تطور القصة القصيرة العربية خلال العقود الثلاثة الأخيرة، لا يمنع من الإشارة الى خصوصيات يشهدها هذا الجنس الأدبي، المميز والمراوغ في الآن ذاته. انها خصوصيات تفرضها المسارات التي يأخذها هذا التطور من بلد عربي الى آخر، وكذلك السمات الاجتماعية المحلية التي يعيشها، والتي تجد صورتها في نتاجات أدباء الواقعية على وجه الخصوص. والأمر بالنسبة للقصة القصيرة في المملكة العربية السعودية أكثر مدعاة للاهتمام بالنظر الى قلة اطلاع القراء في مختلف الأقطار العربية على ما يبدعه الكتّاب السعوديون من كتابات، وبضمنها القصة القصيرة، بما يمكن أن يكون كافياً لتكوين نظرة نقدية صحيحة. أميمة الخميس وعبدالله التعزي، كاتبان من المملكة العربية السعودية، صدرت لهما في بيروت دار الجديد مجموعتان قصصيتان مهمتان "مجلس الرجال الكبير" لأميمة الخميس، و"سيد الطيور" لعبدالله التعزي، والكاتبان من الجيل الأدبي الجديد في السعودية الذي يواكب تطور النتاج الأدبي في بلاده وفي الأقطار العربية الأخرى، ويمتلك اطلالة جيدة على الأدب العالمي. أميمة الخميس في "مجلس الرجال الكبير" لأميمة الخميس - نقف على عوالم وأحداث انسانية تنعكس من حدقة امرأة - كاتبة، فتنهض بين السطور رؤى مرهفة، ذات شفافية تلتقط ببراعة وسهولة ما تراه في الواقع الاجتماعي من سلبيات، دون أن تتحول القصة الى مشهدية نقدية، إذ أن النظر الى الواقع والتأمل في تفاصيله، يأتي في كتابات أميمة الخميس نظراً واعياً يذهب الى ما وراء الحدث العابر من معانٍ ولا يثقل تلك الأحداث، بسرديات تقريرية. ففي كل قصص المجموعة لا يعثر القارىء على الكاتبة تطل برأسها من بين السطور، بل يجد أشخاصاً من لحم ودم يتحركون على الورق، ويملكون ما يمكن قوله للقارىء في صورة طبيعية... تلقائية... فيها الكثير من حرارة القول وبساطته، ما يجعل من القصص تجد طريقها في يسرٍ الى قلب القارىء وعقله معاً. في قصة "مسعود الجداوي"، تعالج أميمة الخميس حكاية الظلم الذي يمكن أن يسلب طفلاً في سنوات عمره الأولى حياته العائلية الهانئة، وساعات مرحه مع أقرانه من الأطفال، بسبب حاجة والده الى المال، تلك الحاجة التي تدفع الأب الى تسليم ولده للآخرين كي يعمل خادماً لهم، في مقايضة تقارب الى حد بعيد مقايضة العبودية. في هذه القصة الجارحة ثمة وقوف أمام عذاب الطفولة وبالقدر نفسه أمام قسوة الأب الذي لا يقيم كبير وزن لمصير ابنه الطفل، وثمة انتباه من الكاتبة الى العلاقة السردية السلسة لأحداث القصة بذاكرة الرواية الطفل، أو بالأدق الطفل الذي كان والذي يستعيد رحلات تشرده من سيّد الى آخر، حتى لحظة هروبه في شاحنة لا يعرف وجهتها ليعيش بعد ذلك وحيداً أو كما يقولون "مقطوعاً من شجرة"، وليحمل وذرّيته من بعده كنية المدينة الأولى التي جاء فيها: "لم أعرف سرّ تلك الأموال ولكن من التدابير التي بالكاد أسترجعها ولهجة الرجل الجدية، ونظراته المتفحصة لي، عرفت أن الموضوع مخيف وحاسم، وحينما التفت الى أبي وأراد أن يغادر، صافح الرجل وأعتقد أنه قبل أنفه". وفي هذه القصة ينوب الاسترجاع الانتقائي من أزمان مختلفة ومتباعدة عند حصرها في زمن واحد، فالأحداث تتتابع من ذاكرة الرجل في تقطيع سريع يجعل من القصة أشبه ما تكون بمونولوغ داخلي يقدمه الى شخص مجهول، ربما كان القارىء، ولكنه في كل الأحوال، مونولوغ مترع بالمرارة، وفيه تقدم أميمة الخميس واحدة من أجمل قصص هذه المجموعة المشحونة كلها، والمكتوبة بدرجة عالية من التوتر. أما في "حجرات دنيوية" فإن أميمة الخميس تقدم عتاباً من نوع آخر، تعيشه هذه المرّة امرأة تحرقها نار الغيرة من ضرة يتزوجها زوجها ويتعلق بها الى حد اهمالها، في هذه القصة تقدم الكاتبة رصداً موفقاً، سلساً وحاراً لعذابات الغيرة، والتي تدفع المرأة الى اللجوء لمشعوذ دجّال كي يقدم لها من تعاويذه ما يضمن عودة الوئام بينها وبين زوجها... الأمر الذي - رغم تكراره - ينتهي الى نتيجة معاكسة تماماً، حيث يقوم الزوج بتطليقها، منحازاً نهائياً الى زوجته الجديدة: "في الليلة القمرية الثالثة عشرة من الشهر الذي يليه، كانت ورقة طلاق فاطمة بين يديها، تبعها هو... وهو مخذول مهزوم... وأتت إحدى أخواته لتخبرها أن الأدوار السفلى للمنزل ستتحول الى دكاكين للإيجار، وأن الغرفات الدنيوية تضيق بهم". أعتقد أن هذه القصة، والمكتوبة بشفافية عالية تقدم عوالم إنسانية ليست جديدة على القارىء، الذي يعرف جيداً صعوبات حياة المرأة التي تعيش في ظل ضرة أخرى، ولكننا مع ذلك نحسّ بجدة الموضوع وندواته بالنظر الى المعالجة الناجحة التي تسبك الكاتبة قصتها بها، وخصوصاً من خلال التفاصيل الدقيقة لمعاناة تلك المرأة والتي تتحول في ذاتها الى نص قصصي مدهش ومثير للإعجاب. أميمة الخميس، في قصصها "مجلس الرجال الكبير" تقدم للقارىء العربي صورة للمستوى الفني الذي وصلته القصة القصيرة في المملكة العربية السعودية، وفي الوقت ذاته ترسم أمامنا عوالم ابداعية أنثوية تلامس بشفافية واحساس عميق جوانب اجتماعية وانسانية، من دون الاستغراق في عزلة الكتابة النسائية التي تضع حواجز بينها وبين ابداعات الرجال، إذ أننا أمام كاتبة تعرف كيف توظف حسّها الأنثوي في تقديم رؤى انسانية ترى المجتمع بعينين يقظتين مفتوحتين على ما يدور، فتنجح في كتابة قصص سهلة الأسلوب، عميقة المضامين. عبدالله التعزي لعل الكاتب السعودي عبدالله التعزي قد وجد تعبيره المكثّف عن مضامين قصص مجموعته الجديدة في عنوانها، إذ إختار لها "سيد الطيور"، عنواناً ينتظمها، ويعبّر عن المناخات والأجواء الخاصة التي يتمثلها، والتي تنهل - غالباً - من حكايات أبطال إنما يكتسبون "بطولتهم" من الأفعال والتصرفات "الصغيرة" تلك التي تلتصق بالسلوك اليومي فتكشف في كثافتها عن الروح الداخلية لأصحابها، وما يختلج في نفوسهم من إنفعالات، يلتقطها الكاتب ويعيد تظهيرها من جديد في سياقات سردية قصصية تقوم على تلك الأفعال البسيطة، والأهواء "الصغيرة"، وتحتفل بها. عبدالله التعزي في "سيّد الطيور" كاتب يؤسس تجربته على ملاحقة ما في العادي والعابر من جزئيات تضمر حرارة وتشع بأحاسيس إنسانية، قد لا تتوفر في الموضوعات "الكبرى" أو "المهمة"، التي أصبحت - بحكم تداولها - تقليدية، وذات إيقاعات باهتة في نفوس القراء ومحبي فن القصة القصيرة بالذات، فنراه يندفع إلى تجديد مناخه القصصي وأجوائه الحكائية، بما في الحياة اليومية العادية من صور وألوان وأطياف تأخذ تألقها وجدارتها حين تتم قراءتها على شاشة المشاعر الإنسانية، الخاصة والحميمة، أي حين تكون جزءاً من ذاكرة فتمتزج فيها الواقعة الحقيقية، بوقعها الخاص في لحظة الإستعادة التي غالباً ما تكون صورة أخرى ليست مطابقة لتفاصيل الواقعة بحرفيتها، إذ هي صورة يختلط فيها المتخيل بالمستعاد، ويمتزج في تفاصيلها الحدث الحقيقي بما هو رغبة، في تركيبية يلعب الفن ايضاً دوره الخاص فيها، فيمنحها فوق هذا وتلك صورة أخرى جديدة. ففي القصة التي حملت المجموعة عنوانها "سيد الطيور"، يمزج عبدالله التعزي خيوطاً واقعية، بخيوط أخرى فانتازية، أقرب الى الشاعرية، خصوصاً في صياغة أحداث خاتمة القصة، والتي رأينا فيها طيوراً من كل الانواع والألوان تدخل من النافذة وتحيط بقفص طيره المنزلي وتحمله بعيداً وسط أجواء من الغناء: "ولم أدرِ كيف استجابت شفتاي فخرج صغيرها ليمتزج مع أصوات أجنحة الطيور المنسحبة. كنت مضدوهاً وأنا أراها تخرج بنفس الهدوء الذي أتت به، وأرى الطيور التي في الخارج ترفرف بأجنحتها وتخلع أجسامها من على الأرض، كأنها تخلع قناعاً من وجه الأرض: ظللت جالساً مكاني دون أن أتحرك إلى أن اختفى القفص وجميع الطيور داخل الليل". في هذه القصة حكاية العلاقة التي يمكن أن تقوم بين إنسان وطير، يعتقد الإنسان أن حبّه كفيل بأن ينسي الطير علاقته الطبيعية بالفضاء الخارجي وما فيه من حرية. قصة يمكن قراءتها في مستويين مباشر ورمزي، وخلال المستويين نجد العلاقة بين الطير ومالكه تتجاوز المعنى البسيط لتكون تكثيفاً لمعنى الحرية ومضمونها. أسلوب عبدالله التعزي يميل عموماً الى مزج ما هو مجرد ومعنوي بما هو واقعي وملموس، حيث الأشياء والتفاصيل اليومية تجد تعبيرها الجميل عن وجودها في علاقتها بما يمكن ان ترمز اليه أو توحي به، والكاتب في ذلك يحقق معادلته المعبّرة من خلال البساطة العميقة وسهولة الأسلوب، ووضوح المعنى، المستمد أساساً من وضوح البنية القصصية والتي تقوم على سردية يمتزج فيها تشويق السرد بالصورة المتخيلة. فمجموعة عبدالله التعزي "سيد الطيور" تقدم تلاوين من الحياة الاجتماعية كما تتبدى من حدقة شديدة البراءة ترى الأشياء في علاقاتها الأولى، في بداهاتها، وتنتبه الى ما وراء البسيط والعادي من شحنات عاطفية ورؤى انسانية عميقة وذات تأثير كبير على صاحبها. ولعل أبرز ما يلفت في قصص عبدالله التعزي هو حرص الكاتب على الحكاية، فالتعزي الذي يقدم قصة حديثة في شكلها ومضامينها يبني قصته باستمرار على حكاية متينة، تتصف بعنصر التشويق السردي، الذي بدأ يبتعد عن قصص كثير من الكتّاب المحدثين، لصالح الاسلوب مرة، أو اللغة مرة أخرى. هنا نجد كتابة قصصية تذهب نحو الحكاية دون ان تبخس عناصر القص الأخرى حقها من الحضور، والكاتب في ذلك يستفيد إلى حدو بعيدة من منجز القص في الأدب العربي الحديث، كما في الآداب العالمية، ويعيد صياغة ذلك كله في متن حكايا شديدة الصلة بالبيئة المحلية. فإزاء قصص عبدالله التعزي يمكن الحديث عن قصة سعودية حدثية ومتطورة.. قصة تعرف كيف توازن بدقة بين المضامين الإنسانية التي تعالجها، وبين الفنية بما هي إطار جميل، وبما هي ايضاً إمكانية لا بد منها من أجل الوصول الى لحظة لقاء مع القارىء، لا ينتهي مع طي صفحات الكتاب. وفي قراءة "سيد الطيور" نلحظ إنحياز الكاتب الى تقديم مناخات إجتماعية، بذات القدر الذي يقدم فيه حكايات قوية ومشوّهة، فقصص المجموعة كلها، تملك جوّها الخاص، ومناخها الذي يضع القارىء في صورة العلاقات الإنسانية التي تحدث فيها هذه الحكاية أو تلك، فالبطل هنا ليس الانسان الفرد المعزول، ولا حركته الشخصية أو تصرفه فقط، بل البطل هو المحيط الاجتماعي - الإنساني بأسره، ذلك المحيط الذي يُسهم في صياغة الناس، تشكيل وعيهم، وتحديد مفاهيمهم واهتماماتهم، وإثارة حبهم للأشياء والآخرين. "سيد الطيور" للكاتب السعودي عبدالله التعزي محاولة جادة لكتابة قصصية تتجاوز إثارة فضول القارىء، إلى إقامة صلات وطيدة وحميمة معه، من خلال لغة بسيطة، وذات كثافة إيحائية، فيها الكثير من رشاقة ومن شفافية.. لغة تعيد صياغة نفسها على ضوء الموضوعات والمضامين التي تعبّر عنها وتتحدث بلسانها.