تشتكي المعارضة العراقية باستمرار من أنها عرضة للتجريح وللاتهامات الظالمة التي تكال لها وتميل دوماً الى تضخيم أسباب إخفاقها حتى الآن في بلورة مشروع التغيير في العراق وتحقيقه. كما تعتب على النقد الذي يوجه اليها بأنه يصب في مصلحة النظام الشمولي الحاكم لأنه يشوّه صورتها ويضعفها وبالتالي يساهم في إطالة عمره وفي استمرار معاناة العراقيين المتطلعين الى مستقبل لهم ولوطنهم خارج دائرة الدمار والحروب والقمع المستمرة منذ اكثر من ثلاثة عقود. قد يكون هناك بعض الصحة في هذا العتاب وفي أن صورة نمطية أضفيت فعلاً على المعارضة العراقية فدمغتها بأكثر الصفات سلبية من دون الأخذ في الاعتبار الظروف شديدة الوطأة التي وضعت فيها. لكن الصحيح ايضاً هو انها وضعت نفسها مراراً في مواقف سهلت لنقادها، بل حتى لأنصارها ومؤيديها، أن ينالوا منها. ليس لأنها عجزت عن تحقيق هدفها في إسقاط النظام وإقامة بديل ديموقراطي له، بل بسبب المسارات التي اتخذتها وأدت الى تعطيل تحقيق هذا الهدف حتى الآن. لكن هل ينبغي الركون الى الصمت إزاء هذه المعادلة المقلقة حقاً، أم أن هناك طريقاً ثالثاً يمكن خلاله إخضاع المعارضة العراقية، باعتبارها نشاطاً سياسياً، لتقويم نقدي سياسي ووطني يتجنب التشهير ويلتزم معايير موضوعية طالما أن القضية تتجاوز، أو هكذا ينبغي، أدواراً وحساسيات ضيقة لكي تتناول مصير وطن وشعب أصبحت تتلاعب به مقادير السياسة الدولية وألاعيبها بما قد يرمي به آجلاً أم عاجلاً في مهاوي المجهول المظلم؟ أي بمعنى آخر ان المعارضة العراقية مدعوة لأن تدرك أن ليس من المفيد التظاهر دائماً بأنها مجرد ضحية، بل من المفيد أيضاً أن تتقبل النقد وتجعل هدفها تجنبه وتصحيحه. ليست هناك قاعدة ذهبية يُحتكم اليها في تقويم المعارضة العراقية بسبب تشابك تاريخ القمع الذي ولدت وترعرت فيه في الداخل مع ظروف المنفى واشتراطاتها القاسية التي شبت عليها في الخارج. ومع هذا فإن الملاحظ هو أن التجريب السياسي بقي السمة المميزة لنشاط المعارضة العراقية على مرِّ السنوات الماضية، على رغم عراقة بعض فصائلها وخبرات قيادتها التي يتجاوز تاريخها في العمل السياسي نصف قرن من الزمن أو يزيد. ولعل محاولات التجريب المستمرة هذه، والناشئة من الظروف القسرية المحيطة بقوى المعارضة، هي التي وقفت حتى الآن أمام الوصول الى رؤية جامعة، ومن ثم الى برنامج وآليات تشكل بمجموعها مشروعاً وطنياً للتغيير. قد لا يكون التجريب في حد ذاته أمراً سيئاً طالما ان الخيارات السياسية بإطاريها المعرفي والعملي تنطوي دائماً على الكثير من أعمال الخيال بهدف استنباط حلول مبدعة لمشاكل وأزمات تواجهها الدول والمجتمعات. لكنه قد يتحول الى عائق يساعد على إدامة حال من الشلل اذا ما جرى في غياب الوعي الخلاّق ومن دون استناد الى التجربة التاريخية للجماعة ومن غير فرضيات قائمة على حسابات الواقع وشروطه. فعلى خلاف التجريب في الحقول الادبية والفنية، مثلاً، الذي يحمل مغامرة إبداعية، فإن التجريب السياسي ينطوي على نتائج خطيرة اذا ما استمر في انتاج الإخفاق والعجز اللذين لن ينتجا بدورهما غير الإحباط وخيبات الأمل للحركات السياسية القائمة به وفقدان الصدقية والثقة بها لدى الجماهير. ما يجري اليوم على خلفية اجتماعات "وندسور" يثير تساؤلاً جدياً عما إذا كانت التجربة الجديدة للمعارضة العراقية ستنهي حال التجريب المزمنة التي تعاني منها وتضعها على عتبة عهد جديد، أم أنها مجرد حلقة جديدة في سلسلة التجارب الفاشلة التي خاضتها خصوصاً منذ نهاية حرب الخليج؟ لا شك ان الإجابة عن هذا السؤال تجيب بدورها عن الكثير من الاسئلة التي تطرح الآن في شأن مستقبل العراق الذي تتزايد مؤشرات إلى أنه يجري الإعداد لحسمه أو إعادة رسمه وبالخصوص في ضوء السياسة الاميركية وتوجهاتها المطروحة. في الواقع ان اجتماع وندسور يحمل الكثير من سمات التجريب وعناصره، خصوصاً الخروج عن المألوف في أسلوب إعداده وتوليفة عقده والنتائج المبهمة التي تمخضت عنه، ما يمكن النظر اليه باعتباره مغامرة لا تحمل في أحشائها سوى تجربة أخرى سيؤدي فشلها الى استمرار المأزق الذي تعاني منه المعارضة والى المزيد من التشويه لأدائها. وإذا ما دخلنا الى صميم الموضوع فإن السؤال الابرز الذي سيواجهنا في تقويم المحاولة الجديدة التي بدأت في "وندسور" هو على اساس أي مشروع وطني شامل سيكون العمل هذه المرة، وما منطلقاته وأهدافه ووسائل تحقيقه؟ هذا يجرنا الى اسئلة اخرى من قبيل هل هناك رؤية مشتركة بين الاطراف التي ساهمت فيها او التي تتوقع مساهمتها لاحقاً سواء للواقع العراقي الحالي أو للمستقبل؟ هل هناك برنامج متفق عليه للكيفية التي ستجري بها إزالة إرث الديكتاتورية وإقامة النظام البديل وبأي حدود ممكنة؟ هل هناك اتفاق على آليات التغيير ووسائله؟ ما دور القوى الحالية للمعارضة في التغيير وما دورها المستقبلي؟ وما مدى قدرتها على إقامة التحالفات او التوازنات في ضوء التحديات التي ستواجها داخلياً واقليمياً ودولياً؟ والآن قد يقال إن من المبكر جداً طرح هذه الاشتراطات على اعتبار ان اجتماع "وندسور" ما هو إلا بداية جديدة وان صوغ مشروع التغيير سيأتي لاحقاً بعد اكتمال انضمام المجموعات والفصائل المدعوة اليه أو على العكس من ذلك سيدّعي ان ارضية ذلك هي الاتفاقات والبرامج التي توصلت اليها اطراف المعارضة المختلفة في تجارب سابقة، وان كل ما هو مطلوب الآن هو الشروع في العمل. ان مثل هذا الإدعاء سيضيف اسباباً اخرى للاعتقاد بأن ما هو مطروح هو مجرد تجربة جديدة ليس إلا، ما يستدعي وضعها في ميزان التجريب لتقويمها واستخلاص النتائج الممكنة منها. من الطبيعي إذن أن يأخذ النقد للتجربة الجديدة مدى أبعد، لأن الوضع الحالي الذي تمر به المسألة العراقية برمتها لم تعد تفرز مساحة للترف والإدعاء بأن التجريب عملية مستمرة يمكنها بالتالي، عندما تأخذ مداها، ان تنتج مشروعها وتنجز هدفها. فإذا كنا كعراقيين نؤمن بأن الطريق الوحيد لإنقاذنا من المأزق الذي وضعت فيه قضيتنا الوطنية هو إعادة بناء وطننا على أسس جديدة من التقدم والمشاركة والعدالة والمساواة، فإن التفافنا حول أي مشروع للتغيير يجب ان يكون رهناً بأن هذا المشروع وسواه سيحقق لنا هذه الاهداف وغيرها من آمالنا العريضة كبشر. يقوم أبرز نقد للمحاولة الجديدة على أنها جرت تحت مظلة أميركية بل يمضي أبعد من ذلك الى اتهامها بأنها ليست إلا مشروعاً بجدول أعمال اميركي يشكك في حقيقة كونه يستهدف انجاز الاهداف نفسها التي تسعى اليها المعارضة العراقية كما يتخوف من انه يستبطن اجندة اميركية تستخدم المعارضة العراقية في تحقيق إما أهداف داخلية مثل الانتخابات الرئاسية المقبلة أو جعل المعارضة مجرد ورقة في الصراع مع النظام سواء لجهة إعادة تأهيله وفق صفقة معينة، او في مخططات إسقاطه التي قد تكون تسعى الى شيء مختلف تماماً مثل الانقلاب العسكري وليس التغيير الديموقراطي المنشود. وفي الواقع فإن لبعض قوى المعارضة سواء من بين التي اشتركت او لم تشترك في اجتماعات "وندسور" تجارب سبق ان اكتوت بها لا تجعلها تستعجل الانخراط في مشاريع لن يكون دورها فيه سوى أدوات لتسهيل تنفيذ الأجندة الاميركية. إن عدم القدرة على فك الاشتباك بين ما هو هدف أميركي وهدف للمعارضة سيجعل من الصعوبة حشد التأييد الكامل لهذا المشروع. هناك نقد آخر ينصب على ان المحاولة الجديدة، بما اتضح من سماتها، تضيق بخياراتها وآلياتها حتى يبدو كأن قانون تحرير العراق الاميركي هو منطلقها الوحيد الذي ستوضع امامه فصائل المعارضة المدعوة الى المشاركة فيها. إن حصر عمل المعارضة بخيار واحد يعني تخليها عن الإمساك بالمبادرة في عملية التغيير التي يجب ان تقرر هي شكلها ومضمونها ولوازمها اذا ما أرادت ان تقود النضال الجماهيري من أجل ذلك التغيير. إن أي برنامج للمعارضة يجب ان يتضمن بالبداهة أهداف التغيير ووسائله بما في ذلك عمل قوى المعارضة في الداخل والتنسيق معها، شروط ومهمات الفترة الانتقالية ومقومات عراق الغد. وبعكس ذلك فإن التبعية والامتثال لخيار واحد مفروض سيؤديان إلى تهميش قوى المعارضة وحرمانها دوراً ريادياً لمصلحة مشاريع اخرى لا تحقق المرجو من التغيير. هناك إشكالية اساسية أخرى هي ان التجربة الجديدة لا تبدو ملمة بحقيقة ان السنوات التسع الاخيرة ولدت سواء بمعاناتها أو بالآمال التي انعقدت عليها خارطة سياسية واقتصادية واجتماعية جديدة إن على مستوى الداخل العراقي أو على مستوى المهجر. وهي خارطة لا يمكن لأي محاولة جادة ان تتجاهلها وان تعمل بمعزل عنها اذا ما أرادت فعلاً ان تطرح نموذجاً يراد له ان يؤسس لعراق جديد يرتكز النظام فيه على أسس الديموقراطية واعتبارات المشاركة الايجابية والحرية والمساواة. إن ترسيخ شرعية أي عمل معارض يتطلب منذ الآن التخلي عن الأجندات الخاصة والشروع بتثبيت مرجعيته داخل اطار جامع للعراقيين وايضاً لمشاركتهم. إن في إمكان أي راصد أن يدرك ان المعارضة العراقية توشك أن تدخل مرحلة جديدة من تاريخها ونشاطها، ما يتطلب منها الخروج من مرحلة التجريب وان تقف هذه المرة حاسمة أمرها راسخة البنيان. إن انطلاقتها وأفقها المستقبلي سيبقيان رهناً بكسبها ثقة شعبها أولاً واحترام العالم لها ثانياً وهي مهمة يمكنها وحدها أن تنجزها إذا كانت تسعى فعلاً الى ميلاد عراقي جديد. * صحافي عراقي.