في كتابه الذي يحمل عنوان "الفضاء الفارغ"، كتب المسرحي العالمي المعروف بيتر بروك ما يلي: "الامكان الوحيد المتاح أمامنا هو التالي: التأكد من صحة ما يقوله آرتو، مايرخولد، ستانيسلافسكي، غروتوفسكي، بريشت، ومقابلته من ثمة مع الحياة، انطلاقاً من المكان الاستثنائي الذي نعمل فيه". ربما شكّل هذا المقطع الصغير تعبيراً بليغاً عن مدرسة بروك المسرحية حيث تتراجع النظرية أمام مصلحة التطبيق أو حيث تبدو صلاحية النظرية خاضعة دوماً للشك ما لم يتم اختبارها على أرض الواقع ومواجهتها به. لهذا السبب ربما، كان بيتر بروك وعلى رغم تكوينه المسرحي الأصيل والكلاسيكي هو من أكبر المهتمين بشكسبير مثلاً، تواقاً دوماً الى عمل تجريبي يضعه في مواجهة الثقافات الأخرى في شكل عام، ووسائلها التعبيرية الخاصة وطاقتها على التلاقح والتفاعل. هذا ما جعله ربما، ومنذ فترة ليست بالقصيرة، يتعاطى مع عالم المسرح الأفريقي وتحديداً المسرح الجنوبي - الأفريقي متمثلاً ب"مسرح ماركت" السابق على مجيء مانديلا الى السلطة، وهو الذي أصبح أسطورياً بسبب مسيرته الخلاقة والنضالية أثناء سنوات حكم التمييز العنصري المظلمة، إذ كان موجوداً في أحد أحياء جورهانيسبورغ الساخنة، أي تلك التي كان يُنصح بعدم التوجه اليها والتجول فيها ليلاً. لقد كان بيتر بروك من أوائل المهتمين بهذا المسرح عبر اقتباس أو اعادة تقديم الأعمال التي سبق أن عرضت على خشبته - ومن بينها مسرحية "البذلة" التي تعرض حالياً في باريس على خشبة "بوف دو نور"، أو من خلال التعاون مع الممثلين الذين كانوا وراء قيامه واستمراره. مسرحية "البذلة" مقتبسة عن قصة قصيرة للكاتب الجنوبي - الأفريقي المتوفى كان تيمبا. ويقول بيتر بروك في معرض الحديث عنه "كان تيمبا ألمع بل وأصغر صحافي في احدى الجرائد المحلية. لقد أحرق حياته. ليلة بعد أخرى، كان يروي قصصاً. وهو لم يكتب سوى قصص قصيرة في بلد لم يكن يحق فيها لأسود، حتى ولو كان فائق الواقعية، أن يقوم بنشر أعماله. وبالفعل، لقد نفي وعانى من الضجر، وأدرك هشاشة اللحظة في نوع من الحدس بأنه لم يتبق أمامه الكثير من الوقت". وعبر مقطع مأخوذ من نص الكاتب كان تيمبا، تبدأ مسرحية "البذلة" حيث يظهر راوٍ عجوز على الخشبة فيبدأ بوصف المكان الذي ستدور فيه أحداث المسرحية المتمحورة حول قصة الحب التي تجمع بين ماتيلدا وفيلمون، وحول الحدث المأسوي الذي سيأتي على علاقتهما فيفتتها ويفككها ويحولها الى ما يشبه الكابوس، بعد أن كانت حديقة رومانسية جميلة يسودها الصفاء. يقول الراوي العجوز بمظهره الأفريقي الذي يجعله يبدو خارجاً لتوه من الحكاية وبصوته الذي يشبه أصوات العرافين: "كان يا ما كان، في غرب جوهانيسبورغ، بلدة رائعة تدعى صوفياتاون. لم تكن جميلة، لم تكن زهرية، ولم تكن تلتمع بألوف الزهور على شرفاتها. لم يكن زجاج نوافذها يتألق تحت الشمس المشعة، لا، إذ لم يكن لشبابيك صوفياتاون زجاج، بل كانت مسدودة بقطع الكرتون وألواح الصفيح... لكن، ما كان يصنع روعة هذه البلدة هو سكانها، ناسها الذين كانوا يعيشون فيها، وثنيون، مسيحيون، مسلمون، بوذيون، وحتى بيض... وفي صوفياتاون، كان العشاق يتخاصمون ويتصالحون...". هكذا، يباشر الراوي في وصف المكان كأنما كي ينبئنا سلفاً أن هذا الأخير هو البطل وأنه لخصوصيته، يهيمن على الشخصيتين الرئيسيتين، العلاقة بينهما والحدث الدرامي الذي سيقع في حياتهما. فمنه يجيء النعيم ومنه تأتي اللعنة أيضاً، كأنما هو الجنة والجحيم معاً. الديكور خشبة شبه خاوية يتوسطها سرير موضوع في شكل موازٍ للصالة، مغطى بشرشف برتقالي رخيص وغطاء ريفي المظهر. وراءه، يقف مشجب طويل لتعليق بذلة ينتقل على كراجات، سوف يكتسب على مر العرض كثافة درامية تجعله أشبه بشخصية تضطلع شيئاً فشيئاً بالدور الرئيسي. هذا بالإضافة الى كرسيين صغيرين، طاولة وبعض الملابس والقبعات المرمية هنا وهناك. كل ذلك، كي يبقى الفضاء المسرحي فقيراً أي قليلاً وخافتاً ومفتوحاً على كل الاحتمالات حيث تتلاعب الأضواء البيضاء على مزاجها فتحوله الى صندوق فرجة، تقوم بتطويعه كي يرافق الحالة الدرامية في تصاعدها، وتعيد تشكيله كفسحة حضور أو غياب تبعاً لإيقاع الوتيرة النفسية لدى الشخصيات. أما الشخصيات فأربع أو خمس، إذ هناك الزوج فيلمون بكري سانغاري والزوجة ماتيلدا ماريان جان - باتيست والصديق أو الجار ماركو برينس والراوي العجوز سوتيغي كوياتي، بالإضافة الى بذلة! فيلمون وماتيلدا تزوجا بعد قصة غرام طويلة، وهما اليوم يعيشان معاً حباً كبيراً لم تفسده الحياة الزوجية المشتركة ولا ضغوط الهموم اليومية. لكن هكذا، ذات يوم، ستزل قدم ماتيلدا الجميلة فيما هي تستمع الى موسيقى الجاز، فتمارس الحب مع رجل وهي في حال تتهادى بين اليقظة والحلم، كأنما دخلت فجأة في جلد أخرى، في عالم آخر، في لحظة يختلط فيها الواقع بالوهم. غير أن فيلمون سيعود الى المنزل في غير موعده فيفاجئها في السرير مع الرجل الآخر. يهبّ العشيق هارباً من النافذة عارياً، مخلفاً وراءه بذلته الرمادية الغامقة. أمام غيرة فيلمون ووجعه، لا تجد ماتيلدا فراراً من تنفيذ أوامره بعد أن يطلب منها تعليق بذلة العشيق على المشجب وجعلها في مواجهة سريرهما حيث تبقى نصب أعينهما. فها هو يقف متحدثاً اليها فيما هو يربت على كتف البذلة: "لدينا زائر. سوف يأكل معنا ويقاسمنا كل ما نملك. وبما اننا لا نملك غرفة للضيوف، سوف ينام معنا. ينبغي أن تعتني به جيداً، لأنه إذا ما رحل، إذا ما أصابه مكروه يا ماتيلدا، قتلتُكِ...". بالطبع، ليست هي المرة الأولى التي يعالج فيها المسرح مثل هذه الموضوعات، أي الغيرة والخيانة الزوجية... غير أن جمالية النص وخصوصاً معالجته الاخراجية الاستثنائية تبعدان مسرحية "البذلة" عن أجواء الفودفيل أو المسرح الهزلي الخفيف، كي تدخلا الى قاع عوالم انسانية دفينة تتلاطم فيها المشاعر وتهدر الأحاسيس، كما لو كنا أمام ظاهرة طبيعية مرعبة شبيهة بالزلازل والأعاصير. يترافق هذا كله مع نوعية أداء تصل الى مرتبة الكمال إذ تخلق بإيماءة بسيطة أغراضاً وأمكنة وفضاءات، أو تعمد الى إحياء الجماد وإنطاقه عبر حركة بسيطة فيكفي ماتيلدا التي تفتقد الى الحنان مثلاً، أن تعالج ألمها بأن تمرر يدها في كم البذلة مداعبة نفسها كي تؤنسن البذلة وتعيد صاحبها الى الوجود، أو أن يقوم فيلمون بالحركة نفسها كي يمضي أكثر وأبعد في لعبة تعذيب ذاته الهذيانية من خلال استرجاع ذكرى ذلك الرجل العاري الذي سيقيم أبداً بينهما. مع مرور الوقت، وبدلاً من أن تتناقص لعبة التعذيب هذه أو تخف، ستزداد وطأتها على الزوجين ضراوة وشراسة لكي تصل بهما الى الجنون أو الموت. ماتيلدا المنكسرة الروح والمهشمة القلب على عتبة الموت، وفيلمون الضائع المسموم غيرة وألماً لا يجد بداً من الاستنجاد بالراوي العجوز الذي اختلق القصة كلها، فيظهر هذا الأخير متعجباً ومتسائلاً: "من ناداني، من صرخ بإسمي؟"... هكذا تنتهي مسرحية "البذلة" على سؤال يعيد الواقع الى الحكاية كي يخلصه من هلاكه المحتوم. وهكذا يشق الساحر بروك أمامنا تلك الصدفة العصية كي نستمتع ببريق لؤلؤها البهي للحظات، قبل أن يعيدها الى سباتها في عمق البحر أو في قاع الخيال.