كانت مثل هذه الأيام من العام 1991، التي سبقت ورافقت ما ترسخ في الذاكرة الاعلامية بأنه "حرب الخليج الثانية"، أياماً عصيبة لكل العراقيين، شأنها شأن أيام كثيرة مماثلة مرّت عليهم قبل ذلك وبعده. لكن تلك الأيام تميزت بأنها لم تكن فقط محملة بالأخبار السيئة التي اعتادوا سماعها منذ احتلال الكويت قبل ستة اشهر من ذلك، كما إنها لم تكن مشحونة بالقلق والتوتر والمخاوف الناتجة عن سلسلة الاحداث التي جرت عليهم منذئذ، بل كانت أيضاً حُبلى بالأسئلة الحائرة عما يمكن أن يؤول اليه مصيرهم ومصير وطنهم بعد انجلاء المعارك التي بدت باتساعها وشراستها والدمار الذي تخلفه حولهم وكأنها تنتزعهم من واقع سوريالي وملتبس وترمي بهم الى أفق المجهول الاشد إبهاماً وحيرة. لعل الذاكرة الوطنية العراقية، حين تسترجع وقائع تلك الأيام المريرة التي سادها الإحساس المدفون بالغضب والقلق والمحاصرة بالجوع والبرد، ستدوّن ما لم يدوّنه بعض صناع وشهود تلك الدراما الانسانية في مذكراتهم "البطولية" ومؤلفون مقنّعون بالحيدة في كتبهم الأكثر مبيعاً، وصحافيون متلهفون للشهرة في مقالاتهم المثيرة، إذ أن هؤلاء اهملوا في تناولهم للاحداث بصورة ضمنية حقيقة أن العراقيين كشعب والعراق كبلد، هم وحدهم الذين كانوا وقوداً لهذه الحرب وضحاياها، مثلما تجاهلوا، بسوء فهم او بسوء نية، حقيقة أن العراقيين في ايام المحنة تلك تصرفوا كبشر حقيقيين يسعون الى صيانة اسباب البقاء مثلما تصرفوا كوطنيين غيورين يدركون تماماً أبعاد التحديات التي يواجهها بلدهم. ما يعنيني هنا أن أنقل كعراقي، وايضاً كصحافي عاش في قلب الحدث طوال أيام الحرب، شيئاً عن الجانب الآخر الذي لم تتناوله وسائل الاعلام التي غطت الحرب، وأهمله بعد ذلك معظم من كتب عنها، وهو الجانب المتعلق بمشاعر العراقيين وأحاسيسهم وأفكارهم في تلك الأيام التي لا تُنسى، وهم يرون الموت والدمار يحيق بهم من كل جانب مثلما يرون تجربتهم في البناء الوطني تفضي الى سبيل محفوف بالشكوك والاضطراب والخطر. لقد كانت اياماً مثيرة حقاً، إذ كان الشعور أن لحظة تاريخية تعبر فوق أفق الوطن، ستعيد صياغته من جديد، تتطلب ليس تناولها باسلوب العرض المبهر الذي كانت تنقله شاشات السي. إن. إن. أو بلغة الابيض والاسود كما فعل الجالسون فوق السور، بل باعتبار ان الحرب بكل إثارتها أدت وظيفة مهمة أيضاً، ألا وهي طرح الاسئلة الجادة عن ماذا جرى حقاً، ولماذا وكيف ومن المسؤول وغيرها من التساؤلات الملحة، وتحفيز طاقة الخيال لايجاد اجوبة مقنعة من دون اختزال للصراع وفق املاءات اللغة الرسمية أو الارتهان لأسلوب الدعاية السياسية لطرفيه المباشرين. ما قد لا يعرفه الكثيرون خارج العراق هو أن هذه الفترة وخصوصاً الاسابيع الستة للحرب والأيام التي تلتها، وعلى رغم المعاناة والآلام، كانت من اخصب الفترات التي عاشها العراقيون خلال العقود الاخيرة من تاريخهم في التأمل والتفكير والنقاش والجدل والمساءلة والبوح بمكنونات عقولهم وضمائرهم، ليس بشأن المحنة الوطنية التي كانوا يعيشونها فحسب، بل حول مجمل المسيرة السياسية التي اوصلتهم اليها. فللمرة الأولى، وربما منذ 20 عاماً، يتاح لهم، بالدهشة في اجواء الرعب الذي تثيره الطائرات المغيرة والصواريخ الهابطة وفي ظل انعدام اية مظاهر للحياة الطبيعية والخدمات الاساسية مثل الماء والكهرباء والهاتف وانشغالهم بمعركة البقاء المادي والمعنوي، ان يعبروا عن انفسهم ككتلة حية، وليس ككمية مهملة كما تخيلهم البعض من الناظرين من ثقب الباب وممن اغرتهم أو خدعتهم جدران الصمت التي فرضتها سياسات القمع والخداع والتضليل الطويلة. في تلك الليالي الحالكة والقارصة، وبينما كانت طائرات بي 52 و"الشبح" وصواريخ "كروز" تقصف مصنعاً او جسراً قريباً، كانت مجموعات من العراقيين تلتف حول موقد خشب او فحم، وتطرح بأساليب عفوية، ولكنها لا تخلو من تلك الحكمة والعبقرية التي لا تضن بها التجارب المريرة على الشعوب، اسئلة مؤجلة منذ زمن طويل وتدخل في صلب الموضوع وتحاول أن تكتشف الأسباب الحقيقية لما حصل وتتجاوز ذلك لكي تفحص وتبحث وتستشرف ما يمكن أن يحصل حين ينتهي ذلك الكابوس المرعب، هل كان احتلال الكويت عملاً منفصلاً عن مجمل محصلة الذهنية السياسية التي سادت خلال العقدين السابقين وممارساتها الداخلية والخارجية التي استسهلت اللجوء الى العنف والاستئصال والاحتكار والمبالغة بردود الافعال واغفلت الحكمة والحوار والتعاون والتعايش السلمي والحلول التفاوضية؟ وما مسؤولية السياسات الدولية والاقليمة، بل المخططات الموضوعة للمنطقة، في تهيئة البيئة المناسبة للازمة؟ وإذا ما كان هناك ضغوط او تهديدات او اخطار، كما صورها حينها الخطاب الرسمي، فهل كان الاحتلال عملاً ضرورياً من وجهة نظر المصلحة الوطنية، أم أنه كان تعبيراً آخر عن أسلوب المغامرة والمراهنة على القوة الجموحة كطريقة وحيدة لممارسة السياسة وتحقيق غاياتها؟ هل كانت الخطوة محسوبة جيداً سياسياً وعسكرياً واستراتيجياً مع ادراك تام لنتائجها أم أنها كانت مجرد قفزة في المجهول؟ هل كان في الامكان ايقافها بعدما بدأت، أم ان على عجلتها أن تدور الى ان تحقق آخر هدف وضعه لها مخططوها؟ إلا أن اكثر الاسئلة إلحاحاً كان، بالتأكيد، ذلك التي يتعلق المستقبل، فهل إن الحرب الدائرة ارهاص لولادة غدٍ مزدهر وحافل بالحياة أم أنها مجرد ممارسة أخرى للعبث محملة بالشكوك والموت والدمار؟ ما الاهداف السياسية غير المعلنة لاطراف التحالف الذي يقود الحرب؟ هل هناك جدول اعمال آخر والحرب مجرد أداة من ادواته؟ هل يكتفون بتحرير الكويت ام ينقلون ساحة الحرب الى داخل العراق؟ واذا تم ذلك فما هدفهم وما الموقف الذي يقفه العراقيون؟ هل يقاومون الغزو أم يختارون دور المتفرج، ام ان تلك ستكون الساعة التي سينفجر فيها البركان الخامد؟ كيف تنعكس نتيجة الحرب الوخيمة على معنويات مئات الألوف من الجنود والضباط العائدين من ميادين القتال وانضباطهم، وهل سيعيد التاريخ نفسه كما فعل في تجارب أخرى وينقلب هؤلاء على قادتهم؟ ما الذي يعنيه كل ذلك لتماسك مؤسسات الدولة الاخرى وولائها؟ ولو حدث انفراط في بنية الحكم وأجهزته وفي ظل غياب البديل المنظم، فما الذي يمكن ان يحدث واية جروح سيفتحها ركام الضغائن والكراهية والاحقاد في جسد الوطن المنهك، ومن سيكون ساعتها مستعداً لطلب الصفح والغفران ومن سيكون قادراً على تقديمه؟ وبافتراض آخر، لو انتهت الحرب الآن باتفاق وتسوية ما فما هو الثمن المطلوب ومن الذي سيدفعه، الوطن والشعب أم أولئك الذين ساقوه الى هذه المحنة؟ لم تكن اسئلة العام 1991 انعكاساً أو تأثراً بعمليات غسل الدماغ التي قام بها خبراء ومحترفون في ابواق الدعاية التي نصبت على الحدود، او استجابة لشعارات التهييج والانتقام لممارسين للعبة السياسية انفتحت امامهم فجأة المنابر كجزء من متطلبات الصراع، كما انها لم تكن "مونولوغاً" داخلياً نتاج حال عصابية من الاحباط العام والذهول لشعب في أكثر لحظات مسيرته إيلاماً، بل حوار وطني شامل مع الذات وعملية تعلم تجري في اشد الظروف ضراوة بعيداً عن الرواية الرسمية لاسباب الكارثة التي حلت والروايات المضادة وكل ما صاحبهما من ضجيج، فلقد منحت الحرب كل عراقي احساساً بالمسؤولية، كما وفرت للجميع الفرصة لعملية شحذ للوعي الشعبي للتفكير في كل القضايا الكبرى التي ايقظتها الازمة ومحاكمة مجمل التجربة السياسية التي خلفت كل هذه الهواجس والمخاوف وجعلت الانشغال بحاضر الوطن ومستقبله الهم الأكبر، فقد اصبح كل عراقي يدرك ان هناك تاريخاً جديداً يصنع لبلده يقوم على ركام هائل من الخراب المادي والروحي ومستقبل مفتوح النهايات تنبئ قراءته بالمزيد من المعاناة الناتجة من أخطار وكوارث وحصار وعزلة، وهنا، وكما عملت التجربة التاريخية في وكما مكان وزمان، فقد قادت كل هذه الحوارات الى طرح السؤال الأهم: ما العمل؟ لقد اعتاد الاجابة عن مثل هذا السؤال دائماً ثوار او مفكرون أو حركات سياسية تأخذ على عاتقها صوغ برنامج محدد وفق إطار نظري، وغالباً ضمن ممارسة سياسية منظمة، لمواجهة أزمات عميقة ووضع مشروع للنهوض من محنة وطنية كبرى، إلا أن ممارسات القهر والهيمنة قد جردت الواقع الفكري العراقي من أية امكانية للنقاش الحر علناً وبصوت مسموع، كما أحدثت فراغاً مهولا في الواقع السياسي، إذ سيطر خلال العقود الاخيرة صوت واحد يرفض التعددية ويحتكر الحقيقة ويتفرد بالقرار الوطني ويصادر حق الآخرين بالاختلاف والتعبير عن رؤى وتصورات لا تنسجم مع الخط الرسمي المهيمن، لكن مثل هذا الواقع، كما برهنت التجربة العراقية، لم يعد بامكانه كبح طرح السؤال الملح، ما العمل، بل انه على العكس من ذلك حوّله من مفهوم نظري جامد وعمل نخبوي ضيق الى همّ وطني عام، فاسحاً المجال لطموحات التغيير، لا لكي تتعمق في الضمير والوجدان والوعي فقط، بل لتتحول الى ارادة جماعية ترفض التهميش والاستلاب وتدعو الى العمل على انقاذ البلاد من محنتها وانكسارها وفق رؤية وطنية خالصة تصحح كل اخطاء الماضي وتحقق العدالة، وعلى قاعدة رفض اليأس والخيارات المدمرة والسيناريوهات الشريرة. من الواضح ان ليست هناك اجابات جاهزة في هذه اللحظة تتجاوز الطموحات والاماني النبيلة كما أن ليس بالامكان القول ان المشاريع مسبقة الصنع والمطروحة في الخارج للتعامل مع الازمة العراقية المستمرة تمثل بديلاً مثالياً للخروج من المأزق، الذي ها هو يدخل عقده الثاني، من دون كلفة وطنية عالية، ان كل ذلك يزيد من الحاجة إلى البحث عن جواب للسؤال المضني من بين البدائل والخيارات التي يوفرها الواقع وبهدف وحيد وهو البدء بعملية اعادة بناء وطني متعددة الابعاد تحتكم الى العقلانية والى قوة الضمير الاخلاقي والاحساس بالمسؤولية تجاه المستقبل والى القبول بالنقد، عملية لا بد ان ترتكز الى ارادة التوافق الوطني والمشاركة ونبذ سياسات الاقصاء والعزل البالية التي جلبت على البلاد كل هذه المآسي والاهوال، لكن من المؤكد أن اسئلة العام 1991 لا تزال تمتلك مشروعيتها وفاعليتها في وجه الظلم والعدوان الذي يقع على العراقيين ما يتطلب المثابرة على وضع الاجابات الخلاقة، أولاً باعتبار أن الحرب التي بدأت في شتاء ذلك العام، لا يمكن اعتبارها منتهية ما لم تنته معها تلك السياسات والممارسات التي قادت اليها، وثانياً باعتبار أن المكاشفة وطرح القضية الوطنية للنقاش من خلال الجدل العام هو البداية الصحيحة لعملية إعادة البناء المأمولة. * كاتب عراقي