كانت أربع سنوات فارقة في الشرق الأوسط، تلك التي بدأت في تشرين الأول اكتوبر 1991، وامتدت حتى نهاية 1995. وفي اثنائها التقى العرب والإسرائيليون في مدريد، وكانت المصافحة التاريخية بين ياسر عرفات واسحق رابين في البيت الأبيض، والتوقيع على إعلان المبادئ بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية والتوصل الى معاهدة سلام بين إسرائيل والأردن، وانعقاد مؤتمرين اقليميين اقتصاديين في الدار البيضاء وعمّان، والانخراط في مفاوضات سلام جدية بين إسرائيل وسورية، إضافة الى مبادرات من دول عربية عدة لإقامة علاقات مع الدولة اليهودية وزيارات رسمية إسرائيلية لعدد من الدول العربية. وفجأة، تهددت مسيرة سلام الشرق الأوسط، باغتيال اسحق رابين، على يد يهودي متشدد، وبتفجيرات انتحارية، قام بها متشددون فلسطينيون اسلاميون. وبدت الأمور كما لو أن شعوب الشرق الأوسط عادت الى الوراء سنوات طويلة، وكأنما الحديث عن سلام بين العرب وإسرائيل ضرب من الحماقة. فهناك وهنا، ارتفعت الأصوات بالتساؤل الاستنكاري عن جدوى عملية السلام. إذ أن العرب، الذين اعدوا انفسهم لقبول الدولة اليهودية والاعتراف بحقها في الوجود، اصبحوا لا يأملون في "تسوية" لأنهم لا يجدون أحداً في اسرائيل يعقد معهم "صفقة". ومن جانبهم تزايد الإسرائيليون الذين يعتقدون أن عملية السلام، لم ينتج عنها إلا تسارع الإرهاب وتوسيع الانقسامات المستمرة داخل إسرائيل. والأبعد من ذلك، أن نسبة من الإسرائيليين تعتقد أن العرب يتفاوضون من أجل انسحاب القوات الإسرائيلية من الأراضي التي احتلتها العام 1967، وسيلجأون العرب بعد ذلك الى استخدام تلك الاراضي في اشعال صراع مسلح لتحرير بقية الأراضي وتدمير إسرائيل. في تلك الأثناء، كنتُ أعيش في نيويورك، وتعودت خلال تلك الفترة أن امضي بين وقت وآخر عطلة نهاية الاسبوع في ضاحية بروكلين لأشتري بعض اللوازم الشرق أوسطية، وأجلس على مقهى في اتلانتيك افينيو أراقب الناس وما يجري، وكانت اتلانتيك افينيو تفجّر فيّ "نوستالجيا" الى الشرق الأوسط الذي ابتعدت عنه. وذات مرة، قطع نادل المقهى خلوتي وقدم لي نفسه باعتبار أنه اسرائيلي قائلاً إنه عرف أني مصري لأنه لاحظ تعودي على قراءة جريدة "الأهرام"، وطلبي حساء "الملوخية" دائماً. وتناقشنا حول تعايش العرب واليهود في اتلانتيك افينيو وتعايش المسلمين والحسيديين اليهود في برو بارك في بروكلين. قال لي إن كلا من العرب واليهود، يتلقون العلاج في المستشفى نفسه، ويلتقون للغداء أو العشاء في مطاعم الفلافل أو في مطعم مغربي أو لبناني أو اميركي أو في مطعم "كوشر" يهودي، وعندما يحدث صدام بين الاسرائيليين والفلسطينيين أو العرب الاخرين، يتشاجر اليهود والعرب في بروكلين. وأخبرني نادل المقهى، إزاك اسحق روبين، أنه كان هاجر الى اسرائيل وحصل على جنسيتها، أملاً في ان السلام سوف يثمر بين احفاد ابراهيم، إلا أنه عاد الى بروكلين معتقداً أن "السياسة الصراعية" في الشرق الاوسط سوف تديم النظام القديم للمنطقة بعد أن اسقطت فكرة "الشرق الأوسط الجديد". وكان طرح إزاك روبين أن السلام يُلحق خسارة بالسياسيين والمثقفين في اسرائيل والدول العربية، فالسلام يهدد "الحلم الصهيوني" كمصدر شرعية لساسة إسرائيل، إذ ماذا يبقى لهم بعد التنازل عن المشروع الصهيوني؟ وهناك بين ساسة إسرائيل مَن يعتقدون أن السلام يهدد اسرائيل كدولة يهودية غربية التوجه، اذ تتحول الى دولة شرق أوسطية مشرقية التوجه، كما أن بينهم من يرون أن الصراع بين العرب والاسرائيليين سوف تكسبه اسرائيل في النهاية، فلماذا التنازل؟! وعلى الجانب الآخر، فإن هناك أنظمة عربية عدة تُعطي الأولوية لهدف الاحتفاظ بالسلطة، وترى أن إبقاء اسرائيل كعدو يحقق لها هذا الهدف أكثر مما يحققه السلام. كما أن السلام في ظل "شرق أوسط جديد"، سيفرض على تلك الانظمة أن تغير "الأجندة السياسية" لها لتضمن الديموقراطية وتداول السلطة واحترام حقوق الإنسان والازدهار الاقتصادي. وهناك بين القادة العرب من يعتقدون أن السلام قد يُقوي المعارضة الإسلامية التي تهدف إطاحتهم ولذلك فإنهم يبتعدون الى ان تأتي اللحظة التي يصبح فيها السلام مغرياً. واخيرا، هناك بين السياسيين والمثقفين العرب، من لا تغريهم نبوءة السلام خوفاً من سيف المعز أو طمعاً في ذهبه، ورهبة من جمهور قد يُضحي بهم عند أول مفرق. بعد ذلك، عدت الى موطني مصر في اوائل 1996، فوجدت ان طرح إزاك روبين كان صائباً تماما. فخلال اشهر معدودات أكد ذلك الطرح بنيامين نتانياهو الذي كسب الانتخابات الاسرائيلية في نهاية أيار مايو من العام نفسه. وكان الاستخلاص الرئيسي من فوز نتانياهو ان اسرائيل "مجتمع منقسم". فقد فاز بتضخيم "الاحباط الاسرائيلي" من ان السلام لم يحقق "الأمن الكامل" وتحول برنامج الحملة الانتخابية لتكتل ليكود الى برنامج عمل للحكومة الجديدة، وهو لاءات ثلاث: لا للدولة الفلسطينية، لا لعودة اللاجئين الفلسطينيين، لا تنازل في القدس كعاصمة موحدة وأبدية لإسرائيل. لقد بدت الأمور مع نتانياهو، وكأن اسرائيل تفضل أن تكون في موقف جامد أقل خطراً، من أن تكون في موقف متحرك أخطر. ويلاحظ بعض المراقبين أنه إذا جرت انتخابات حرة في العالم العربي، فإن النتيجة لن تكون مختلفة. ففي اسرائيل والعالم العربي، ستختار الأغلبية المرشح الذي يعدهم بسلام من دون تنازلات أو سلام بتنازلات تجميلية. ولا يعني ذلك، أن الديموقراطية قد تقضي على فرص السلام في الشرق الأوسط، ولكن المعنى أن الديموقراطية لا يمكن أن تخلق السلام الا انها يمكن أن تصونه بصيانة اتفاقات السلام بين الأطراف المتعاقدة. وديموقراطية اسرائيل، أتت بنتانياهو الذي رفع شعارات الأمن وردع القوة، والذي كان أشاع جواً عدائياً ضد رابين وسلام أوسلو انتهى باغتيال رابين وتجميد أوسلو. بمعنى آخر، كان خيار المجتمع الاسرائيلي هو "الامن". انني لا ادافع عن رئيس الوزراء نتانياهو، ولكني اريد ان اقول ان الاخير هو ابن مجتمعه. فمعضلة الامن متجذرة في تاريخ الدولة اليهودية، داخل اليمين واليسار، وبين العلمانيين والدينيين. لقد ظل الصراع حول الامن دفينا لمدة 30 سنة بين 1947 و1977، بفضل الحروب المتوالية للدفاع عن "الدولة الغيتو" ضد دول الاغيار. وصعد الصراع الى السطح مع مبادرة الرئيس السادات العام 1977 بزيارة القدس. الا ان توقع اعلان المبادىء بين اسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية ادى الى انقسام المجتمع والجيش حول امن الدولة العبرية بل هويتها، وصعّد القوميون والدينيون المتشدودن السؤال عن معنى الدولة اليهودية ومضمون الهوية اليهودية، وما اذا كانت اسرائيل دولة يهودية او دولة اليهود او دولة يهود. اما الجيش فجرى داخله طرح السؤال عن توصيف العرب، هل هم اعداء ام هم شركاء؟ فالحرب لا تكون الا ضد الاعداء. ولذلك، فإن نتانياهو عندما رفع شعار الامن، كان يخاطب جمهوراً اصابته "فوبيا الامن"، وان كان رجع بالشعار الى عهد الصهيونية التصحيحية وجابوتنسكي. بيد ان القضية الاكبر مع نتانياهو لم تعد متطلبات الامن، بل اصبحت - لدى المجتمع الاسرائيلي - الاحساس ب"تهديد البقاء". ومن تابع السلوك الاسرائيلي، خلال الازمة العراقية - الاميركية الاخيرة، يدرك انه رغم تطمينات الحكومة الاسرائيلية والقيادة العراقية، فان الجمهور الاسرائيلي عاش احساس "تهديد البقاء" باحتمال استخدم العراق لأسلحة بيولوجية او كيماوية ضد الدولة اليهودية. فهل اذا قلنا ان الامن معضلة اسرائيلية بالاساس نكون اصبنا؟. بمعنى آخر، فإن السلام مسؤولية اسرائيلية بالاساس، ويتوقف الامر على اي اسرائيل يريد الاسرائيليون، لكن للانصاف، فإن السلام مسؤولية عربية ايضا. ففي مصر، يتساءل الجمهور عما اذا كانت اسرائيل تريد السلام حقاً، وينقسم المثقفون حول الرد على سياسات نتانياهو. حتى اولئك المؤيدون ل"التطبيع"، تصطدم جهودهم بصخرة تعنت الحكومة اليمينية في اسرائيل. وعندما كتب فؤاد عجمي مقاله "سلام الفراعنة والملوك"، كان استنتاجه ان المثقفين المصريين يقفون ضد السلام، واصاب عجمي نصف الحقيقة، كما رددتُ عليه في جريدة "الاهرام" لأن المثقفين المصريين يرفضون ان يكون التطبيع مجانياً، فلا تطبيع من دون سلام يضمن الحقوق العربية. ورغم ذلك، فإن البعض منا اعتقد ان السلام يتطلب المبادرة بل المغامرة، واسسوا التحالف العربي - الاسرائيلي من اجل السلام، المعروف ب"جماعة كوبنهاغن". وكانت اهم ثمار جهدهم انهم دفعوا بقضية "الحوار" مع الاسرائيليين من اجل السلام الى دائرة النقاش العام، وجاء اهم الانتقادات ضدهم انهم ادعوا تمثيل الجماعة الثقافية المصرية وتفاوضوا باسمها مع الاسرائيليين، وتعرضوا بسبب ذلك الى محاولات "اغتيال معنوي". ولم يمنع ذلك من تأسيس "حركة القاهرة للسلام"، من ديبلوماسيين وكتاب وصحافيين وجامعيين ومهنيين لنشر ثقافة السلام. غير ان الإشكالية امام انصار السلام في مصر، انهم لا يجدون يداً ممدودة لهم في اسرائيل، مما يفقدهم صدقيتهم في بلادهم ويصرف عنهم جمهورهم، ليصبحوا "جنرالات" من دون جنود.