة لنفوذ الاخوان المسلمين تطالب بتقديم رئيس جمعية القاهرة للسلام للمحكمة بتهمة "التخابر مع دولة اجنبية" المستوجبة لعقوبة الاعدام وبإسقاط الجنسية المصرية عن اعضاء الجمعية وحلها.بما ان المصائب لا تأتي فرادى فقد بارك رئيس اتحاد المحامين العرب، فاروق ابو عيسى، هذه الطلبات الهاذية التي تنتهك بفظاظة حقوق الانسان في حرية التعبير والتفكير وتنتهك فضلاً عن ذلك نصا وروحاً القانون المصري نفسه، لأن اسرائيل لم تعد في حال حرب مع مصر فضلاً عن ان السعي لدفع مسار السلام العربي - الاسرائيلي أمل عزيز يراود شعوب المنطقة ورغبة دولية اجماعية اذا استثنينا ملالي ايران الذين انتصرت فيهم غريزة الموت على غرائز الحياة. ان يرتكب رجال قانون، يُفترض فيهم السهر بعين لا تنام على حمايته، كل هذه الانتهاكات الفجّة للقانون وحقوق الانسان فذلك مؤشر قوي الى اننا لسنا امام عقول تفكر بل امام انفعالات طاغية ومتجذرة اكتسحت التفكير السليم من بابه الى محرابه، امام صدمة وجدانية جارحة، امام قناعة باردة ذات جذور بعيدة الغور عطّلت الفاهمة. في الواقع نحن تجاه هُذاء اي خروج على قانون المنطق بما هو تعليل وتدليل لا مكان فيه للانفعال الذي يقلب التفكير السليم رأساً على عقب. فما هو الباعث النفسي العنيف الذي دفع رجال قانون الى الخروج على القانون؟ هو رهاب اليهود Judeo phobie الذي عالجه النفساني الفرنسي Maisonneuve في كتابه "أقصى اليمين على أريكة التحليل النفسي" الذي عرضته في هذه الصفحة 8 و9 حزيران/ يونيو 1998 وفحواه ان كراهية اليهود وهُجاس الثأر منهم علّة تصيب رجالاً لم يوفّقوا صغاراً في حل العقدة الاوديبية بتقمّص شخصية اب قوي وودود يمنع رمزياً أوديب الصغير من اقتراف خطيئة سفاح المحارم الوهمية ذات العواقب الكارثية على شخصيته النفسية. التماهي الناجح مع الأب يساعد الطفل على الاستقلال الذهني عن جسد الأم التي فارق بالفطام احضانها. وفي المقابل فان فشل هذا التماهي وتوهّم ارتكاب خطيئة سفاح المحارم في غياب الأب الميت أو الغائب او الضعيف يجعل حضور اليهودي في لاشعور طفل الأمس، الذي فشل في اجتياز الطور الأوديبي 3 - 6 سنوات بسلام، رمزاً لاقتراف الفعل الآثم الذي تُنازع فيه الرغبة الرهبة، ويجعل تالياً حضور اليهودي على ارض الأمة - الأم اغتصاباً لشرفها وتدنيساً لطهارتها. يرد طفل الأمس، الذي اصابت منه البارانويا مقتلاً، على "التدنيس" بثأرية هاذية ضد الآخر عامة، واليهودي خاصة. يظلّ رهاب اليهود كامناً في فترات الانفراج لكنه سرعان ما ينفجر ارهاباً في لحظات الازمة التي تخرجه الى حيّز الفعل وتؤجّجه. وهكذا انفلت هذيان رهاب اليهود من عقاله في روسيا اثر اغتيال اسكندر الثاني سنة 1881 متجسداً في تنظيم مذابح لليهود استمرت عشرين عاماً كتب خلالها البوليس القيصري سنة 1900 "بروتوكولات حكماء صهيون" وروّجه على أوسع نطاق لاعطاء بارانويا "المؤامرة اليهودية الماسونية" على دول ومؤسسات وديانات وأخلاق البشرية قاطبة سنداً مادياً. وما زالت فصلية الحركة الاصولية التونسية في فرنسا "الانسان" تروج هذه الاكذوبة البوليسية حتى الآن. وفي فرنسا انفجر رهاب اليهود ارهاباً بهم سنة 1882 اثر افلاس البنك الكاثوليكي "الاتحاد العام" فحمّلت الكنيسة مسؤولية افلاسه لمناورات ومؤامرات "المال اليهودي". الأمر نفسه حدث في المانيا اثر هزيمتها في الحرب العالمية الأولى بسبب "طعنة الخنجر في الظهر" التي سدّدها لها اليهود المتربصون بالأمة - الأم الألمانية. وباستيلاء النازية على الحكم سنة 1933 غدت ابادة احفاد "حكماء صهيون" برنامجاً سياسياً اسفر تطبيقه عن ابادة ثلث الشعب اليهودي: ستة ملايين نسمة! في العالم العربي، عكساً لأوروبا، لم يستيقظ رهاب اليهود الكامن في لحظة ازمة بحثاً عن كبش فداء ضعيف يلعب "دور الفرقة الشريرة" التي تلقى على كاهلها توترات الأمة ونزاعاتها تخليصاً لها من وطأة الشعور بالذنب بل ايقظته مخاطر جدية على الفلسطينيين منذ وعد بلفور 1917 وزاده تأججاً قيام الدولة اليهودية في 1948 على انقاض الشعب الفلسطيني الذي اقتلع معظمه من أرضه. سيبلغ رهاب اليهود اوجه في حرب 1967 التي ايقظت العرب من وهم لذيذ كان يداعبهم: تحرير فلسطين من البحر الى النهر وتوحيد امتهم من الخليج الى المحيط. لهذا السبب بالذات عاش العرب، كل العرب تقريباً، هذه الحرب كهزيمة تاريخية، كاذلال ما بعده اذلال، كخصاء. روى لي الكاتب الاسرائيلي شمعون بلاص ان الحكومة الاسرائيلية جندت غداة الحرب المستعربين اليهود لاحصاء السكان الفلسطينيين وكلما سأل المستعربون الاشكيناز الذين ينطقون الحاء خاء سكان القرى التي يمرون بها: "هل اخصيناكم؟" يردون عليهم: "أي والله خصيتمونا". عداء التطبيع الهاذي يفسره فيما يفسّره من عوامل نفسية لاشعورية جرح الخصاء الغائر الذي احدثته هذه الحرب والذي ما زالت الحكومات الاسرائيلية المتعاقبة باستثناء حكومة رابين - بيريز تصبّ عليه الملح! ضحايا رُهاب اليهود عاجزون بنيوياً عن الفهم الموضوعي للواقع الموضوعي مما يدفعهم الى رفض التطبيع رفضاً مطلقاً لأن خطأ اسرائيل الوحيد هو وجودها وكفّارته الوحيدة هي ازالتها. تحت تأثير هذا التعصب الأعمى لفكرة عمياء عظمت لتعطي معتنقيها الانطباع بأنهم مثلها عظماء دفاعاً لا شعورياً ضد مشاعر الهوان التي يكابدونها. التطبيع بما هو اضفاء للشرعية على بقاء اسرائيل يعاش منهم كاقتلاع لهم من وهم اجماعي لذيذ، كوضع لهم وجها لوجه امام واقع محبط يفقد حياتهم معناها. في مثل هذا المناخ النفسي تغدو ممارسة العنف بأقصى درجاته ممكنة. لكنّ خصوم التطبيع ليسوا كتلة واحدة، بل هم متنافرون، منهم المثقفون الشعبويون الذين لا يقولون لجمهورهم الا ما يريد ان يسمعه منهم لا قناعاتهم الحقيقية المزعجة. ومنهم من يرفضه رفضاً مشروطاً بأحلام السلام وقيام الدولة الفلسطينية. هؤلاء يختلفون عن محبّذي التطبيع قبل السلام، الذي دشّنه الملك الحسن الثاني ثم الرئيس بوتفليقة، في الدرجة لا في النوع. انهم يرفضونه شكّا في جدواه فقط لا لأسباب ايديولوجية او دينية. حجة المطيعين هي ان التطبيع قد يساعد على بناء الثقة مع الرأي العام الاسرائيلي الذي شككه الارهاب الاسلامي منذ اغتيال الرئيس السادات الى عمليات "حماس" الانتحارية في ايمان العرب بالسلام. كسب الرأي العام ربما ساعد على تسريع السلام وجعله اكثر دفئاً وكرماً وتحضيراً سيكولوجياً للتآخي، العربي - اليهودي الذي قد يشكل رافعة من روافع تحديث منطقة ما زالت تعشش فيها قيم ومؤسسات القرون الوسطى من قبلية وطائفية الى احتقار المرأة والطفل وإقصاء غير المسلم عن حقوق المواطنة بسبب سيادة المبادئ الثيوقراطية على الديموقراطية. النواة الصلبة من اعداء التطبيع الراديكاليين موعودة على الارجح بالتهميش على غرار الشيع النازية المجهرية في أوروبا الغربية، فالسلام آت لأنه مسجل في منطق الحقبة التي تشهد واقعاً دولياً غير مسبوق يحركه اتجاهان رئيسيان: العولمة والارادة الدولية المصمّمة على تسوية النزاعات الموروثة عن عهد الحرب الباردة، ومنها الصراع العربي - الاسرائيلي المنهك والذي فقد وظيفته: استنزاف الدول العربية الحليفة للسوفيات. كل مقاومة لهذين الاتجاهين المعبّرين عن روح الحقبة يائسة لا تغري الا المثقفين العاجزين عن فهم جديد التاريخ والتكيّف معه. في هذا السياق العام فان تطبيع العلاقات الاسرائيلية العربية عاجلاً او آجلاً اي ملاءمتها للمعايير الدولية والعولمية ارادة دولية لا مردّ لها. وهكذا فمنذ الآن السؤال الحقيقي لم يعد هل سيتم التطبيع؟ بل متى وكيف سيتم؟ طبعاً على نوعية السلام القادم وكيفية الوصول اليه ستتوقف نوعية التطبيع. اذا كان التطبيع الكمي الرسمي اي قيام علاقات ديبلوماسية طبيعية وفتح الحدود امام تدفق الرساميل، السلع، الافكار والسياح امراً مفروغاً منه لأنه شرط السلام الشارط، فان التطبيع المرهص بالتآخي العربي - اليهودي الضروري والممكن هو التطبيع النفسي اي استبطان وقبول الوعي الجمعي في الفضاء العربي الاسلامي لوجود اسرائيل كفرصة له لا كخطر عليه. مثل هذا التطبيع النوعي، المفيد للعرب والاسرائيليين معاً، يتوقف على نوعية السلام الاسرائيلي - الفلسطيني خاصة، اي عمّا اذا كان سيكون حقاً سلام شجعان ام سلام إذعان؟ * كاتب تونسي