تثير الاستنتاجات التي وردت في تحليلات مدير وكالة المخابرات المركزية الاميركية جورج بينيت في شهادته امام لجنة المخابرات في الكونغرس عن رؤية الوكالة لمستقبل النظام السياسي في العراق الحياة 5 كانون الأول/ ديسمبر 97 الكثير من الاسئلة ان لم تكن من التحفظات بسبب تلك التنبؤات التي جاء بها، وملخصها المنشور ان "خلفاء صدام المحتملين سيكونون جنرالات من العرب السنة الذين يشاطرونه بعض سياساته وتطلعاته". والسبب وراء اية تحفظات متوقعة، وهي ليست بالضرورة شيعية، هو ان مثل هذه الاستنتاجات على رغمپطابعها التحليلي، تبدو اكثر فصاحة في التعبير عن اهداف وغايات سياسية لم يجروء أي طرف حتى الآن على البوح بها علناً كسياسة رسمية لأي من الاطراف الدولية أو الاقليمية المهتمة بشؤون العراق. ومن شأن هذه النتيجة التي توصل اليها تقرير بينيت ان تزيل الكثير من اللبس وتضع النقاط فوق الحروف حتى لو شاءت ان تكون مجرد تحليلات للواقع الحالي ومحاولات لأستشراف المستقبل العراقي بمنهجية محايدة. والأهم انها تبدو في تسريبها تحريضاً مدروساً لنوع التغيير المطلوب وبمواصفات معدة سلفاً. والسؤال الاول هو هل ان تحليلات المخابرات المركزية الاميركية وتوقعاتها عن الانتماء الطائفي للقيادة العراقية البديلة تستقيم مع تطلعات العراقيين على جانبي الطيف السياسي وعلى مختلف انتماءاتهم الدينية والمذهبية والقومية؟ المعروف ان هذا الطرح المخابراتي ليس جديداً في دهاليز السياسة الدولية وجحورها ذات الصلة بالموضوع العراقي. فقد ولد اساساً كخيار مع أو حتى قبيل ولادة الدولة العراقية الحديثة في بداية هذا القرن، لكن من المؤكد الآن ان لا شيء يثير حنق الوطنيين العراقيين وغضبهم خصوصاً بعد كل المحن التي تعرضوا لها اكثر من محاولات اجبارهم على التحول الى مجرد جمهور متلقى لأملاءات الآخرين وسياساتهم الرثة المثقلة بسوء النية والارادات السقيمة، في الوقت الذي يتطلعون الى مستقبل مفعم بالأمل ومبشر بالتحول والبناء بعيداً عن كل ويلات الماضي وندوب الحاضر وآلامه. ولعل اهم ما يطرحه مثل هذا "التحليل" على العراقيين هو ضرورة ادراك المخاطر الكامنة في تلك المشاريع التي تستهدف احلال نظام محل آخر "يشاطره سياساته نفسها وتطلعاته" بدلا من دعوتهم واسنادهم في البحث المضني عن تلك القواسم الوطنية المشتركة لبناء عراق جديد تزدهر فيه الحياة لا ان تتغذى دورة الموت فيه من لعبة السلطة المدمرة. ومع ذلك، حتى لو طرح السؤال على افتراض الجدل السياسي العقلاني وليس على اساس الدافع الاخلاقي الغائب أصلاً في مثل هذه التحليلات، فان اسئلة كثيرة اخرى ستثار عن المعايير والمداخل الموضوعية التي اتبعت في دراسة النظام السياسي العراقي عبر تاريخه الممتد لثلاثة ارباع القرن والتي ادت الى مثل هذا الاستنتاج الخطير. ان اهم اشكالية تبدو في هذا الاستنتاج هي انه خال من الاسانيد وانه ليس نتاج منهجية في العلوم السياسية وأسس بناء الدولة تعتمد على دراسة التطورات السياسية والاجتماعية البالغة الخطورة التي مر بها المجتمع العراقي خصوصاً خلال السنوات الاخيرة وافرزت بدورها الحاجة الى تحول جذري ينقلب تماماً على كل مفاهيم الماضي وميراثه. بل ان مثل هذه النتائج التي يراد لنا ان نأخذها على انها بديهيات لا يمكن ان تستقيم مع منهج البحث التاريخي مهما حاول مروجوها. والأهم انها لا يمكن ان تكون ضماناً لصيانة شرعية وسيادة اي نظام يأتي من خلالها. اضافة الى كل ذلك، فانها لا تتسق مع مفاهيم العصر من دعوات لحقوق الانسان والحريات الاساسية والمجتمع المدني والتداول السلمي للسلطة، وانما هي وصفة مؤكدة لقيام نظام تسلطي قمعي ودعوة للتحجر. والواضح ان فكرة "الجنرال العربي السني" المنقذ للعراق لا تدخل في باب المقاربة النظرية حتى يمكن الجدل بشأنها كمنطق أو مفهوم بل هي مجرد استنتاج مخابراتي ومدخل قد يكون توصل اليه صانعو السياسة الاميركية لصياغة وتوجيه سياساتهم تجاه العراق للفترة المقبلة، التي يبدو انها ببساطة شديدة تقوم على دعم فكرة استمرار نظام سياسي اشبه بالنظام الحالي ولكن من دون رأسه الذي يرى صانعو السياسة هؤلاء انه يصعب العودة للتعامل معه بسبب حرب الخليج وما جرّته من تبعات وأزمات متتالية بين البلدين. ويستند هذا الاستنتاج الى افتراض اصبح متداولاً كثيراً بين المعنيين بالشأن العراقي من الدول والهيئات خصوصاً في الغرب وهو ان هذا الخيار يمثل الحل الأوحد لمستقبل العراق في حال سقوط الحكم الحالي ولمنع انهيار العراق وتفككه. وبالتالي فانه في نظر من يؤمن بهذا الافتراض الطريق الذي لابد من سلوكه لمنع تفتت الدولة العراقية الى كيانات طائفية وقومية بين سنته وشيعته من جهة وعربه واكراده من جهة اخرى. وهكذا تتكشف مفارقة مذهلة في تفاهتها وهي ان الحل الوحيد لمنع التمزق الطائفي في العراق يأتي فقط عبر تعميق الحاجة الى شكل من اشكال الحكم تتحكم به وتتربع على قمته الطائفية السياسية التي يقال ايضاً انها الخطر الذي يحدق بالبلد. هذه ليست سذاجة بطبيعة الحال، وهي لم تكن كذلك منذ ان ترسخت للمرة الاولى في اذهان المس بيل والسير بيرسي كوكس والجنرال كلوب وغيرهم من اقطاب الادارة الاستعمارية البريطانية في العراق، التي غرست بذور الفكرة الجهنمية هذه، فكان ان مهدت بذلك طريق الآلآم امام كل العراقيين من مختلف انتماءاتهم الدينية والطائفية والقومية الذي بدأ بحكام تشوب مشروعيتهم التاريخية والوطنية والدستورية شوائب كثيرة، فعاثوا بالبلد فساداً وحماقة حتى انتهى بفترة قصيرة الى تلك السلسلة الطويلة من الانقلابات العسكرية للجنرالات القادمين فوق ظهور الدبابات التي تجر وراءها سحب من شعارات شعبوية لم تكن الا ستاراً من دخان لنهم الحكم وجشع السلطة. وكان ان تكرس مفهوم الجنرال "العربي السني" باعتباره دائماً منقذ العراق من ازماته المحافظ على وحدته ضد التمزق والانحلال، والضامن الوحيد لأمن واستقرار جيرانه! لقد تنبهت قيادات وطنية عراقية ساهمت في مشروع الاستقلال منذ اللحظة الاولى لاتضاح معالم الخيار الطائفي، فشككت في دوافعه واشارت الى خطورته لأنه كان يحمل في ثناياه بذور الشك والريبة وعدم الاقتناع بشرعيته وبكونه لا يحقق الاماني الوطنية المرجوة، ولا يؤسس لدولة تقوم على المساواة والعدالة التي كان يتوق اليها العراقيون كثمن لتضحياتهم لنيل الاستقلال. ومع هذا فان التاريخ يذكر اليوم ان العراق لم يشهد في مسيرة استقلاله حركة طائفية تدعو للحكم الذاتي أو للتمييز شبيهة بدعوات الزولو في جنوب افريقيا مثلاً أو شخصيات مثل بوتينيزي، بل ظهرت قيادات شعبية جديرة بأن يخلدها التاريخ اليوم كرموز وطنية من امثال جعفر أبو التمن ومحمد مهدي كبة ومحمد رضا الشبيبي ومحمد مهدي البصير وعشرات غيرهم من شيوخ القبائل والاعيان والنشطاء الذين، رغم وعيهم مخاطر المشاريع المغلفة بالطائفية السياسية، ظلوا امناء شأنهم شأن القاعدة الشعبية العريضة للفكرة الملهمة عن الانتماء لأمة واحدة وللوطن الواحد. وتشهد الوقائع التاريخية ان شيعة العراق لم ينخرطوا فقط في العمل الوطني منذ بداياته بل ان العديد منهم تبؤوا قيادته في مختلف الظروف والاوقات والمواقع منذ ثورة العشرين وحتى الوقت الحالي. وهم في ذلك لم ينطلقوا من اعتبارات طائفية بل من منطلق وطني محض ومواقع تعبر عن المشارب الفكرية والسياسية والاجتماعية التي سادت في اوقات مختلفة. ويحفل سجل الاحزاب والحركات الوطنية بأسماء قادة ومؤسسين لعبوا دوراً كبيراً في الحياة السياسية في العراق على مدى العقود الماضية. وفي المؤسسة الحاكمة، بدءاً بمحمد الصدر وصالح جبر وفاضل الجمالي وناجي طالب وانتهاء بسعدون حمادي ومحمد حمزة الزبيدي، فان جميع هؤلاء شخصيات شيعية تبوأت منصب رئاسة الوزارة. وبغض النظر عن الانظمة التي خدموا فيها ودوافعهم الشخصية وظروف استيزارهم فان ذلك كان تعبيراً عن المشاركة الفعلية في هيئات السلطة القيادية كلما توفرت الفرصة امامهم، ونبذاً للاحتكار الذي سعت المفاهيم والخيارات الطائفية الى ترسيخه. وهذا بدوره يقود الى سؤال آخر، وهو هل ينبغي الاكتفاء دائماً بالتشكيك وازدراء افكار وباستنتاجات مثل تلك التي جاء بها تقرير المخابرات الاميركية، باعتبارها نتاج خيالات مريضة أو مجرد مؤامرة من دون محاولة البحث والتمعن جدياً بظروف التجربة التاريخية التي نمت فيها العوامل وسمحت بظهور مثل هذه الاستنتاجات؟ فدروس الحياة تعلمنا دائماً ان وراء استلهامها والترويج لها واقع حي أو حتى مناخ مناسب يتيح لها ان تنمو وتشجع الآخرين على التشبث بها والادعاء بعد ذلك باننا لسنا سوى نعامات ندفن رؤوسنا في الرمال كي لا نقرّ بالحقائق المرة التي تشمخ امامنا. ان اغلب العراقيين اليوم يترددون حتى التوتر في مناقشة أو ربما الاستماع الى أي حوار يتطرق الى التنوع الطائفي في بلادهم، وذلك لأسباب عديدة، بعضها بسبب المكابرة واخرى لمجرد الاستنكاف بينما تعود الاسباب الاخرى الى نتاج الثقافة السياسية الرسمية للانظمة المتعاقبة التي اشاعت المحرمات وروّجت لتنميطات تتعالى على التنوع الديني والطائفي والقومي للمجتمع العراقي لمصلحة تهويمات وتخاريف ايديولوجية لا تمت للواقع بصلة. ولعل الأوان حان الآن كي تسمى الاشياء بأسمائها دون مواربة او خجل. فالمشكلة الطائفية في العالم تحتل الآن اهتمام علماء السياسة والاجتماع. وفي دول تتصف انظمتها السياسية بالسيولة فانها تبقى من الادوات البارزة ولكن الخطيرة للصراع السياسي والفكري ما يتطلب التعامل معها بحكمة واكسابها روح العصر من التسامح والعدالة والمساواة. وفي ظني ان العراقيين عموماً شيعة وسنة وأكراداً من قوميات وطوائف اخرى، مروراً بعملية تعلم قاسية من المؤكد انهم استنتجوا في نهايتها انهم مشروطون بخيار التعايش، وان الخيارات الاخرى ليست فقط محفوفة بالاخطار بل انها شريرة ومدمرة. وان ذلك يستدعي تأملات صادقة مع النفس قبل لوم الآخرين. تأملات تبتعد عن الخرافة والوهم والغموض وضيق الأفق وتحاكم الماضي بروح المستقبل الواعد وعلى ضوء التحولات العالمية الكبرى الجارية من حولهم. ان في امكان اي جهاز مخابرات ان يحلل ويستنتج ما يشاء وربما ان ينصب من يشاء في سدة الحكم، لكن ذلك لن ينجز الا تكرار للتجربة المرة الخائبة واعادة انتاجها. فالحل الحقيقي يكون بالمكاشفة وفتح الابواب امام الضمائر الحرة والمشاركة في اعادة البناء على اسس المساواة والديموقراطية.