اختار شوقي بزيع عنوان "فراديس الوحشة" دار الآداب لديوانه الأخير، في العام الأخير وفق الذوق العام على رغم تنبيهات العلماء من القرن العشرين. وهذا العنوان هو في الأصل عنوان القصيدة الأولى من الديوان، التي يتطرق فيها الشاعر الى شبابه وطموحاته وسيرورة احلامه السياسية والوطنية ويتلمس خطاه المستقبلية. يقوم هذا العنوان، كعنوان ديوان بودلير: ازهار الشر، وكعنوان ديوان الياس ابو شبكة: أفاعي الفردوس، على شيء من الاغراب إذا جمع بين امرين غير مؤتلفين هما الفردوس والوحشة. فالفردوس يوحي بالسعادة والهناء والمحبة والعلاقة الخالية من اي إشكال مع الآخر، في حين ان الوحشة، على العكس من ذلك، تنبع من إشكالية العلاقة بالآخر، ومن النفور منها والحذر تجاهها. والوحشة لغة تعني الخلوة، والخوف من الخلوة، والهم، وبعد القلوب عن المودة، والانقطاع والخلاء. ولم يكتف الشاعر بزيع بذلك الإغراب، بل رفده كالشاعرين السابقين بشيء من الغلو ايضاً، فاستعمل صيغة الجمع الفراديس ليزيد الوقع ويجعل عنوانه صيحة الم واتهام، فهو عنوان كتاب، والكتاب تواصل مع الآخر، صيحة ختم بها شوقي بزيع القرن العشرين الصاخب بالاحداث المؤلمة والإحباطات والإنكسارات، مشيراً الى ان سعادة المرء خداع آني، وما يخاله فردوساً ليس إلا مجرد وهم، وان الوصول سراب، والتواصل مفعم بالحواجز والخيبة، وان الإنسان محكوم بوحشته. فديوان "فراديس الوحشة" لا يعني جنات العزلة، اي ما يجده بعض الافراد من سعادة في الإبتعاد والعزلة، بل يعني فراديس موحشة جحيمية ينكفئ فيها المرء وينفتح على تلافيف أناه، إذ يتبين سراب الاحلام ووهم السعادة وخيبة الرجاء. فالشاعر بزيع يسم قرننا العشرين "المنصرم" بهذه الفراديس الموحشة ويصمه. يحوي الديوان اربع عشرة قصيدة، تبدأ بقصيدة تحمل الاسم نفسه، وتنتهي بقصيدة "عرس قانا الجليل". ويفتتح الديوان بالحلم العصي والشمس المتمنعة حتى إذا طلع الاحد / قام المسيح ولم يجد احداً / فعاد الى الضريح/ وغاص/ فيه/ الى/ الابد. ويسود اليأس المطبق الذي يكشفه التقطيع الشديد للأبيات الاخيرة الواردة اعلاه، وكأن الغوص في الضريح تم ببطء شديد املاً في قدوم قادم، في حدوث شيء، ولكن عبثاً. معاني الديوان كلها حافلة باليأس والضياع والخيبة، في كل ما خاله الشاعر من قبل فردوساً، الحياة السياسية، الواقع الاجتماعي، الاماكن الاليفة، العيد، الحب، العلاقة الغرامية، العزوبة، فالطريق افضى في نهاية المطاف الى تقاطع موحش وجهنمي، لا التقدم ينفتح على غير اليأس والوحشة الخانقة. لقد إنكسر الحلم وتفتت، وانقلب الحب الى ضباب كثيف، وادرك القلب انه دخل عتمة موحلة، والارض المعطاء لم تعد تعطي بل ابتلعت سواعد ابنائها، وسط صمت وعجز وانكسار ما فتئ يتناسل. موحشة فراديس الشاعر بزيع، فراديسنا التي بنيناها بالاحلام والآمال، مكسورة خطواته، والأفق يلتف الى دياجير أناه الممزقة بمخالب الحلم والهزيمة، والامل واليأس الذي اضحى الوجه الآخر لصفحة هذا الامل. غار الضوء، وفي وحشة الشاعر، يكتشف ان كل ما نسجه هو ادهى من خيط العنكبوت، وان ما ربحه فقط هو الشعر، وان الفن هو المطهر الحقيقي. يحتفل الشاعر بزيع باللغة احتفالاً، يحول الشعر الى شهد وحديقة للجمال الراعش وبؤرة للمعاني المتناسلة. وفي بناء صرحه هذا ينوِّع مصادره تنوع وجوه الحياة وتعدد الاحاسيس والمشاعر، فيقطف من نبات الطبيعة الحبق والبابونج والخشخاش والبرتقال وحتى الشوك لا يهمله. ويدجن حيوانها البري وطيرها الجارح الذئب، النسر، ويغرف من معالم الحياة اليومية المقهى، الشاي، النعناع، رخام المدن، المهرجان ولا تتورع شعريته المتوثبة عن العبث بمصطلحات علمية الارخبيل، النخاع الشوكي بأنامل الفنان المرهف فيقول ومضت تفتش عن سبب / لذبولها الدامي / فلا تلقى سوى ارضٍ تخبئ باليدين / نخاعها الشوكي. ولا يهاب الشاعر بزيع الاستعانة برموز التراث الادبي عمر، جميل، الزير، نزار قباني والاستفادة من التراث الديني نوح، موسى، المسيح. فكل ما تزخر به الحياة من معالم وذاكرة، يكتسب من جراء ريشته ابعاداً شعرية حافلة بالإيقاع والدهشة والرعشة اعيدي إليّ النسيم القديم / يهب عليلاً / على حبق البيت / عودي بأجفاني القهقرى / نحو ذاك الحداد الشجي. مع شوقي بزيع نتأكد ان الكلمة لا تنبع شعريتها من انسجام حروفها ورنة إيقاعها، بل تتدفق من سياقها، وان لا وجود لكلمة تتمنع على الشاعر، وتأبى ان تحمل اشواقه وإيقاعاته. لغة الشاعر بزيع تتوثب وتتناسل كصورة في مرايا متقابلة لا رياح تحالفني بعد / لكنني منطو فوق اسئلتي / كالغراب. وهو في زخم انفعالاته لا ينسى القارئ، بل يفسح له مكاناً واسعاً الى جانبه كي يشارك في هذا الاحتفال اللغوي، ويسهم في توضيح صورته، فعندما يقول ليس من داع لتختلق الغيوم / ذريعة لتنام / في كنف الجبال / ولا العواصم كي تشيخ / ولا المواعيد انتظارات / ولا المتسكعون على الرصيف / منازلاً لتبيت وحشتهم يتمدد المعنى مشرع الابواب. فالاستمتاع البريء متوافر لعفيف الهمة، لكن الاشتراك في مهرجان الشعر مفتوح للجميع ومرحب به من صميم القلب، والقراءة الفاعلة مرجوة ومطلوبة وحافلة بالخير الكثير سأقرع ذلك الخشب المخلع / في فناء البيت / بالأسنان والأيدي، وبضج بالحيوية عبر معان زئبقية تنتظر من يحاول الإمساك بها فيما يمسك الموتى بمفردهم / زمام الارض / وهي تجس نبض خيالها الواهي / وترسب في نفايات الرجاء. و"فراديس الوحشة" فردوس حقيقي للشعر الحديث، نزهة ممتعة في حدائق أخاذة وسعادة عطرية، ولكنه ككل حديقة لا يخلو من بعض الاشواك تنبت هنا وهناك، والاشواك لم ترحم انامل احد من الشعراء، بدءاً من امرئ القيس ومن غير انتهاء بالمتنبي. وفي سبيل الشعر والشاعر اتوقف عند محطات لم استسغها شخصياً، وكنت اتمنى الا اعثر على مثلها في ديوان حافل بالجمال والمتعة. ينساق الشاعر بزيع احياناً، على ما يبدو لي، مع رغبته في تطويع الكلمات، ويمعن في ذلك الى حدود ثقيلة الوطء، فتبدو الكلمة فجة، عثرة في ركض سلس، فعندما يقول مثلاً ويمنح عيني تلك المباهلة الناقصة تبدو كلمة المباهلة صخرة كالحة وسط نهر متدفق. وعندما يقول دافعة خطواتي / الي حيث تغدو ثنائية الجسد / الروح / محض ادعاء نشعر اننا امام نثرية باردة. وعندما يقول مصوراً خجله امام الحبيبة السابقة خجل لأني لا اضيف الى جمالك / وهو يمعن كالفضيحة / في استدراته / قلامة ظفر نشعر ان قلامة ظفر هذه لم تضف شيئاً الى جمال القصيدة، لكن الشاعر عندما يقول افتش عما يرممني كالزجاج يبدو بعيداً عن الانسياب السلس، ويحتاج الاستمتاع الشعري الى تأويل بعيد، لأن الزجاج لا يرمم بل يبدل إبدالاً. ويجري هذا المجرى قوله منقباً في ما وراء الاسم / عن معنى يخض دمي / كعاصفة من الخشخاش فكلمة منقباً تشير الى فعالية إيجابية، ويخض تؤشر مع قوة إيجابية ايضاً، في حين ان الخشخاش هو النبات الذي يصنع منه الافيون، المادة المخدرة، الموهمة والطافحة بالسلبية. لكن ما هو اشد وقعاً واكثر إثارة للقلق، ان الشاعر يرخي بثقل وحشته على رموز لا تحتملها. فنحن لا نتعرف لديه على عمر بن ابي ربيعة ولا على جميل إذ يقول: "رأيهما كان اشقى بصحرائه الخاسرة / عمر ام جميل وتفاجئنا صورة نزار قباني ولا تقنعنا، ويجور الشاعر على الفنانة داني بسترس إذ يحملها على القول غير اني انا الراقصة / لم تصلني عروقي بأودية / غير هاوية الجنس ولعله فعل ذلك مدفوعاً بما يعانيه من وحشة وألم. ويغوص بنا الشاعر في العتم، بشكل فج، في كثير من الاحيان، من دون ان يفتح كوة واحدة، هي من طبيعة الادب عادة، ومن دون ان يقنعنا برسالة ديوانه في المحصلة النهائية. ولا نستطيع إلا التساؤل عما يقصده عندما يقول سأترك هذه المدن الرجيمة / ذات يوم / كي تشيخ وحيدة بين المقاهي / وسأسترد من المرايا / ضوء اشجاري القديمة. بل إن القلق يساورنا عندما نسمعه يقول: كأن من ثلاثين عاماً / اقايض روحي بقضمة شعر/ مبللة بلعاب الخطايا / وممهورة بصراخ الشياطين. وهذه الخيبة، نعود ونشعر بها، عندما وضع الشاعر يده على لحظة إنسانية وعالمية، لحظة اكتشاف الانسان انه قد سبق ان وصل الى سعادته لكنه لم يتعرف عليها فهجرها وعاود البحث من جديد فضاع الى الابد، وذلك في قصيدة كأننا امرأة وصرختها لكنه لم يرَ، في هذه اللحظة المأسوية، الا الندم والهذيان. ولم يخصص لها الا خمس صفحات، في حين انه افرد عشر صفحات للهم السياسي "فراديس الوحشة"، وتسعاً وعشرين صفحة للهم السياسي الوطني "عرس قانا الجليل". فهل الهم الإنساني اقل اهمية من الهم السياسي؟ وهل تكفي الاشارة اليه بأبيات معدودة؟ إن شعرية شوقي بزيع، تبدو بشكل عام، اكثر غنى بكثير مما تحمله من معانٍ. ويبدو واضحاً انسياقه مع متعة النص وجمال العفوية وسحر الرعشة المختلسة اختلاساً. لا تنال هذه المحطات من هذا الصرح الشعري الذي ينهض شامخاً، باعثاً السعادة والنشوة والالم الممتع والحذر اللذيذ. ف"فراديس الوحشة" شعر حقيقي، صوّر بفنية عالية، لحظات مرت بنا، مفجعة، كمجزرة قانا مثلاً. وقد خلَّد الشاعر بزيع صورة الطفلة المقتولة في سيارة قرية المنصوري. ونجح الشاعر بزيع في تصوير هذه المسيرة التي تعتري كل واحد منا، إذ يتأمل، وهو في خريف العمر، مسيرة عمره فيرى ان ما حققه لم يكن بالكثير. اذا كان ديوان "فراديس الوحشة" قاتماً في رؤيته، يبعث فينا الحزن والرعب احياناً، فإننا نستطيع اعتباره دعوة، عبر شعريته، الى الخروج من هذه الوحشة الى ضوء الطريق، ونداء، للخروج من تلافيف الأنا الى رحابة المصافحة. وربما هو تحذير لمن لا يزال في بداية الطريق، وتغرّه الفراديس التي يعبرها، ان ينتبه، ويتمعن فيها كي يتأكد انها جنات القيم وليست فراديس الوحشة.