صحيح أن التوقف الأخير للمسار السوري - الإسرائيلي جاء نتيجة تعثر المفاوضات في شيبردزتاون. لكن لابد، كذلك، من ملاحظة أن هذا التوقف حصل في أعقاب تسريب ورقة العمل الأميركية من مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي، ونشرها في صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية. لم يتأخر السوريون في الرد على ذلك بنشر تعديلات وإيضاحات اقترحها الوفد السوري في مفاوضات شيبردزتاون على ورقة العمل تلك. وجاد الرد السوري لتصحيح ما قد يبدو - من الصيغة التي نشرتها إسرائيل - أن سورية قدمت تنازلات جوهرية في المفاوضات. بعد ذلك أعلنت سورية أنها لن تعود إلى المفاوضات إلا بعد أن يقدم رئيس الوزراء الإسرائيلي، تعهداً خطياً بأن إسرائيل ستنسحب في نهاية المفاوضات إلى حدود ما قبل 4 حزيران يونيو 1967. وبهذا الشرط تحديداً يقول الرئيس السوري أنه لم يعد يثق بضمانات الإدارة الأميركية حيال التزام إسرائيل تنفيذ ما تم الاتفاق عليه. لكن قبل ذلك يلاحظ أيضاً ان المفاوضات لم تستأنف أصلاً بين الطرفين في شهر كانون الثاني يناير الماضي إلا بعد نشر قصة ما أصبح يعرف ب "وديعة رابين" في "الحياة" خلال تشرين الثاني نوفمبر من العام الماضي. ونشر قصة الوديعة هذه تم بإيعاز أو بتفويض سوري، كما أنه تم بعد مشاورات ومداولات حول جمود المسار السوري - الإسرائيلي وإمكان استئنافه بين أطراف إقليمية ودولية عدة، وكان من أبرز المشاركين فيها بشار الأسد، نجل الرئيس السوري. كل ذلك يشير إلى أن المواجهة، التي لم تتوقف، بين سورية وإسرائيل تتخذ أشكالاً عدة، وتدور رحاها في مواقف ومسارح مختلفة. فهي مواجهة في الجنوباللبناني حيناً، وعلى طاولة المفاوضات حيناً آخر. وهي مواجهة إعلامية حيث المسرح هو وعي الرأي العام في البلدين، وفي المنطقة ككل. لكن الأهم من ذلك، أن كل ما نشر وقيل في المفاوضات وخارجها يتمركز في الأساس حول مسائل ثلاث: الحدود، والمياه، ومحطة الإنذار المبكر. لكن هناك مسألة رابعة لا تقل أهمية، وتلك هي مسألة لبنان وعلاقته بسورية، والمسار اللبناني وعلاقته بالمسار السوري. يقال ان الطرفين السوري والإسرائيلي أنجزا ما لا يقل عن 70 في المئة من الاتفاق بينهما، ومن ثم فإن ما بقي هو القليل. لا أحد يعرف مدى صحة هذا الادعاء ودقته. الذي يبدو هو أن ليس هناك خلاف جوهري بين السوريين والإسرائيليين حول مدى الانسحاب الإسرائيلي من الجولان. الخلاف كما يبدو من مسار المفاوضات، ومن تصريحات الطرفين، ومن قصة "وديعة رابين" ذاتها، يتمحور حول المقابل أو الثمن الذي تنتظر إسرائيل الحصول عليه في مقابل انسحابها إلى حدود الرابع من حزيران، كما تطالب سورية بذلك. هذا الثمن لا بد أنه يطاول مسائل مهمة وحساسة مثل المياه، والأمن، ودرجة التطبيع. كانت محطة الإنذار المبكر أحدى نقاط الخلاف هذا، لكن يبدو أن الطرفين تجاوزاها. يبقى لبنان نقطة الاختلاف والتجاذب الرئيسية بين الطرفين. ويبدو كذلك أن اسرائيل تعتبر أن الثمن الذي ينبغي أن تحصل عليه يجب ان يشمل تنازلاً سورياً في لبنان، أو بعبارة اخرى تغييراً في طبيعة العلاقة بين سورية ولبنان في اتجاه الفصل بينهما وتعميق استقلال لبنان وعدم ارتهانه للاستراتيجية السورية في المنطقة. ليس أمراً جديداً أن تعمل إسرائيل على تحقيق شيء مثل ذلك لأن العنصر الاساسي في الاستراتيجية الإسرائيلية يتمثل في الأمن. وهذا الأمن يتطلب تفكيك المنطقة العربية من الجوانب السياسية والاقتصادية والثقافية. ولا يتطلب تحقيق ذلك بالضرورة مؤامرات، وإنما تفعيل آليات سياسية واقتصادية وثقافية. وبما أن مركز الثقل في الصراع العربي - الإسرائيلي تحول إلى منطقة الشام، فمن الطبيعي ان يكون استكمال تفكيك هذه المنطقة أحد أهداف إسرائيل في مفاوضاتها مع سورية. من هنا يتضح ان المشاكل التي تكتنف المسار السوري لا تقتصر على تلك المتعلقة بالطرفين حصراً، بل إنها تتجاوز ذلك لتشمل تركيبة المنطقة بأكملها، وموقع كل منهما ومصالحه فيها. وفي هذا الإطار يمكن فهم لماذا يتميز الطرح السوري للصراع العربي - الإسرائيلي بتركيزه على الجانب القومي لهذا الصراع. جمود المسار السوري، إذاً، ليس أمراً جديداً أو استثنائياً. فهذا المسار كان دائماً من اصعب المسارات واكثرها بطأً، واسرعها الى التوقف. كانت هذه حال هذا المسار ليس فقط منذ مؤتمر مدريد، وانما قبل ذلك بكثير، ومن ايام مفاوضات فك الاشتباك في اعقاب حرب رمضان عام 1973. حينذاك كان التركيز الاميركي، أولاً، ثم الاسرائيلي ثانياً، على مصر، وهو التركيز الذي لاقى هوىً لدى الرئيس المصري أنور السادات واثمر اخيراً، بعد مفاوضات سرية وعلنية، اتفاق كامب ديفيد. كان المؤمل ان يؤدي ذلك الى اضعاف الرئيس الاسد والضغط عليه ليكون اكثر مرونة في مطالبه، واكثر اسراعاً لانجاز سلامه مع اسرائيل. الا ان شيئاً من ذلك لم يحدث. ثم جاء مؤتمر مدريد واصبح التركيز الاميركي والاسرائيلي على ياسر عرفات. ومرة اخرى لاقى هذا التركيز والاهتمام هوىً لدى رئيس منظمة التحرير، خصوصاً بعد فشل مراهنته على الرئيس العراقي. وقد اثمر هذا التركيز، بعد مفاوضات علنية وسرية، اتفاق اوسلو. ولكن للمرة الثانية لم يستعجل الرئيس السوري من امره شيئاً، ويتكرر الشيء نفسه بعد توقيع اتفاق السلام الاردني - الاسرائيلي. كل ذلك يطرح سؤالاً بسيطاً ومباشراً: ما هي محددات الموقف التفاوضي السوري؟ وهل هناك سياسة استراتيجية سورية إزاء عملية السلام تسعى الى تحقيق هدف اساسي يتجاوز استعادة الارض المحتلة؟ لقد قيل الكثير عن شخصية الرئيس الاسد وما تتسم به من صلابة وغموض، وهدوء مشوب دائماً بالحذر، والصبر طويل النفس. ولا شك ان قدرة الرئيس السوري على التريث ومحاولة كسب الوقت، رغم اسراع الآخرين في التوصل الى اتفاقات سلام مع اسرائيل، يؤكد في جانب منه ما يقوله الذين عرفوا الرئيس السوري عن قرب، مثل السياسي اللبناني كريم بقرادوني الذي يقول عنه انه "يسير الى هدفه بصبر وعناد. لا يستعجل ابداً. لا يتأثر ولا يثور. يفضل الوصول الى غايته بهدوء وعلى الناعم". ويتفق باتريك سيل مع بقرادوني عندما يؤكد ان اهم ما يميز شخصية الاسد هو ان تحركاته دائماً ما تكون مسبوقة بالحذر والتخطيط الهادئ. يحرص على تفحص الارض بدقة قبل ان يتخذ خطوته القادمة. هذه صفات مهمة لأي قائد أو مفاوض، وهي تنم عن ذكاء حاد. لكنها لهذا السبب بالتحديد قد تكون مؤشراً على ضعف الامكانات ومحدودية الخيارات. ومن ثم فهي الآلية الوحيدة الممكنة في مواجهة ذلك الضعف وتلك المحدودية. ولا يكفي ان ننظر الى سياسة الاسد التفاوضية من زاوية شخصيته فحسب، وإنما لا بد من تناولها في اطار محدداتها الاجتماعية والسياسية. من هذه الزاوية يمكن القول أن سياسة الاسد التفاوضية تخضع لمجموعة من المحددات التي يمكن اجمالها في نوعين، خارجي يتعلق بالتحولات الكبيرة التي حدثت للصراع العربي - الاسرائيلي منذ حرب اكتوبر - رمضان عام 1973، ثم هناك محددات داخلية تخص طبيعة النظام السوري الحالي واهدافه على المستويين الداخلي والخارجي. لنبدأ بالمحددات التي فرضتها التحولات الخارجية. ونستعيد ملاحظة سبق الإشارة إليها، وهي ان مركز الثقل في الصراع العربي - الاسرائيلي تحول بعد اتفاق كامب ديفيد الى منطقة الشام ليصبح بشكل اساسي صراعاً بين سورية واسرائيل على هذه المنطقة. هذا لا يعني ان الطموحات الاسرائيلية انحصرت في الشام، وانما يعكس ما حدث خلال الربع قرن الماضي. قبل كامب ديفيد تحديداً كانت مصر القوة العربية الرئيسية المواجهة لاسرائيل. لكن بعد هذا الاتفاق تم تحييد مصر - على الاقل حتى هذه اللحظة - واخراجها من هذا الموقع في الصراع. ولعله من المعروف ان الرئيس المصري الراحل الزم نفسه ومصر معه بأن حرب رمضان هي آخر الحروب بين مصر واسرائيل. ومنذ ذلك الحين لم يتجاوز الدور المصري في عملية السلام مهمة تسهيل التنازلات الفلسطينية. هذا التطور جاء في اعقاب تحسن موقع سورية السياسي على الخارطة الاقليمية للمنطقة لتصبح لاعباً رئيسياً بعدما كانت احد الاهداف التي يتم حولها تنافس وصراعات القوى الاقلمية العربية. وهذا التحسن حصل على يد النظام السوري. كان من الطبيعي في مثل هذه الحال، ان يشعر الرئيس السوري بأن اسرائيل تسعى الى عزل سورية وتطويقها باتفاقات سلام لتجعلها اكثر استعداداً لتقديم التنازلات المطلوبة. وقد تحقق لها ذلك، لأن محاولة الرئيس الاسد حشد مواقف دول الاقليم الشامي العربية، تحديداً الاردن والفلسطينيين ولبنان، حول الموقف السوري لم تنجح إلا مع الطرف اللبناني. السبب الرئيسي وراء هذا الفشل السوري يعود في جانب اساسي منه الى السياسة السورية ذاتها، خصوصاً تجاه الطرف الفلسطيني. لأن الاردن كان ولا يزال خارج النفوذ او التأثير السوريين، وتعود علاقاته مع الولاياتالمتحدة الاميركية واسرائيل الى ما قبل قيام الاخيرة بسنوات. والفشل السوري هنا يتجسد في اخفاق الاسد في احتواء القيادة الفلسطينية وكسبها الى جانبه بدلاً من تركها تقع، ولفترة طويلة، تحت تأثير خصومه في العراق، ثم في اسرائيل. والحقيقة ان الاسد لا بد انه يجد نفسه في مأزق بالفعل. فهو نظرياً مرغم على قبول مبدأ الحلول الفردية مع اسرائيل. لكنه من الناحية العملية يرفض هذا المبدأ لمعرفته بمضاعفاته السلبية على الموقف السوري. وهو يدرك انه في ظل موازين القوى السائدة والتي تميل بشكل حاد لمصلحة اسرائيل، تصبح الحلول الفردية أفضل وسيلة للاستفراد بالاطراف العربية من جانب التحالف الاميركي - الاسرائيلي. وهذا في الواقع ما حصل. ومن هنا تمسكه المستميت بفكرة تلازم المسارين السوري واللبناني، وبالتالي اصراره على الاحتفاظ بالوجود والنفوذ السوريين في لبنان لانه الضمان الوحيد الذي يمنع فك المسارين عن بعضهما بعضاً. لكن آثار الفشل السوري في منطقة الشام لا تزال تلقي بظلالها على الموقف التفاوضي للرئيس الاسد، وبالتالي تدفع به الى ان يكون اكثر حذراً وتشدداً في تقديم اي تنازلات اخرى. من هذه الزاوية لا يمكن النظر الى خطة رئيس الوزراء الاسرائيلي باراك للانسحاب من جانب واحد من جنوبلبنان، حتى من دون التوصل الى اتفاق سلام مع سورية، الا على انها محاولة اسرائيلية اخرى قد تساعد على الفصل بين المسارين، على أمل ان يؤدي ذلك الى استكمال تفكيك منطقة الشام العربية وتعميقه. * كاتب واكاديمي سعودي.