أن تعود مصر إلى لبنان فهذا جزء من مسؤولية تاريخية خاصة: البلد الإقليمي الكبير الذي قاد الصراع في المنطقة إنطلاقاً من هذه المسؤولية ثم جنح إلى السلام لا يحتاج إلى من يؤكد له شراكته المحورية. ولا يحتاج إلى من يدعوه إلى ممارسة دوره الإقليمي، أو من يعترف له بهذا الدور، أو من يضعه في منافسة مع آخرين، أو ينتظر من يناديه إلى أداء مسؤوليته. تعرف مصر جيداً حساسية عودتها إلى لبنان. مثلما تعرف أن سورية لا تحتاج اليوم إلى وسيط بينها وبين الولاياتالمتحدة، كما كانت الحال قبل حرب الخليج الثانية ومؤتمر مدريد. لذلك انتظرت طويلاً على كثير من العتب أن تبدر إشارة من الشرق تضعها في صورة ما يجري منذ استئناف المسار السوري نشاطه. وآثرت ألا تلح فتبدو كمن يبحث عن دور، خصوصاً أن آخر المفاوضين العرب كان يجلس إلى الطاولة في شيبردزتاون مطالباً بإتفاق مطابق لإتفاق كمب ديفيد! منذ مجيء إيهود باراك إلى رئاسة الحكومة راقبت مصر باهتمام النافذة التي أعاد فتحها على المنطقة بعدما أقفلها سلفه بنيامين نتانياهو. لم تهلّل لطلته مثلما بالغت دوائر عربية عدة في الإحتفاء به! كانت تتنسم هواء نافذته: هل هو كاف لإنعاش السلام أم مسموم هو الآخر، وخوفها أن تكون خطته "سياسة الحد الأدنى" بديلاً من "سياسة الصفر" التي واجه بها سلفه الليكودي شركاءه العرب. كان معيارها للحكم على سياسته، ولا يزال، موقفه من الدولة الفلسطينية وانسحابه من الجولان إلى حدود الرابع من حزيران يونيو 1967 وسقف الإجراءات الأمنية التي يريدها هناك وفي جنوبلبنان... وبدا حينها مستعجلاً ومعه واشنطن أيضاً. هو مستفيداً من زخم انتصاره وخوفاً من أن يؤدي التباطؤ إلى عراقيل داخلية، وهي سعياً إلى إنجاز يختتم به الرئيس كلينتون ولايته في البيت الأبيض، فيدخل التاريخ من هذا الباب وليس من باب التلوث الأخلاقي! لم يكن تريث مصر في أداء دورها المشرقي إذعاناً أو ضعفاً في مواجهة المحاولات الكثيرة لتحجيم دورها الإقليمي في قارتها وفي المشرق العربي. فهي تعي تماماً مخاطر المساعي التي تبذل لتهميش هذا الدور وتعرف خصومها عندما تتطلع نحو جاريها الغربي والجنوبي أو نحو الشرق. لذلك لم تتوقف عند معارضي وساطتها في السودان. ولم تتوقف عن التوجه نحو ليبيا. ولا تزال تلح على دور مراقب في الإتحاد المغاربي، مثلما تلح على الدعوة إلى التنسيق العربي الشامل خصوصاً في المسارات الثلاثة العالقة في المفاوضات مع إسرائيل. وإذا استحال على القاهرة إقناع دمشق بوجوب هذا التنسيق نظراً إلى الحساسية البالغة والتعقيدات والحسابات القديمة - الجديدة في العلاقة بين سورية والسلطة الفلسطينية، فإن التطورات الخطيرة التي شهدها لبنان أخيراً شكلت الفرصة المناسبة لعودة مصر إلى هذا البلد بعد غياب طويل. كانت مصر من زمن تتطلع إلى هذه العودة. إلى عودة شبيهة بالعودة المدوية لفرنسا. فما يربط بين البلدين من الماضي البعيد، اجتماعاً وثقافةً وسياسةً ونهضةً شاركا في صنعها لا يمكن تجاهله ولا يحتاج إلى تأشيرات لإعادة وصل ما انقطع، فالمزاج العام المشترك لم ينقطع. لكنها كانت تتريث لحسابات دقيقة مراعاة لدمشق ودورها في لبنان. كان يستحيل أن تلزم مصر الصمت أو أن تستكين وهي تراقب محاولة تهميش دورها المشرقي فيما المرحلة آخر مراحل التسوية على المسارات الثلاثة، بل إن الإتفاق المنتظر بين سورية وإسرائيل هو المقدمة الفعلية ل "السلام الحار" الذي يفتح آخر الأبواب العربية المقفلة في وجه الدولة العبرية. لكنها كانت على استعداد للمزيد من التريث لو لم تتعثر المحادثات على المسار السوري وينذر الوضع في جنوبلبنان بقلب الأوضاع في المنطقة كلها. إنها معنية بالعودة لدعم دمشقوبيروت. معنية بألا تفشل محادثات شيبردزتاون نهائياً ويتبدد السلام في المنطقة فيعمّها هذا المزاج الشعبي الذي عمّ لبنان في الأيام الأخيرة. تماماً مثلما هي معنية - ومعها العرب جميعاً - بمقاومة أي تغيير للنظام الإقليمي وهويته العربية الغالبة وجامعته، فإعادة تشكيل المنطقة شيء وإعادة تشكيل المجتمع العربي شيء آخر. بل إن إعادة تشكيل "الهلال الخصيب" شيء ومحاولة إقامة "النجمة الخصيبة" شيء آخر. وإن الإنسحاب من لبنان شيء والسعي إلى تحويله "ورقة" في يد إسرائيل شيء آخر. وأن يستعيد لبنان موقعه بعد التسوية النهائية شيء ومحاولة تذويبه أو تغييبه وتجاهله شيء آخر. التحرك الأخير للرئيس مبارك نحو لبنان قد لا يشبه تماماً التحرك الذي قام به صيف العام 1998 يوم اندلاع الأزمة بين سورية وتركيا، لكنه يذكر ببعض ملامح تلك المرحلة ومخاطرها، عندما يغالي طرفان إقليميان كبيران في لعبة حافة الهوية، لأنها لعبة تزعزع أركان المنطقة كلها إذا تجاوزت الخطوط الحمر. من هنا إذا كانت الولاياتالمتحدة معنية اليوم بممارسة أقصى الجهد والضغط لوقف دورة العنف، فإن مصر معنية أيضاً بتأكيد حضورها. وإذا كانت واشنطن غالت في دعمها الجلاد الذي يضرب المدنيين والمنشآت المدنية في لبنان، فإن القاهرة تجد لزاماً عليها أن تقف مع الضحية، ليس فقط لأنها عربية، بل لأن اللعبة تفترض حداً أدنى من التوازن الذي من دونه لا يمكن أن تتحقق التسوية أو السلام. وإذا كانت واشنطن تطمئن إسرائيل بمواقفها المنحازة لتشجيعها، ربما، على ضبط النفس ومساعدتها على استئناف المفاوضات مع سورية، فإن القاهرة معنية بأن تقف إلى جانب بيروتودمشق لتعطي موقفهما ثقلاً عربياً قد يبدو غائباً أو خجولاً. إن الهدنة غير المعلنة في جنوبلبنان فرصة ليعيد إيهود باراك النظر في مواقفه. فهو بدّد وقتاً كافياً، ولم يقدم تلك "التنازلات المؤلمة" التي تحدث عنها لإبرام الإتفاق مع دمشق، ولم يبد في الجولة الأخيرة من المفاوضات أي استعداد لترسيم الحدود في الجولان وما سيقدم في مقابل ما سيأخذ... وهو يعرف أن التزامه الإنسحاب من لبنان في تموز يوليو المقبل ليس عامل وقت ضاغطاً على سورية وحدها لجرها إلى إتفاق تتنازل فيه عن خطوط حمر رسمتها لنفسها. إنه إلتزام - مأزق لحكومته إذا لم يقترن الإنسحاب باتفاق مع سورية ولبنان. فهل يقدر باراك على إنسحاب أحادي عنوانه هزيمة المؤسسة العسكرية أمام المقاومة اللبنانية؟ هل يستطيع بعد ذلك أن يقنع المستوطنين في الجليل بأنه قادر على حمايتهم؟ ألا يفتح مثل هذا الإنسحاب أبواب الحدود الدولية على المجهول؟ هل يرهن مستقبله السياسي بصاروخ يروّع مستوطنة من المستوطنات الشمالية؟ إنه يعي تماماً الفرق بين موقف جنود يبكون في الشريط اللبناني المحتل وموقف مؤسسته العسكرية وقادتها. إن الضغط السوري الأخير على جبهة جنوبلبنان لا يستهدف الخروج من لعبة المفاوضات، بقدر ما يستهدف التذكير بديناميكية بديلة إذا انهارت ديناميكية السلام. فدمشق تعرف أن انهيار المفاوضات سيملي عليها استراتيجية أخرى قد يكون من ضحاياها كل ما بنته منذ حرب الخليج الثانية على مستوى العلاقة مع الولاياتالمتحدة خصوصاً وأوروبا عموماً، وانفتاح الوضع في جنوبلبنان على ما قد يخرجه من إطار"التنسيق" و"التفاهم"، أي تفاهم. وهي ليست في وارد المجازفة بهذا الرصيد. إن إعلاء باراك صوت طائراته وصواريخه فوق لبنان ليس محاولة إحراج سورية لإخراجها فحسب، بل هو مجاف لمنطق شعارات "السلام" التي أوصلته إلى رئاسة الحكومة ومجاف لمنطق البراغماتية الذي اعتمده، واعتمدته دمشق أيضاً. إنه ببساطة مجازفة بكل السلام الهش القائم على هذه الجبهة وتلك، وتأليب للعرب جميعاً. من هنا تعيد "ضربة" الرئيس مبارك شيئاً من التوازن إلى اللعبة فلا لبنان ومقاومته المشروعة متروكان ولا سورية وحيدة. يبقى على الأميركي "سيد اللعبة" وأولها وآخرها أن يجد المخرج الذي يعيد الطرفين إلى الطاولة كما فعل عندما أحيا المسار السوري. وعليه وحده ابتداع الصيغة التي لا تحمل أي طرف إلى مقعده مهزوماً أو منتصراً. وعودة مصر إلى لبنان، عودة العرب إليه، عامل مساعد لهذه الصيغة وليست "حملة تحريض".