فلنفترض جدلاً، وموقتاً، ان سقوط قتيل لاسرائيل أو لعملائها هو "عمل استفزازي"... وأن المسؤولين عن هذا الاستفزاز هم أولئك الأرهابيون الشياطين في "حزب الله"... وأن "حزب الله" هذا يتحرك بأزرار في دمشق أو طهران أو كاتماندو... وأن ايهود باراك رئيس وزراء اسرائيل في وضع داخلي حساس يستلزم وجود موسيقى تصويرية مغرية في كل أركان الشرق الاوسط، وأن الرجل ومساعديه هم - حتى - يتصرفون بروح رياضية الى درجة أنهم يصدرون انذارات مسبقة بالحرب من عواصم عربية... بل انهم حتى ينبهون من يعنيهم الامر مسبقاً بامكان قيامهم بحرق أرض لبنان قبل خمس دقائق من قيامهم بحرقها فعلاً. لنفترض كل هذا... وهو ما سمعناه اخيراً بألسنة اسرائيلية واميركية، لكن كل هذا خارج الموضوع بالمرة. فالموضوع جوهره هو: ما هي صفة اسرائيل في تلك الأرض اللبنانية؟ ما هي صفة "حزب الله"؟ ما هو معنى تفاهم ابريل؟وما هي مسؤولية الولاياتالمتحدة؟ في الاجابة عن السؤال الاول يجب أن نذكّر الولاياتالمتحدة على مدار الساعة بما تحب هي أن تنساه. نذكّرها بأن صفة اسرائيل في الجنوباللبناني وفي الجولان والضفة الغربية وقطاع غزة هي أنها قوة احتلال. بل احتلال مستمر في حال لبنان مثلاً منذ سنة 1978 على الأقل. وفي الإجابة عن السؤال الثاني فإن "حزب الله" هذا نشأ أصلاً نتيجة للغزوة الاسرائيلية في 1982 وليس سابقاً عليها. هذه مقاومة وطنية لبنانية، فليكن "حزب الله" ابرز خيوطها. لكن تلك المقاومة - بما فيها اعضاء "حزب الله" - هم مواطنون لبنانيون. هم اصحاب هذه الارض في الجنوب وليسوا ضيوفاً عليها أو وافدين اليها، وهم يقاومون اسرائيل القوة العسكرية الاولى والساحقة على مستوى الشرق الاوسط كله... بما هو متاح لديهم من أسلحة محدودة... عارفين مسبقاً ان فرص استشهادهم تظل دائماً أكبر من فرص بقائهم على قيد الحياة، وهم جزء عضو من النسيج اللبناني المتشابك بغير أن يتبجحوا في أي وقت بأنهم "يحكمون لبنان" أو يسعون إلى ذلك، وهدفهم المحدد - من غير ميكروفونات ولا كاميرات - هو تحرير الأرض اللبنانيةالمحتلة من الاحتلال الاسرائيلي. والمشكلة الحقيقية التي تواجهها اسرائيل ازاء هذا النوع من المقاومة هي مشكلة مزدوجة. فأولاً - لم تستطع اسرائيل اختراقهم سواء بالرشوة أو بالعمالة أو بالتكنولوجيا. وثانياً - هناك وحدة وطنية حقيقية تدعمهم، والوصول الى تلك الوحدة لم يكن مشواراً سهلاً ولا مجانياً ولا خالياً من التضحيات، انما الناس تعلمت من التاريخ الرقيب. وتعلمت من سياسات اسرائيل ذاتها التي لا تطيق لبنان أصلاً... لا حرباً... ولا سلاماً... ولأسباب فيها من جذور الماضي بقدر ما فيها من مخططات المستقبل. ثم نأتي الى "تفاهم ابريل / نيسان" إنه في الأصل اتفاق غير مثالي بالمرة، لكنه اصبح البديل التالي. فالاصل في الاشياء هو ان تحاول الشعوب تحرير أراضيها المحتلة بكل الطرق الممكنة. لكن توحش اسرائيل من ناحية، وعدم استسلام لبنان من ناحية اخرى، ولد "تفاهم ابريل" هذا في سنة 1996. وفي هذا "التفاهم" قيد متبادل، فالمقاومة الوطنية اللبنانية ملتزمة عدم توجيه طلقاتها - من أي نوع - الى السكان المدنيين في شمال اسرائيل، في المقابل تلتزم اسرائيل بعدم توجيه ضرباتها - بأي مستوى - الى المدنيين في لبنان. "تفاهم ابريل" هذا فرضته الضرورة، وفرضه ايضاً حد ادنى من المنطق، زائد الحاح فرنسا بإصرار من سورية. في سنة 1996 - لنتذكر - كان شيمون بيريز يلجأ الى كل ما لجأ اليه قبله كل رئيس وزراء لاسرائيل، فحيثما يحتاج رئيس وزراء اسرائيل الى "شعبية" في الداخل ينطلق بطائراته وقنابل ليمطر بها الشعب اللبناني. في احدى المرات شن اسحق رابين رئيس وزراء اسرائيل ضربات جوية متوحشة هدفها المعلن هو: ارغام مئات الآلاف من اللبنانيين في الجنوب على الرحيل الى بيروت شمالاً بهدف الضغط على حكومة لبنان لكي تضغط على حكومة سورية لكي تضغط على حكومة ايران من أجل... وقف المقاومة الوطنية في جنوبلبنان فيستمر الاحتلال الاسرائيلي هانئ البال. في عملية "عناقيد الغضب" التي شنها شيمون بيريز ضد لبنان في سنة 1996 كان الهدف المعلن هو "تكسيح" لبنان فيتحمس الرأي العالم الاسرائيلي لانتخاب بيريز رئيساً للوزراء. هذا ينقلنا الى السؤال التالي: ما هي مسؤولية الولاياتالمتحدة؟ انها ملتزمة - اصلاً - قرار مجلس الامن رقم 425 الصادر في سنة 1978 بألزام اسرائيل بالانسحاب من لبنان بلا قيد ولا شرط، لكن بدلاً من ذلك تتكيف الولاياتالمتحدة في كل مرة مع احتياجات السياسيين في اسرائيل، من عمل وليكود. حتى في عملية "عناقيد الغضب" في سنة 1996، وحتى بعد أن ضربت اسرائيل مقراً للامم المتحدة في "قانا" جهاراً نهاراً وقتلت اكثر من مئة طفل وامرأة، لم تفكر الولاياتالمتحدة في ادانة اسرائيل، ولا حتى في ايفاد وزير خارجيتها لكي "يشخط" في رئيس الوزراء الدموي، فقط بعد أن تحركت فرنسا بدأت الولاياتالمتحدة تلاحقها على مضض. في حينها قام الرئيس الفرنسي جاك شيراك بإيفاد وزير خارجيته - هيرفي دوشاريت وقتها - الى اسرائيل ولبنان وسورية لكي يقول علناً وبأعلى الصوت: أنا قادم الى هنا لأبقى... ولن أعود الى باريس الا فاعلاً... أو مفعولاً به. كان هناك آخرون ايضاً وفدوا الى المنطقة، من بينهم يفغيني بريماكوف وزير خارجية روسيا، لكن في القاموس الاميركي روسيا كلها - ببريماكوف أو بغيره - لم تعد تساوي طرفة عين. أما فرنسا فقصة اخرى. فرنسا حليف رسمي للولايات المتحدة. ولها مصالح حقيقية في هذه المنطقة تحديداً، لقد ازاحتها الولاياتالمتحدة من غرب وشمال افريقيا. وازاحتها جزئياً من الخليج. انما لبنان وسورية ومنطقة الشام عموماً اصبحت آخر المواقع المحتملة لنفوذ فرنسي سابق أو لمصالح قادمة. والاضافة الحقيقية التي حققها "تفاهم ابريل" في سنة 1996 كانت اقرار الولاياتالمتحدة - ولو بتأفف وبطلوع الروح - بمشاركة فرنسا معها في رئاسة لجنة الاشراف على تنفيذ "تفاهم ابريل" مع وجود الأطراف الثلاثة الأخرى: لبنان وسورية واسرائيل، بالطبع سرعان ما قامت الولاياتالمتحدة بالتجاوب مع تلك "الهدية المسمومة" التي اصرت عليها سورية، فكتب وزير الخارجية الاميركي - وارن كريستوفر وقتها - رسالة رسمية الى رئيس الوزراء الجديد في اسرائيل بنيامين نتانياهو يخطره فيها بأن اسرائيل لم تعد ملتزمة اميركياً بالالتزام السابق من اسحق رابين بالانسحاب الكامل من الجولان السورية حتى حدود الرابع من يونيو 1967، واحدة... بواحدة. صحيح ان جاك شيراك أحب في شبابه فتاة اميركية، انما اميركا الرسمية لا تحب أن يزاحمها أحد في "حب" العالم العربي. هذا النوع من الحب الذي ينشغل به الساسة وليس الشعراء. والآن علينا أن نصدق ما قالته اسرائيل اخيراً وتراجعت عنه موقتاً. نصدقها في سعيها الى تعديل "تفاهم ابريل" ان لم يكن الغاؤه، بما يقنن عملياً توحشها ضد لبنان كله، مدنيين ومنشآت ومدارس ومستشفيات، وبعد النجاح السابق في ابعاد الاممالمتحدةوروسيا و"الاتحاد الاوروبي" يجئ الدور على فرنسا، من هنا كان ملفتاً تماماً حرص السياسة الاميركية من البداية على تبرير التوحش الاسرائيلي الاخير ضد لبنان، بينما الساسة الفرنسيون اعلنوا صراحة ان هذا انتهاك صارخ ل "تفاهم ابريل". هو انتهاك... وصارخ... لأن المقاومة الوطنية اللبنانية التزمت تماماً وحرفياً بالقيود التي قررها "تفاهم ابريل" فلم تهاجم شمال اسرائيل، ولا حتى المدنيين من عملاء اسرائيل في منطقة احتلالها. في المقابل فعلت اسرائيل العكس تماماً فركزت انتقامها ضد المنشآت المدنية اللبنانية، بما فيها محطات الكهرباء حتى بيروت، سعياً الى تحويل حياة الشعب اللبناني الى جحيم... وخراب اقتصادي. وفي كل العمليات العسكرية في التاريخ قد يسقط المدنيون قتلى أحياناً كنتيجة جانبية غير مقصودة، لكننا هنا أمام عملية عسكرية تتبجح اسرائيل علناً ومسبقاً بأنها تستهدف كل ما هو مدني. هكذا... وبكل توحش. لو فعلت دولة عربية هذا، او بعض هذا، ولو بالكلام، لتلاحقت الادانات الاميركية وقرارات حلف شمال الاطلسي ومجلس الامن وبيانات جمعيات حقوق الانسان وتنظيم الاسرة ومكافحة الاجهاض ونشرات "سي. ان. ان." وتلفزيون استراليا متهمة العرب جميعاً بالارهاب صوتاً وصورة، اما حينما تمارس اسرائيل الارهاب رسمياً، وارهاب الدولة تحديداً، فالتعليق الاميركي المبرمج هو: نحن لا نعرف - بعد - من الذي بادر بالطلقة الأولى. الموال نفسه المستمر منذ حزيران يونيو 1967، ويتكرر حتى الآن. والآن لدينا ارهاب اسرائيلي مستمر، ارهاب وبلطجة، ولدينا أيضاً عقاب جماعي، فإذا سقط جندي اسرائيلي واحد قتيلاً يخرج وزير خارجية اسرائيل ليقول إن اسرائيل ستحرق اراضي لبنان، وبأسلحة وقنابل اميركية يتحمل ثمنها دافع الضرائب الاميركي الذي يخفي عنه اعلامه الحقيقة الاساسية الحاكمة في القصة كلها، حقيقة ان اسرائيل موجودة كقوة احتلال، فلمعرفة تلك الحقيقة يحتاج المواطن الاميركي الى رؤية الفيلم من أوله، وبدلاً من ذلك يتاح له الفيلم - فقط - من آخره، وآخره هو: ان اسرائيل مسكينة مسالمة غنية نظيفة، وسط منطقة كلها - كلها - اشرار وارهابيون وشياطين ومتسولون وقذرون ويرفضون عزف الموسيقى التصويرية المناسبة لعازف البيانو... ايهود باراك. * نائب رئيس تحرير "اخبار اليوم"، القاهرة.