على نحو ديزني وتوم و"أند" جيري والكوكاكولا والجينز ورعاة البقر السينمائيين والنهود الفيلية نسبة إلى الفيل المحشوة سيليكون والهمبرغير، وربما الزنى الرئاسي، دخلت سي.إن.إن.، محطة التلفزة، قبل اندماجها مع آي. أو. إل.، وبالأحرى بعده، في سلك الأعلام والأمارات على العصر الأميركي. وتنهض الأمارات هذه بدور الحافز الشَّرطي في بعض الإختبارات الحيوانية، أو الحيوية عموماً. فما أن تتراءى من بعيد حتى يسيل اللعاب، أو تنقبض عضلات القدمين، أو تثور ثائرة الاشتهاء، بحسب سوابق التجريب وغايات صاحبه. وتبعث الأمارات الأميركية، اليوم، الذين يرون إليها علاماتِ آخر الزمن، ويحملونها على هذا الوقت الغسقي والكالح، رغبة في القتل لا ترد ولا تقاوم. فيذهب الكاتب البريطاني الكبير، جون بيرغير، في صحيفة "ذى غارديان" نقلت "لوموند" الفرنسية المقالة في 6 كانون الثاني / يناير 2000 من غير تأريخ نشرها في الصحيفة البريطانية، إلى مقارنة الشبكة التلفزيونية الأشهر بجوليات، الجبار المدجج بالدروع والخوذة المعدنية والسيف القاطع، و"المقدَّم" مساعد المقدم، تواضعاً ماركوس، لسان جماعة شياباس الهندية المكسيكية، بداود، الولد النحيل والضعيف والقليل الأود وصاحب المقلاع القاتل. والمقارنة مضمرة، ويكني عنها وسم المقالة بعنوان يدعو إلى القيام "على هزيمة العام" وضعضعته وتصديعه. ومثلت الصحيفة على المقارنة بنشر جزء من لوحة جيروم بوش 1450-1516، بجوار صورة شمسية نصفية للمقدم ماركوس، بغليونه ولثامه الجبلي والثلجي - وهو اللثام الذي يضعه المسافرون في الجبال الباردة وممراتها اللافحة. وتدور المقالة على نقض سي.إن.إن.، وتمثِّل عليها اللوحة ومعانيها، برسالة كتبها ماركوس، في 1997، في "النظام العالمي الجديد"، وبسط فيها صفة هذا "النظام" الفظيع. ومسوغ استعادة الكاتب البريطاني هذا الجزء من لوحة بوش، والتعليق عليها، اليوم، أمران. الأول ظرفي. فالجزء الذي يصورالجحيم واحد من ثلاثة أجزاء موسومة بثلاثية الألفية. والمقالة فاتحة، أو هي من فواتح ألفية جديدة. والثاني يتناول معنى اللوحة المقرون بمعنى العصر، على ما يراه، أو يراهما الكاتب في قرانهما الواحد بالآخر. فهو يرى في اللوحة الصورة "نبؤة" التي تتصور بها "الحال الذهنية"، أو "المناخ" الذهني والمعنوي الذي يقسر العالمَ عليه "النظامُ الإقتصادي الجديد" في أواخر قرننا، المنصرم العشرين. فاللوحة، شأن نشرة أخبار على شاشة سي.إن.إن.، أو شأن تعليق خبري في وسيلة من وسائل الإعلام والإتصال الأخرى، أو شأن دعاية، لا يظللها أفق، ولا يُرفع فيها أفق تفضي اللوحة بالنظر والنفس إليه. والأفق هو ما لا يُبلغ حقيقةً، ولا ينتهى إليه. فهو وجهٌ تلتمسه الرحلة، وتقيم على التماسه، وتضبط بعثرة الأشياء والأوقات والمعاني عليه. فإذا حُجب الأفق، أو احتجب، عَدِم الناظرُ، وهو في هذا المعرض، بشرية آخر أيام القرن العشرين وأول أيام القرن الذي يليه، اتصالَ الأفعال واحدها بالآخر، وبعضها ببعض" ولم يقع النظر على مستقر، يقر عليه ويتعرفه، ولا على رسم طريق يوجِّهه" ودخل الزمن بعضه في بعض، فلم يتميز ماضٍ أو آتٍ من حاضر أو حالٍ مقيم ومبعثر نتفاً لا جامع لها. وحيثما توجه إنسان العولمة الشاملة والمحيطة وقع على مفاجآت وغرائب وانفعالات. وكل واحدة منها تنتصب غاية في نفسها، فلا ترد إلى غيرها، ولا تومىء إلى غيرٍ يتم معناها به. وكل شيء قائم في نفسه، ثابت فيها وعليها، لا ينتقص منه تغير ولا حادث. وعلى هذا فالشيء منقطع من غيره، ولا علاقة تجمعه إليه أو تحمله عليه أو تميزه منه. ويؤدي هذا، إذا دام واتصل، إلى التنافر والإضطراب، وإلى "وحشية" الإثارات المختلفة والكثيرة، والحمى التي تستولي، على ما يفترض الكاتب البريطاني، على المشاهدين والمستمعين المعولمين. فالسعي في الترويج والبعث على الشراء والربح بأي ثمن، يحيل عالم البشر نثاراً وكسرات من غير رابطة تربط به، وإلى هذا المعنى ذهب المقدم ماركوس في رسالته، على ما يكتب جون بيرغر. ويمدح بيرغر جيروم بوش على "تنبئه" بما آل إليه عالمنا، قبل خمسة قرون ناجزة. وهو يمدح ماركوس على وصفه عالمنا وصفاً دقيقاً، قبل ثلاثة أعوام من وقتنا، أو عامنا هذا. فنظير كل عام من أعوام صاحب ثورة الهنود المكسيكيين يجعل الكاتب قرناً ونصف القرن ونيفاً من قرون الرسام الكبير. وهو يصرف فوق نصف مقالته على إيجاز ما أثبته "الكوماندانتيه" - على ما كان قادة قوات فيديل كاسترو يلقبون أنفسهم في جبال كوبا قبل استيلائهم على هافانا وبعدها - في رسالته "التاريخية". فيحصي كسرات العالم على مثال إحصاء بيانات مركزية "سمات" العصر. فالكوكب الأرضي ميدان حرب عالمية رابعة، ومسرح فتوح تجارية عتادها رؤوس الأموال والاستثمار بينما "يُقتل، في كل لحظة، ملايين البشر أو "يقطعون" ويشوّهون. فلا يدري القارىء هل ان اتفاق الفتوح التجارية والمالية ومقتل الملايين وقَطْعهم هو قرينة سببية وعلِّية، أم أنه مجرد اتفاق، ولا يترتب عليه تبعة. فالحجة على العلاقة السببية غير قائمة، في "الكسرة" المفترضة. ولا يعرف بيرغير، وهو ينقل عن صاحب شياباس، سطراً واحداً يحتج لهذه العلاقة. ولا ريب في أنه بينما كان البيزو المكسيكي يتردى، في 1994-1995 ولكن هل تردي سعر صرف البيزو فتح تجاري ومالي؟، كان يقتل عشرات الألوف من الناس في رواندا وبوروندي وجنوب السودان والبوسنة والجزائر... فهل تقع التبعة عن المَقاتل الفظيعة هذه على "العتاد" الرأسمالي والاستثماري؟ وكيف؟ وهل يعني الكاتب، أو الكاتبان، بالموت والقَطْع الحال المعنوية التي تحيل العالم "قِطَعاً متشظية يستحيل جمعها" أم هما يريدان الموت والتمثيل الحقيقيان؟ ويمضي بيرغير، مترسماً خطى دليله ومرشده الملثم، على ترجحه بين المجاز والحقيقة. فالكسرة الأولى من الجحيم المعاصر هي الدولار، "الأخضر" اللون، نظير لون أخضر في لوحة بوش، على قول الكاتب والناقد الأدبي والفني جاداً غير مازح. أما الكسرة الثانية فهي مثلثة، أو على صورة مثلث، وتمثّل على الكذب: فعوض العقلنة والتحديث المزعومين يرمى بمئة مليون طفل إلى الطريق أي إلى الجريمة والبغاء والمخدرات و"يدمج" مئتا مليون طفل في "قوة العمل الشاملة". ويحتار القارىء، بعد تسليمه بإحصاء بيرغير وماركوس ويقظته من مفاجأة الأرقام والتوسل بها إلى تدويخه وإصابته بالدوار، يحتار في تأويل الرقمين ومقارنتهما واحدهما بالآخر. فهل الدمج في الإنتاج أقل "بربرية" من ترك الأولاد إلى الطريق أم الأمر سيّان في الحالين؟ وأي "طريق" يقصد الكاتب؟ هل هي طريق البلدة الإفريقية أو الآسيوية الريفية، أم هي طريق حي هارلم أو حي برونكس بنيويورك؟ وهل هي حضن التأديب بآداب الجماعة، وتلقين لغتها، ام هي سدوم وعمورة وتيههما القاسي؟ ويذهب الكاتبان الى أن "النظام الجديد "كلياني ومتعصب"، ولا استئناف لحكمه وقضائه، الإقتصاديين، ولا لإفقارهما "الذي لا شفاء منه". ويخالف هذا المذهب بعض تظاهرات العولمة، فحيث دمجت أسواق ناشئة، على ما تسمى، الأولاد والنساء في سوق العمل وقسرتهم طوال جيل من الزمن نحو ثلاثة عقود على ساعات عمل طويلة ومرهقة وحرمتهم الضمانات الإجتماعية، أخرجتهم في الشطر الثاني من حياتهم المهنية، وأخرجت أولادهم من الفقر. ومهدت الطريق، جراء هذا، أمام اندماجهم في "طبقات متوسطة عالمية" يجمع بينها، لتعاسة حظها على ما يرى الكاتبان، شهودها سي.إن.إن.، وإقبالها على شراب الكوكا كولا، وشرهها الاستهلاكي، وغفلتها عن جحيم بوش وعن تقلبها بين أظهره. إذا جاز الكلام على حركة ومواضع ومعنى في هذا المعرض. اما الكسرة الثالثة فكُروية، على مثال "الحلقة المفرغة" أو الدور الذي يدور، على قول بيرغير، غيرَ هيَّاب الإسترسال مع التأويل الرمزي والصوري. ويمقتضى هذا التأويل تنهض الحلقة مثالاً على الهجرة إلى الحواضر الرأسمالية الكبيرة، سعياً في العمل والتكسب، وعلى إفضاء الهجرة والسعي إلى اطراح المهاجرين على شاكلة النِفيَّات أو النفايات والقمامة. ويستقوي هذا الوصف، من غير ريب، بحال ملايين المكسيكيين الذين ينتقلون، في الظلام الدامس أو ما بقي منه، من ضفة ريوغراندي، النهر الحدودي بين المكسيك والولايات المتحدة، إلى ضفة أخرى. ويمثِّل هذا الضرب من الهجرة على أثر الجوار بين مجتمعين متباعدين، وعظيمي التفاوت والإختلاف، في قوة "نداء الحواضر" وسطوة "سرابها" ولكن الجوار المادي والحقيقي حال قليلة وقصوى. ودوام الهجرة عقوداً طويلة، بين ضفتي الأطلسي وضفاف المحيط الهادىء، أو بين ضفتي المتوسط، وولادة المهاجرين جيلاً ثالثاً بعد الجيل الثاني، قرينة على جدوى الهجرة، الإقتصادية والإجتماعية والمعنوية الرمزية. وهذا الدوام، وثمراته، قرينة، من وجه آخر، على أن الأمر لا يقتصر على نداء خادع أو سراب أجوف، على خلاف زعم الكاتبين. ولعل بلوغ الجيل الثالث من أحفاد المهاجرين السود والمغاربة والهنود إلى بعض أوروبا الغربية، سن الرشد، ودخولهم الحياة العامة، وإسهامهم في وجوه كثيرة منها، إيذان بعلاقة جديدة بمجتمعات الهجرة لا يختصرها الإطراح. والكسرات الأخرى كنايات عن الرابطة بين المصارف التجارية وبين أعمال الاحتيال وتبييض الأموال الكبيرة، وعن القمع العسكري والقمع الصريح، وخسارة السيادة الوطنية، وعن "خربشة" النظام الجديد، أو خلطه جمعَ الأسواق والمواضع المتباعدة، وتوحيدَه الأقاصي في حيز متصل، بتكثير الحدود والحواجز، و"تقويض الدولة - الأمة" على شاكلة فعلته في الاتحاد السوفياتي، ويوغوسلافيا، "إلخ". وعلى مثال مألوف كذلك، سبقت إليه بيانات ونداءات عتيدة، ينبغي أن تكون الكسرة الأخيرة، السابعة في الإحصاء، متفائلة أو إيجابية، على ما كان يقال ويكتب إلى أمس قريب. وتتصور هذه الكسرة في صورة جيب، أو جيوب، وهي كناية عن جيوب مقاومة النظام الجديد، والتصدي له. وإثباتها، على رغم منطق النظام الجديد المفترض، وامحاء الأفق من "أفقه" وليله، لا مناص منه لتسويغ صدور رأي في "النظام الجديد" مثل رأي المقدم والكاتب، وتسويغ جواز صدوره. فإذا صح أن النظام الإقتصادي المعولم هو على الصفة الكلية التي ينسبها إليه نقاد العولمة "الراديكاليون"، أو الغلاة والقاطعون، لترتب على صحة هذه الصفة وصدقها، استحالةُ الإنكار عليها ونقدها، ولامتنع النظام المعولم من النظر الناقد والجامع الذي يضطلع به صاحب شياباس المكسيكي والكاتب البريطاني، ومن على معتقدهما ورأيهما. وعلى خلاف النقد الفلسفي والتاريخي التقليدي، المتحدر من حركة التنوير ومن الحركات الإجتماعية والسياسية والثقافية في القرون الثلاثة الأخيرة، يعلن النقد الجديد عجزه عن استشراف فجر يخلف ليل العولمة الأليل والبهيم. فإطباق هذا الليل على العقول والأفئدة يجعل من المحال عليها تصور "هناك" أو "غير"، أو استشعارهما والحدس فيهما. وعلى هذا فالنقد المحدث "تمهيدي" أو "برنامجي"، على قول أحد آباء هذا النقد، الفرنسي هنري لوفيفر، في العقدين السادس والسابع من القرن العشرين. ودأب هذا النقد هو إيجاب شرطه ومقدمته، وإنشاء جوازه وإمكانه. وعليه أن يبرهن، بعد ان قضى في النظام الجديد بعدم الأفق والاستدلال والطريق والخروج إلى غيرٍ، وأخال مجرد تصور خلافٍ لمنطق النظام، عليه أن يبرهن على وجود صدعٍ في "سجن" النظام وجداره يسوغ فعلَ النفي الذي ينهض عليه النقد، وتستظهر به المقاومة. والبرهان، في هذا المعرض، لا يعدو العزيمة، على قول الفقهاء، وإثباتها، والحض عليها. فشرط المقاومة إنما هو أولاً "الرفض"، رفض الصورة الكليانية التي زرعها العالم الكلياني، المالي، في العقول والأفئدة. وهذا، على ما هو جليّ، دور يدور. فبحسب صفة العالم الجديد، ينبغي أن تكون موارد الرفض جفّت ونضبت كلها. فمن أين يأتي أمثال بيرغير وماركوس برفضهم؟ وكيف يستدلون على طريق، أو دلالة وعلامة فارقة، في وسط القتام الذي يلونون العالم المتصدع والمتناثر به؟ فإما أن العالم المعولم ليس على الصفة الكليانية والقاتمة التي يصفونه بها، وإما أنهم، ماركوس وبيرغير ومن مثلهما، مخصوصون بمَلكَةٍ خارقة تخرجهم من عالم الظلال والتشبيه، وتنصبهم أئمة هذا الخروجِ، على منوالهم ومثالهم. وليس محالاً أن يجتمع الأمران معاً، فلا يصدق الوصف الصدق الكامل، وينسب القوم إلى أنفسهم إمامة وصدارة، بل وحياً وقول جون بيرغير في جيروم بوش إنه نبي ثلاث مرات في المقالة، ينحو هذا النحو يسوغ نصبهم أنفسهم أئمة و"وارثين". والحق أن الجمع بين الوصف الرؤيوي والكارثي وبين طلب الإمامة والوراثة هو من الأمور المعتادة في تاريخ الفكر والسياسة. فينبغي أن تكون الليلة ظلماء ليفتقد البدر، على قول الشاعر العربي" ويتوقع انبلاج الفجر حين يطول الليل ويتمادى، على ما يغني الشاعر الفرنسي" ويذهب "المفكر" الألماني إلى أن إحداق الخطر، من كل صوب علامة على الدخول في آتي الأزمنة. أما المهدي ففرجُه ساعة تملأ الأرض جوراً... فيغفل الوصّافون المعاصرون عن صدور وصفهم الرؤيوي والكارثي عن مثال سابق وقديم يستعير بهاءه من انصرامه وطيِّه. ولعل أسفَ ماركوس وبيرغير على "الدولة - الأمة"، وعلى سيادتها واستقلالها، والتمثيلَ بالإتحاد السوفياتي ويوغوسلافيا على الدولة - الأمة التي صدعتها العولمة وقسمتها وانتهكت سيادتها، من أثر الإنصرام في التذكر والتأريخ، وإعماله فيهما تحريفاً وتزويراً. فلا الاتحاد السوفياتي كان، ولا يوغوسلافيا كانت دولة - أمة. بل كان الإتحادان سجني شعوب مختلفة ومتنافرة ابتليت بقبضة حزبية وإيديولوجية قاصمة. ولم تنجم هذه الحال عن إنهيار الإتحادين المزعومين، ولا عن الحروب الداخلية التي عصفت بهما حين ارتخاء قبضة الحزب - الدولة عليهما. فهي معروفة، وتعود نذرها إلى الفتوح الروسية والقيصرية في القفقاز، في منتصف القرن التاسع عشر، وإلى إنشاء دول وطنية في البلقان على أنقاض السلطنة العثمانية واحتضارها الطويل. ولا يقضي ضعف السيادة الوطنية، في المجتمعات القادرة على الدخول في العولمة، في قواها الإجتماعية والسياسية بالعجز، بل يدعوها إلى إنشاء حيز ومدى يكافآن حيز الأسواق الرأسمالية ومداها. ويبعث على القلق حنين بعض النخب الثقافية والسياسية إلى المعنى الجامع، فجحيم جيروم بوش، وأفقه الممحو والآفل إنما هو حِداد على الفردوس الذي طرد منه آدم وحواء، على ما وسم الرسام الجزئين الأولين من الثلاثية، وكان شرط حرث العالم وعمارته رفع السحر، الفردوسي والإبليسي، من العالم. وابتداء ارتفاع السحر، أو رفعه، كان التخلي عن إدارة الكون، والكواكب، على محور الأرض المأهولة وإنسانها. فما أقام السحر في الأرض ملأت النظائر والأشباه العين والعقل، واتصلت الكائنات بعضها ببعض من طريق سلسلة كبرى لا تنفصم حلقاتها وعراها. ولم يشك العقل في متانة الأشياء، ولا في بيانها عن نفسها. ولكن إدخالها في لغة العلامات المجردة اقتضى اطراح ألوانها وملمسها وصورها الظاهرة، وردها إلى "جوهر منبسط" في مقابلة "شيء أو جوهر يفكر". وهذا كله هو مصدر وجوه الحداثة، وتقسيمها المعاني والأشياء والمجتمعات. وليس مصدرها "النظام الإقتصادي الجديد". والحملة على التجارة والصناعة والتوسع الاستعماري، ونقضها بالفضيلة، السياسية والزراعية والعسكرية، القديمة، أو "الغوطية" على ما كان يسميها كتاب القرن السابع عشر البريطاني، من لوازم التنوير والفكر التقدمي. وتعاظم الإستلاب مع اطراد توسع التبادل صورة أليفة من صور التنوير في إحدى صيغه المعاصرة. فالناس غالباً ما يدخلون آتيهم وهم يديرون له ظهورهم، ويستقبلون ماضيهم. وقد يجتمع على هذا قادة فلاحين جائعين، ونقاد فنيون، وأساقفة أحبار وباباوات، ومحرضون قوميون ومتعصبون، وموظفون حزبيون. * كاتب لبناني.