مع استمرار الحرب في يوغوسلافيا تطرح بالحاح مسألة حماية المواطنين العزل والمدنيين من مصائب الاقتتال ومن الهجمات العنيفة التي يوجه اكثرها ضد المدن وضد مراكز التجمعات السكانية ومرافق الحياة المدنية، كذلك مسألة حماية المدنيين الضعفاء، خصوصاً النساء والأطفال والمسنين الذين لا يقوون على الدفاع عن انفسهم ضد الأعمال الانتقامية التي يمارسها أحد طرفي القتال. وحتى الآن لم تتمكن الأطراف المساهمة في القتال في يوغوسلافيا من الوصول الى أي حل لهذه المعضلة الانسانية، مثلما انه ليس من السهل ايجاد حل لها في ظل تطور مفهوم الحرب في القرن العشرين ونمو أسلحة القتل الجماعي. وصعوبة التوصل الى حل لهذه المعضلة سهلت للصرب، رغم الاستنكار الدولي الواسع، ممارسة أعمال التطهير الديني والسلالي طيلة أسابيع القتال، وساهمت في تحويل قضية كوسوفو من مسألة أقلية تسعى الى الحصول على حقوقها في اطار الاتحاد اليوغوسلافي، الى مشكلة المئات من "المختفين" من الكوسوفيين ومئات الآلوف من المشردين الذين قد لا يرون وطنهم مرة اخرى. لقد طرحت هذه القضية، قضية حماية المدنيين في الحروب والمجابهات العسكرية، خلال نيسان ابريل عام 1996 عندما شنت القوات الاسرائيلية هجوماً واسعاً في جنوبلبنان عناقيد الغضب ضد المقاومة واللبنانيين، وقصف جنود اسرائيليون مجمع الأممالمتحدة في قانا في جنوبلبنان فقتلوا ما يزيد على المئة من المدنيين اللبنانيين الذين احتموا بالمجمع. أثارت هذه المجزرة استنكاراً دولياً واسعاً، وبلغ الاستياء أشده في الدول العربية بسبب بشاعة الحادث وردود فعل اسرائيل عليه التي رمت الى انكاره او التقليل من أهميته. وكانت ردود الفعل هذه مثيرة للاستغراب حتى في اسرائيل حيث وصفها الكاتب الاسرائيلي آرييل شافيت بسخرية في صحيفة "هآرتس" اليومية: "قتلناهم بكثير من السهولة: بدون ان نذرف دمعة واحدة، بدون ان ننشئ لجنة للتحقيق في القضية، وبدون ان نملأ الشوارع بالاحتجاجات والمظاهرات … اننا على يقين من اننا ما دمنا نملك البيت الأبيض والكونغرس فإن حياة الآخرين ليست على المستوى نفسه من الأهمية من حياتنا" 10-5-1996. المضاعفات العربية والدولية على مجزرة قانا، مثل احتمال تعثر مسيرة السلام وتحول المجزرة الى مأزق انتخابي لشمعون بيريز، والضغط الذي مارسته المقاومة بشنها هجمات صاروخية مستمرة على القرى الاسرائيلية الحدودية، كل ذلك كان من الأسباب التي دفعت الولاياتالمتحدة الى تبديل موقفها من "عناقيد الغضب" ومن تداعياتها. فبينما امتنعت الادارة الاميركية خلال الأيام الأولى عن التدخل لايقاف العدوان الاسرائيلي ولحماية المدنيين اللبنانيين، وجدت نفسها مضطرة بعد المجزرة الى التدخل بصورة مباشرة وانتقل وارن كريستوفر الى المنطقة من أجل ايجاد حل للموقف المتدهور على الجبهة اللبنانية - الاسرائيلية. هذه الخطوة جعلت اطرافاً دولية مثل روسيا وفرنسا، التي حاولت واشنطن والاسرائيليون من قبل التقليل من دورها في "عملية السلام" ترسل مندوبيها للمشاركة في التوصل الى هذا الحل، بالاتفاق على صيغة تكفل عدم تكرار مجزرة قانا، وتحمي المدنيين من أعمال الانتقام ومن نتائج الاقتتال، مثلما هو مطروح اليوم في كوسوفو. قدم الجانب الأميركي مشروعاً تضمن امتناع المقاومة عن مهاجمة الجنود الاسرائيليين وعن القيام بأي نشاط في المناطق المحاذية للأراضي اللبنانيةالمحتلة، مقابل تعهد اسرائيل بالتفاوض حول الانسحاب من الجنوب. ولم يقبل اللبنانيون ولا قبل السوريون بالمشروع الأميركي الذي كان يحمي المدنيين، شكلاً، ولكنه كان في جوهره، يحمي قوات الاحتلال الاسرائيلية ويسمح لها بالتمركز في منطقة الاحتلال الى ما لا نهاية. ودعم الفرنسيون والروس الموقف اللبناني - السوري المشترك. واضطر الجانب الأميركي، ازاء الضغوط العربية والدولية، ورغبة في تطويق مضاعفات مجزرة قانا، كما بيّن كريستوفر لاحقاً في شهادة أدلى بها امام إحدى لجان مجلس الشيوخ، الى قبول مشروع تفاهم نيسان الذي نص على امتناع "اسرائيل والمتعاونين معها"، على استهداف المدنيين في لبنان، كما نص ايضاً على "امتناع المجموعات المسلحة في لبنان عن استهداف المدنيين داخل اسرائيل". اعتبرت المقاومة في لبنان هذا التفاهم مكسباً كبيراً لها، اذ انه قبل التفاهم كانت اسرائيل ترد على عمليات المقاومة بالانتقام من المواطنين اللبنانيين. ولم يكن مستبعداً أمام شدة أعمال الانتقام وتراكمها وتكرارها، ان يصيب هؤلاء، أو قسم كبير منهم الارهاق، وان يمارسوا نوعاً من الضغط المباشر وغير المباشر على المقاومة لكي تحد من عملياتها ضد القوات الاسرائيلية حتى لا تقوم هذه بدورها بالانتقام منهم. بعد التفاهم أصبحت لعبة الضغط على المقاومة عبر ايذاء المدنيين أكثر صعوبة من ذي قبل. من جهة اخرى، صحيح ان "تفاهم نيسان" منع المقاومة من مهاجمة القرى الواقعة "داخل اسرائيل". الا أن المقاومة في الأساس "لم تكن تهاجم تلك القرى إلا نادراً، ودائماً رداً على أعمال عسكرية اسرائيلية"، كما كتب مارك هيلير الباحث الاسرائيلي في مركز "جيفي" للدراسات في جامعة تل ابيب جيروزاليم بوست 4-1-1999. الزعماء الاسرائيليون قبلوا "تفاهم نيسان"، مثل وزير الخارجية الأميركي، على مضض. فالتفاهم الذي تم التوصل اليه "بضغط عالمي بعد مأساة قانا"، كان في رأي شمعون بيريز "واهياً ولن يدوم طويلاً بعد انقضاء الانتخابات" كما جاء في صحيفة جيروزاليم بوست 22-6-1996. أما بنيامين نتانياهو فانه لم يكف عن انتقاد التفاهم وعن انتقاد بيريز لأنه ورّط اسرائيل، كما قال في تصريح لراديو الجيش الاسرائيلي في آذار مارس 1999، بالموافقة على "ترتيبات سيئة جعلت الجيش يعترف بحق حزب الله في التعرض لجنوده، بينما قيدت حق الجيش في الرد في المدن والقرى اللبنانية. وانتقد وزير الدفاع الاسرائيلي الحالي موشيه ارينز حكومتي بيريز ونتانياهو، قبل انضمامه الى حكومة الأخير، لانهما نفذتا الاتفاق "الذي قيد الجيش الاسرائيلي ومنعه من الرد على قواعد حزب الله في القرى والمدن في جنوبلبنان". جيروزاليم بوست 14-12-1998. قد يكون غريباً ان يصمد تفاهم نيسان رغم رأي المسؤولين الأميركيين والاسرئيليين به. هذا اذا لم يكن غريباً، في الأساس، ان يقبل به شمعون بيريز. ولكن من الأرجح ان بيريز قبل به حتى لا تتعرقل حملته الانتخابية بسبب مضاعفات "قانا"، ولأنه كان واثقاً من عودته الى رئاسة الحكومة. ومن انه بعد انقضاء الانتخابات سيكون قادراً، بفضل براعته السياسية وصلاته الدولية الواسعة، من وضع التفاهم على الرف. وعندما سقط بيريز وفاز نتانياهو محله، كان من المفترض ان تسعى حكومته الى الغاء التفاهم. وحاول نتانياهو تحقيق هذه الغاية وعن طريق طرح مشروع "لبنان اولاً"، أي اعادة فتح المفاوضات مجدداً مع اللبنانيين على نحو يبطل مفعول التفاهم. إلا ان مشروعه هذا لم يكتب له النجاح، لأنه لم يكن جاداً في حديثه عن الانسحاب من لبنان وفقاً للقرار 425، هذا فضلاً عن انه لا يتمتع بما يتمتع به بيريز وقادة حزب العمل من صلات دولية حميمة تسمح بفتح معركة ناجحة من أجل الغاء "تفاهم نيسان". فعلاقة نتانياهو مع واشنطن لا ترقى الى مستوى العلاقات الوثيقة بينها وبين زعماء حزب العمل. هذا لا يعني ان واشنطن لا تسعى الى تعديل التفاهم، ومن ثم الى اخراج اسرائيل من مأزقها في جنوبلبنان، أو من "فيتنام الاسرائيلية"، كما توصف احياناً في الصحف الاسرائيلية. فقبل أسابيع قليلة زار مارتن انديك، مساعد وزيرة الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأوسط، دمشق لكي يبحث مع المسؤولين فيها بعض قضايا المنطقة ومنها مسألة "تفاهم نيسان". ونفى انديك ان يكون أثار مسألة تعديل التفاهم، ولكنه قال انه بحث في امكان تطبيق التفاهم بصورة "بناءة وايجابية". لم يتسع المجال من أجل استيضاح المسؤول الأميركي عن النواحي غير "البناءة" وغير "الايجابية" في تطبيق تفاهم نيسان حالياً، ولكن من الأرجح ان يكون موقفه هنا وملاحظاته شبيهة في جوهرها، مع ملاحظات وتحفظات وارن كريستوفر، هذا فضلاً عن تحفظات شمعون بيريز والمسؤولين الاسرائيليين على التفاهم. فالمطلوب هنا هو اما منع المقاومة اللبنانية من التعرض للجنود الاسرائيليين في الأراضي اللبنانيةالمحتلة، وإما اطلاق يد اسرائيل في الرد على أعمال المقاومة من دون مراعاة لآثار هذا الرد على المدنيين اللبنانيين. في الحالة الأولى، تكون المقاومة قد وافقت على الاستقالة من المهمة التي قامت من أجل تحقيقها ألا وهي تدمير آلة الاحتلال حتى يقتنع المحتل انه من الأفضل له بالانسحاب. في الحالة الثانية، تحمل المقاومة، وان يكن بصورة غير مباشرة، مسؤولية ما يحل من متاعب وآلام، ومن ثم يصبح من الأسهل محاربتها وتصويرها بأنها لا تعبأ بمصائر اللبنانيين. في الحالتين يبدو المطلوب كأنه ليس التطبيق الايجابي للتفاهم، ولا حتى تعديله بل الاستغناء عنه في الجوهر، حتى لو بقي على حاله شكلاً. ان تفاهم نيسان لم يكن انجازاً يفيد منه اللبنانيون، بل كان ولا يزال انجازاً يفيد منه المجتمع الدولي لأنه يقدم محاولة معقولة للتخفيف من تعرض المدنيين لأخطار الحروب. ومن يسعى الى تجنيب سكان كوسوفو آلام الحرب وأعمال الابادة والانتقام، عليه ان يعمل على المحافظة على تفاهم نيسان وتعزيز آليته وضمان تنفيذ المقررات التي تتخذها اللجنة المولجة بتطبيقه، واعتباره تجربة يمكن الاستفادة منها في مناطق اخرى من العالم. اما من يفعل العكس فيفسح في المجال أمام الاعتقاد بأنه يدافع عن مصائر المدنيين بمقدار ما ينفع دفاعه هذا مصالحه الاستراتيجية. * كاتب وباحث لبناني