عندما يلوّح رئيس الوزراء الاسرائيلي بوقف المفاوضات مع سورية فهذا يثبت مجدداً أن اسرائيل تعاني مشكلة مع التفاوض نفسه، بما يعنيه من انسحاب من أرض احتلتها بالقوة وصورت لنفسها ان هذه الأرض هي حق تاريخي لها. فلا التذرع بعمليات "حزب الله" في جنوبلبنان، ولا التشكّي من سلبية الرأي العام، ولا التحجج بالمتطلبات الأمنية، تكفي لتبرير التلكؤ والتأخير في دفع المفاوضات الى أمام، كما أن المساومات اللامنتهية باتت لعبة مكشوفة، وليس لها هدف آخر سوى الاحتيال على قرارات الشرعية الدولية التي تنص بوضوح على وجوب إعادة الأرض الى أهلها. قبل العمليات الاخيرة للمقاومة في جنوبلبنان، لا بد أن نلاحظ أن معاودة التفاوض بين سورية واسرائيل رفعت سقف التوقعات في شأن اتفاق سلام "وشيك" أو "سريع" ولعل ما عزز هذه التوقعات هو اقدام دمشق على تجاوز المطالبة باعتراف مسبق من باراك بما سبق ان تعهده سلفه اسحق رابين، وبالتالي رفع مستوى المفاوض السوري، فضلاً عن تأكيد الطرفين انهما توصلا في مفاوضات سابقة الى حلول لمعظم النقاط المطروحة بما فيها الترتيبات الأمنية. لكن حصيلة لقاءات شيبردزتاون، على رغم تناولها لمختلف الملفات، خلت من التزام اسرائيلي واضح بالانسحاب من الجولان. هذا يعني أن الجانب الاسرائيلي سعى الى استيعاب الزخم السياسي الذي ضخته المرونة السورية في المفاوضات، واكتفى من هذه الجولة ب"مكاسب" سجلتها الوثيقة الأميركية. وعلى رغم ان هذه ليست "مكاسب" بالمعنى الحقيقي، أولاً لأنها مشروطة أصلاً بالانسحاب الذي هو الهدف من التفاوض، وثانياً لأن الوثيقة تبقى مسودة وليست نصاً نهائياً... على رغم ذلك تصرفت اسرائيل وكأن الطرف الآخر، سورية، لا يريد شيئاً آخر غير تلبية شروطها، لذلك استخدمت حصيلة لقاءات شيبردزتاون للاستهلاك الداخلي ولاسترضاء رأي عام يعارض عموماً الانسحاب من أي أرض استولت عليها اسرائيل. وبذلك تثبت حكومة باراك انها لا تختلف بشيء عن حكومات سابقة دأبت على مداعبة أحلام الاسرائيليين وتغذيتها بأوهام أن السلام لا يعني سوى استمرار للاحتلال بوجوه مختلفة. قيل إن باراك خرج من شيبردزتاون بوضع مشابه للوضع الذي وجد رابين نفسه فيه قبل سبعة اعوام، عندما اودع تعهداً بالانسحاب لدى الادارة الاميركية. باراك لا يريد أن يلعب هذه اللعبة. لكن الظروف التي جعلت رابين يبتكر "الوديعة" ليست كالظروف الراهنة. فدمشق لم تعد تناور وانما تفاوض للتوصل الى اتفاق سلام، ولا أحد يعتبر مطالبتها باستعادة أرضها مبالغة أو تعجيزاً. كان رابين يناور عندما تعهد الانسحاب لكنه أظهر قبولاً مبدئياً ب"ثمن" السلام، اما باراك فيناور على طريقة نتانياهو إنما بأسلوب حذق افتقده الزعيم السابق لليكود. وكأن باراك لا يريد أن يفوت فرصة لإثبات أنه لا يختلف بشيء عمن سبقه الى موقعه، فهو بدد كل الانطباعات الأولية التي اشاعها عن شخصه وطريقة تفكيره وآفاق مشروعه، وها هو الآن يتقلص الى مجرد عسكري لا يفكر إلا في كل ما هو أمني ويعوزه الأفق السياسي الذي يريه ان الأمن يمكن أن يصان ويحصّن ب"حال سلام" وليس ب"حال صراع" مفتوح. من الطبيعي أن يلتفت باراك الى المسار الفلسطيني لتحريكه طالما ان المسار السوري يمر بمنعطف جديد صعب، وهذا سيناريو متكرر بين هذين المسارين تحديداً. ما يعني ان اسرائيل اعدت نفسها دائماً للمحاربة على كل الجبهات مع العرب في وقت واحد، إلا أنها لا تستطيع ان تفاوض مع جميع الاطراف في آن. ولعل "الفرملة" مع سورية الآن مقصود منها ادخال المسار في مرحلة انتظار على أن يُستأنف بناء على تغيير ما في الموقف السوري.