بعد سبعين ساعة من القصف الصاروخي الاميركي والبريطاني المتواصل العنيف والمروع والماحق، يدور السؤال هل تمكن هذا الانتهاك الصارخ من تحقيق اهدافه المطلوبة للدولتين من خلال عمليات "ثعلب الصحراء"؟! المعالجة والتقويم اللذان وضعهما المحللون والخبراء في السياسة الدولية يبدوان كئيبين لأن النتيجة الواضحة ان صدام حسين باق في السلطة. وواقع الحال اسفر عن استفادة مباشرة ومكاسب قد جناها النظام كآثار للضربة اذ جمعت له مساندة عربية واسلامية وشعبية ما كان يحلم بها. واختلفت التصريحات الصادرة عن المسؤولين الاميركان والبريطانيين حيال الضربة من جانب تحقيقها الاهداف السياسية والعسكرية، فادعى البعض بأنها حققت اهدافها، اذ دمرت 75 في المئة من الاهداف العسكرية المرسومة لها. ولعل هناك الكثير من الهجمات في المستقبل، ويرى البعض ان نسبة تحقيق الاهداف لم تصل الى 40 في المئة او اقل بكثير. المهم عدم الاتفاق على درجة محددة. وتضاربت التصريحات حول الاغراض السياسية للحملة. انني على يقين ان الضربات العسكرية لا تسقط نظاماً عاتياً كنظام صدام، كما لا تحقق هدفاً استراتيجياً للشعب العراقي، وهو الخلاص من صدام ونظامه القمعي. وقد يوحي واضعو الخطط بأن هذه الضربات العسكرية تحرك الجماهير العراقية لانتفاضة شعبية على غرار انتفاضة آذار مارس عام 1991، او تمرد عسكري في الجيش العراقي، او العمليتين معاً، يتعاون فيها الطرفان على الاطاحة بالنظام. وهذا في تصوري بعيد ايضاً، نظراً لانعدام الثقة بالغطاء المساند والداعم للعامل الشعبي العراقي في ما لو افترضنا جدلاً حصول مقوماته، استناداً الى التجربة المرّة في انتفاضة آذار عام 1991، حين انكفأت القوى الاميركية عنها، بعدما كانت محرضة لها على الانتفاضة الشعبية، وحين تحقق ذلك ساندت قوى النظام على اجهاضها. لذلك فمن الصعب القول او التكهن ان هذه الضربات العسكرية تأتي ضمن مخطط لتغيير الحكم في العراق، بل على العكس تأتي بالمزيد من المعاناة للشعب، ويستثمرها النظام على اصعدة مختلفة لاستمرار ديمومته. وعلى صعيد آخر نجد الكثير من المتغيرات البارزة في ردود الفعل على عمليات "ثعلب الصحراء"، وقد تمثل بالاستنكار والشجب والتنديد لها، شمل غالبية الرأي العام العالمي وخصوصاً العربي الذي اعلن بصراحة متنامية عن معاناة الشعب العراقي مما اصابه من دمار كبير يصعب تصوره نتيجة الهزات والعواصف التي اجتاحته. ولكن من المؤسف انه لم يتم التركيز على المسبب لملاحقته وتجريمه في كل هذه الويلات والمحن التي تجري على العراق وشعبه. وفي تصوري فإن تأجيل اجتماع وزراء الخارجية العرب في الجامعة العربية للبحث في الموقف الاميركي - البريطاني من العراق الى اواخر شهر كانون الثاني يناير، يدل على اعطاء الفرصة للاتصالات الخارجية بشأن سببية النظام الحاكم في العراق لكل هذه المشاكل التي تطال الشعب العراقي وبنيته العامة. وقد اكد هذا الرأي الرئيس المصري حسني مبارك حين انتقد صدام حسين وحمله مسؤولية كل المشاكل التي يعاني منها العراق، قائلاً: "ان مصر رئيساً وحكومة وشعباً متعاطفة مع الشعب العراقي، لأننا نعلم ان ابناءنا واخوتنا في هذا البلد الشقيق لا حول لهم ولا قوة، وان النظام الحاكم هو سبب كل المشاكل". وفي خضم هذا الوضع المأسوي تبرز الحاجة الى مراجعة جادة لما يطرح من خيارات وصيغ لتحقيق عملية التغيير المطلوبة. ولنكن واقعيين وصريحين، اننا نواجه خيارات محددة وصعبة ذات طابع لا يخلو من تعقيد ولا يمكن لكل منها بمفرده انجاز هذا التغيير: اما ان يكون بواسطة الشعب العراقي ذاتياً، كما يحلو للبعض من العراقيين ان يتبجح به في كثير من التصريحات والبيانات والخطب النارية، وهذا بعيد رغم المجابهة المستمرة منذ وصول النظام الى السلطة حتى هذه الساعة، لأسباب قد لا يسع استذكارها في هذا الاستعراض العاجل، مع الاعتراف بأن الشعب العراقي البطل اعطى من التضحيات الجسيمة طوال هذه الفترة القاسية ما لم تعطه اية معارضة في العالم. وإذا كان التغيير على يد دولة اقليمية فهذا ايضاً لا يمكن لأسباب سياسية، وتجربة الحرب العراقية - الايرانية التي دامت ثماني سنوات، ازهقت فيها ارواح مئات الألوف وصرفت فيها البلايين وختمت بأن تجرع الامام الخميني الراحل السم ورضخ لقبول وقف اطلاق النار. اما اليوم فان غالبية الدول الاقليمية آخذة بالتطبيع إما قبولاً للأمر الواقع، او لاعتبارات خاصة لا تتلاءم وعمق مأساة الشعب العراقي. وإذا ما تقدم بعض الدول الكبرى بمشاريع تستهدف النظام بغض النظر عما اذا كانت واقعية او استعراضية تعود لمصلحتها وفيها التخلص من النظام، نسمع تصاعد الاحتجاجات والاتهامات بشدة ويصل تحامل البعض عليها الى حد يلفت الى ان جملة الاعتراضات تريد دفع اخطار مصير مماثل، وربما تصبح سابقة تخل بالوضع في المنطقة. وفي ضوء ما تقدم فإن اسقاط النظام عسكرياً - في تصوري - غير ممكن على المدى القريب، والشعب العراقي وبنيته العامة بكل جوانبها تتآكل ببقاء هذا النظام المدمر - وهذه حقيقة لا ينكرها حتى مرتزقة النظام - فما العمل اذن؟ من الممكن الاستغناء عن الضربة العسكرية، اذا صدقت النية، والأخذ بصيغة متكاملة متوازنة تجنب الشعب العراقي هول الدمار الذي تصبه اطنان القنابل وتحمله مئات الصواريخ الذكية والغبية في كل مرة والى مرات مقبلة غير محددة النهاية ومزيداً من الاصرار على المضي قدماً في ما يعزز دواعي النظام في السلطة وذلك بالمشروع الذي نقترحه، اذا تكاتفت لتحقيقه جهود ثلاث قوى متضررة حتماً من بقائه وهي: قوى المعارضة العراقية بشقيها الداخلي والخارجي، والدول الاقليمية، والدول الكبرى المعنية بالملف العراقي، والمشروع باختصار هو: 1 - العمل على محاكمة صدام وزمرته كمجرم حرب اسوة بالمحاكمات التي جرت للنازيين بعد الحرب العالمية الثانية، وهو المنطلق الواقعي للعمل على اسقاط النظام والبوابة الكبرى لعملية التغيير. 2 - تشكيل حكومة موقتة يعمل على الاعتراف بها اقليمياً ودولياً لتتمكن من فرض سيطرتها على مركزها السياسي. 3 - الضغط على الدول الاقليمية بايجاد منطقة آمنة لهذه الحكومة تمكن فصائل المعارضة العراقية من تفعيل جهود الاطاحة وسحب الشرعية من النظام. 4 - مساندة الحكومة الموقتة بتمكينها من استغلال الموارد الموجودة في المناطق المحررة والاستفادة من الناتج لإغاثة الشعب العراقي، وادامة عملية التحرير. 5 - تنسيق الجهد الاعلامي المواظب على تشجيع قطعات الجيش والضباط بحضها على الالتحاق بالمنطقة المحررة لمساندة القوى الخيرة المجابهة للنظام في الداخل. 6 - العمل على تحرير الأموال العراقية المجمدة في البنوك البريطانية والاميركية وغيرها من اجل تمويل مشاريع الحكومة الموقتة، وتشكيل جيش التحرير لاستكمال عملية التغيير ذاتياً ومحاولة تمويل مشاريع اعمار محلية وترميم البنى التحتية في تلك المناطق المحررة، وبذلك تكسب الحكومة الموقتة ثقة الجماهير ودعمها. 7 - توجيه الأممالمتحدة بالضغط على النظام العراقي لضمان عدم انتهاك حقوق الانسان، وارسال مراقبين دوليين الى مناطق الجنوب والفرات الاوسط لمراقبة تنفيذ ذلك، كما هي الحال في شمال العراق. 8 - بلورة صيغة ناضجة لدى الحكومة الموقتة تؤكد ضرورة تنمية العلاقات الاخوية المتكافئة مع الدول المجاورة، وإيجاد حلول سلمية للمشاكل العالقة بين الاطراف المعنية منها بما يضمن حقوق جميع الاطراف، وسيادة العراق واستقلاله. هذه وأمثالها قد تكون أقل ما ينبغي عمله اذا اريد فعلاً ان يوضع حد لمزيد من معاناة هذا الشعب الذي يناشد - بكل مآسيه وضحاياه - كل القوى الخيرة في العالم والضمائر الحية في انهاء هذه الأوضاع الشاذة المريرة التي تعم العراق وترهق شعبه، وتدمر بنيته التحتية ما تفصح عنه الصور التي تابعت بثها كل الاقنية الفضائية ومتابعات وكالات الانباء ومراسليها. وتجدر ملاحظة الآتي: اولاً - ان السيناريوهات التي تعرض هذه الأيام في كواليس السياسة الدولية قد يطول زمنها حتى تثمر اذا قدر لها سلامة الاثمار، وان كانت كل القراءات تؤشر الى التروي في الحكم لمصلحة الولادة، فقد يكون "الحمل كاذبا" او "وهماً" لكن علينا ان نشجع كل جهد ينشط باتجاه تحطيم جدارية الديكتاتور، او حتى من يرميها بحجر، فهي في حد ذاتها خطوة الى الامام لتجميع القوى المناهضة في اطار موحد متماسك. ثانياً - ان الحكومة الموقتة يجب ان تأخذ في الاعتبار احتضان الجيش العراقي واستقطابه انطلاقاً من الاقتناع باعتبار ان الجيش العراقي لم يقاتل لتثبيت صدام، وانما يتحين الفرص للانقضاض عليه حين يجد الظروف المواتية للقيام بذلك، فعلينا ان نخلق هذه الظروف والمستلزمات، الى جانب تقوية صلاتنا الوطيدة مع الجيش، وافهامه بأنه ما انفك سياج الوطن الحصين، وأمل التحرير. ثالثاً - ان الهاجس الذي غرسه صدام في اذهان البعض من الراكضين وراء السراب بأن ايجاد المنطقة الآمنة في الجنوب هو تمزيق لوحدة العراق، وبداية تقسيمه، او تقسيمه بالفعل. في تصوري هذا الهاجس متأت من تصورات واهمة ومشوبة بالخوف والقلق. فالشعب العراقي لا يقبل اي تقسيم لوطنه، كما لا يرضى ان تبقى حقوق اي فصيل عراقي مغدورة لحساب فئة اخرى. فنحن اذا اردنا ان يبقى العراق الاصيل موحداً يجب ان نعالج مشكلة التراكمات "الطائفية" المقيتة الموروثة من عهود سابقة عفا عليها الزمن. فالعالم اليوم لا بد ان ينحني للتطور الفكري اجلالاً، فهو ينعم بالتنوير، والاجيال اخذت تعي ضرورة التخلص من آثار عهود الظلام والعمل على رفض انتهاك حقوق المواطن، فحقوقه محترمة مهما كانت صفته الاثنية او المذهبية او القومية، ومعدن الشعب العراقي الأصيل يقبل برحابة صدر واقع التركيبة العراقية مهما كانت تنويعته السكانية. رابعاً - لا بد ان نكون على بينة بأن النظام وظف اعوانه ومرتزقته وكتابه لبث سموم القول بأن المعارضة العراقية ممزقة ومشتتة، وهذه مؤامرة مشبوهة غرضها التشويش والتشويه، والعمل بحقد ولؤم على الدس والبهتان، واني على قناعة بأن هذه المحاولات البائسة لا يمكنها ان تنال من سمعة المعارضة العراقية مهما حصلت من دعم سياسي خارجي او داخلي. فالمعارضة متفقة على الهدف الأساس لقضيتها، ولا اختلاف عليه، والزمن سيؤكد هذه الحقيقة حين تصل الى ارض الوطن، وتبرهن انها صاحبة اليد التي اطاحت بصدام ونظامه، لتقيم حكماً دستورياً ديموقراطياً، وتستند الى ارادة حرة ووعي كامل في اختيار نوعية الحكم الذي تريده. خامساً - ان القوى التي تواصل فعل التدمير من خلال الاصرار على الحل العسكري تعلم جيداً ان عملياتها غير حاسمة، ولم تؤد الى تبدل في الموقف، وبعملها العسكري غير الحاسم تساعد على بقاء صدام بعد كل عملية عسكرية ضده بصورة المنتصر، والتظاهر بغطرسة المنتصر - وان كان الواقع خلاف ذلك - ولكن بعض السذج من الناس يعتقد بذلك ويبني عليه مواقفه. * سياسي عراقي معارض.