1- عندهم في عام 1987 أثناء انعقاد أول مؤتمر عالمي دولي عن "الإدارة الهندسية" في الولاياتالمتحدة، أعلن أحد الأساتذة المرموقين في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا MIT ان السبب الرئيسي في ضعف القدرة التنافسية للصناعة الأميركية في مواجهة اليابان هو عدم اهتمام القيادات في قطاع الأعمال بمسألة "إدارة التقنية". وأثارت هذه الملاحظة اهتماماً واسعاً بين مختلف فئات المجتمع الأميركي، إذ أن المؤتمر كان يناقش مفهوماً جديداً في الإدارة، هو الإدارة الهندسية، فإذاً بالمتحدث يأتي بمفهوم أكثر جدة وغرابة هو "إدارة التقنية". ولو تذكرنا أنه حتى انعقاد هذا المؤتمر كان المصطلح الشائع هو "إدارة الأعمال"، فإن النقاش الذي دار حول التمييز بين هذه المصطلحات الثلاثة يصبح أمراً مبرراً ومفهوماً. ودفع هذا المؤسسة الوطنية للعلوم NSF إلى تشكيل فريق عمل لبحث أمر "إدارة التقنية" هذه وتوضيح معناها وجدواها. وصدر تقرير فريق العمل في العام الثاني وجاء في تعريفه "إدارة التقنية" انها الجمع بين تخصصات "الهندسة والعلوم والإدارة في تخطيط وتطوير وتفعيل القدرات التقنية من أجل صياغة أهداف المنشأة الاستراتيجية واجراءات تنفيذها". وكان طبيعياً أن تبادر الجامعات إلى الاستجابة لهذا التحدي الجديد فتبدأ الدراسات العليا والبحوث الميدانية في هذا المجال. وكان طبيعياً، بالقدر نفسه، ألا تتفق الآراء سواء بين الجامعات، أو بينها وبين قيادات قطاع الأعمال، حول التطبيق العملي للمفهوم الجديد والأساليب المثلى لتأهيل الأجيال الصاعدة والقيادات الحالية في امتلاك ناصية إدارة التقنية هذه. وامتد الحوار ليشمل مناهج الدراسة وطرق البحث، بل والمزيد من التعميق والتطوير للمفهوم نفسه مع اكتساب خبرات مباشرة في تطبيقه ميدانياً. وهكذا بدأت جامعة ميامي، وبمبادرة من استاذ أميركي مصري، هو الدكتور طارق خليل، في تكوين الرابطة الدولية لإدارة التقنية IAMOT. وقامت الرابطة - وما زالت - بعقد مؤتمر سنوي يسهم فيه عدد كبير من الأكاديميين ورجال الأعمال والمسؤولين الحكوميين، يتبادلون وجهات النظر والخبرات في الموضوع. وسرعان ما انتشر الاهتمام بالموضوع من الولاياتالمتحدة إلى أوروبا ثم اليابان فأميركا اللاتينية وبعض الدول الآسيوية، إلا أن الأقطار العربية لم تشارك مشاركة تذكر في هذه اللقاءات إلى أن عقد المؤتمر الأخير في القاهرة عام 1999 وشارك فيه للمرة الأولى عدد غير قليل من الخبراء العرب. إلا أن أحداً منهم لم يتعرض لدور المؤسسات الجامعية ومراكز الدراسة والبحث في تفعيل هذا المفهوم الجديد في الوطن العربي. واستمر السعي لتوضيح معنى المفهوم، فأصدر المجلس القومي للبحوث NRC تقريراً آخر حدد العناصر الأساسية في إدارة التقنية على أنها: - اعتبار التقنية جزءاً عضوياً في استراتيجية المنشأة. - أهمية التغير التقني السريع والقفز بسرعة من تقنية إلى أخرى جديدة ضماناً للمنافسة الفعالة. - الدور الحاسم للكفاءة في إدارة المشروعات متداخلة التخصصات والتي تشارك فيها منشآت عدة. - تحسين الإدارة الداخلية لاستخدامات التقنية ضرورة قصوى. - التركيز على البناء التراكمي للخبرة هو السبيل للمنافسة المجدية اقتصادياً. وجاء فصل الخطاب في ملاحظات الاستاذ مايكل بدوي في العام الماضي، ففي رأيه أن: - ماجستير إدارة الأعمال مغرق في التنظير ولا يوفر للتكنولوجيين التدريب والخبرات التي سيحتاجونها عندما يصبحون مديرين ولكي يكونوا مديرين جيدين. - ماجستير الإدارة الهندسية يركز على إدارة الوظيفة الهندسية في المنشأة ولا يعالج التقنية على أنها أحد الموارد الرئيسية للمنشأة. أما ماجستير إدارة التقنية فيعالج جوانب القصور في هذين المنهجين الدراسيين. وفي خضم كل هذه الاجتهادات يبقى أمر واحد يقطع عرضاً فيها كلها، ألا وهو التركيز على الدور المحوري لعمليات الابداع التقني باعتبارها الأساس الوحيد لتعزيز التنافسية في الأسواق العالمية ومهما أحاط بهذا النشاط من مخاطر في التخطيط والاستثمار والتنفيذ. 2- عندنا من المفارقات الملفتة للنظر أنه عندما جرى الإعداد لإقامة جامعة اقليمية خليجية غير تقليدية في البحرين، ورئي التركيز على الدراسات العليا في برامج تعالج قضايا ذات أهمية خاصة للمنطقة، برزت مسألة التعامل مع التقنية كقضية ملحة تستحق ان يفرد لها برنامج خاص. ومع تغير وجهات النظر حول عدد ونوعية البرامج أثناء إعداد مشروع الجامعة وتنفيذه، إلا أن برنامج إدارة التقنية ظل مدرجاً على الرغم من حذف أو تأجيل عدد من البرامج الأخرى. وهكذا بدأت الدراسة فيه بالفعل مع افتتاح كلية الدراسات العليا في الجامعة الوليدة، ولا بد من الاعتراف هنا، وبعد زهاء عقدين من الزمان، بفضل المخططين الأول وبعد نظرهم وتنبههم لهذه الحاجة الملحة في وقت لم يلق فيه هذا الأمر اهتماماً في أية واحدة من مؤسسات التعليم الجامعي في الوطن العربي. وعلى أية حال، فما زال هذا هو البرنامج الوحيد من نوعه في الجامعات العربية جمعاء مع انتشاره السريع في العديد من الدول النامية في الشرق والغرب. وحتى تتضح أهمية هذه المسألة ودورها في جهود تنمية دول مجلس التعاون، نورد هنا بعض الأرقام عما تستورده دول المجلس من السلع المصنعة ونسبة كلفة هذا الاستيراد من اجمالي الناتج المحلي الذي هو في غالبيته حصيلة بيع النفط الخام. وفي المتوسط، فلقد انفقنا حوالى خُمس ما نحصل عليه من ناتج محلي ثمناً لما نستورده من السلع المصنعة، وكادت هذه النسبة أن تصل إلى الضعف في البحرين عام 1992. وعلى أية حال، فإن النسبة تتزايد بشكل عام مع مرور الوقت. في ظل هذا الأوضاع التي لن تتغير بسرعة، ماذا يكون عليه توصيفنا لإدارة التقنية، استناداً إلى واقعنا، وبعيداً عن تعريفات المجتمع الأميركي ومشاكله في المنافسة مع اليابان أو غيرها من الدول المصنعة؟ إن مصطلح "إدارة التقنية" في هذا الواقع يعني الآن: "تخطيط وتنفيذ سلسلة العمليات التي تبدأ بالبحث عن التقنية أو المنتجات التقنية المناسبة، وتقييمها، والتفاوض والتعاقد لاقتنائها، ثم تشغيلها أو استخدامها بكفاءة، وتحسين أدائها، تطلعاً إلى اكتساب المعرفة والخبرة والمهارات التي تنمي القدرات الوطنية على امتلاك ناصيتها، وصولاً إلى الابداع التقني الوطني على المدى البعيد. والهدف هو القيام بهذه السلسلة من العمليات بفعالية أي لتحقيق أكبر نفع ممكن وأقل ضرر محتمل، وبكفاءة أي في حدود التوقيتات والكلفة والعائد المقدرة لهذه العمليات بداية". * استاذ كرسي الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة ومدير برنامج إدارة التقنية - جامعة الخليج العربي.