يندرج العرض المسرحي الساخر "كاريكاتور"، لرافي وهبة، نصاً واخراجاً، على خشبة المسرح المفتوح في معرض دمشق الدولي، ضمن الفاعليات الفنية المتميّزة للمعرض هذا العام. اللافت في العرض استخدام المخرج تقنيات سينمائية وإذاعية، تندمج في تقطيعات متناوبة مع بنية الفضاء المسرحي، فيستغل الشاشة السينمائية لتصدير الحدث، تمهيداً لدخول الشخصيات الخشبة. فبعد أن يلقي بعض الأضواء على خط الشخصية سينمائياً، تدخل الشخصية الفضاء المسرحي لتستكمل ما شاهدناه، في بثّ المزيد من الإشارات الدلالية. وهكذا يتوالى دخول الشخصيات وتتطور الأحداث وتتشابك الخطوط أفقياً وعمودياً، وصولاً إلى الذروة التي تتضح فيها مقولة العرض. يستهل المخرج عرضه، بلقطةٍ سينمائية لحارس حديقة عامة عجوز أندريه سكاف، ينتبه بعد غفوةٍ إلى انتهاء الوقت المخصّص لروّاد الحديقة، فيقوم بحركات استيهامية عدة، لإخراج روّاد الحديقة غير الموجودين أصلاً، وإغلاق بوّابتها... ثم يدخل الفضاء المسرحي، ليبدأ ليل الحديقة، الذي يشهد توافد شخصيات متنوّعة، تمثّل كل منها عيّنة، أو شريحة ما من قاع المجتمع عامل تنظيفات، عاشق فاشل، بائع يانصيب، بنات هوى، شبّيحة، معتقل سياسي رعديد، شاب أردني يبحث عن هاتف للاتصال بخطيبته إلخ... وباستخدام المبالغة الكاريكاتورية الساخرة، من خلال بث الإشارات الدلالية الحركية، والصوتية في الحوار والسلوك. ومن خلال اللعب على مفارقات اللغة، تنشأ صلات بين هذه الشخصيات، قائمة على النوازغ والرغبات المتناقضة، وسوء الفهم المتبادل في ما بينها، لتتكشف على المستوى الأعمق الشروخ والكسور الداخلية، ويكون حارس الحديقة العجوز، بأعوامه الثمانين، بمثابة الشاهد - الحكيم على هذه الأحداث، وجسر التواصل بين هذه الشخصيات الهامشية، المترنّحة في وحل عطالتها. على صعيد السينوغرافيا، استغل المخرج إحدى زوايا الخشبة، لتكون منصة علوية، كمكان للفرقة الموسيقية التي تعزف وتغني في شكلٍ حيّ، لبث علامات صوتية إضافية تغني الدلالات المشهدية. وقد اختار المخرج أغنيات تتناسب مع التطور الدرامي للحدث "ليش قاعد لحالك"، "وين ع رام الله"، غناء ليندا الأحمد، وألحان إياد ريماوي، فيما ترك الجانب الآخر من الخشبة، بيتاً لحارس الحديقة وحفيدته، وثبّت في أحد أطراف مقدمة الخشبة "كشك هاتف"، غرضاً عَمِلَ على توظيفه في ما بعد في نسيج العرض، واستغل باقي الفضاء مقاعد للحديقة. الملاحظة الأساسية على هذا العرض، على رغم حيوية الحوار، والالتقاطات الذكية، الساخرة، والدّالة الى بعض المظاهر السلبية في حياتنا"، ربما لها علاقة باختلافنا مع المنهجية التي اعتمدها مؤلف النص ومخرجه في فهمه مسألة الكوميديا، والمبالغة الكاريكاتورية. فنحن نرى أن الشخصية الكاريكاتورية، من المفترض أن تقوم بسلوك مزدوج ومتناقض في الأماكن التي تتطلّب انسجاماً مع فضائها الاجتماعي والمعماري. لكي تتصدّر هذا الفضاء. ولتوضيح الفكرة لنأخذ شخصية شارلي شابلن في فيلم "أضواء المدينة"، ففي وقت يجب أن تسلك هذه الشخصية، سلوك الرجل العصري في المطعم الراقي، تبرز عنده شخصية الصعلوك، الذي يتصرّف كمتشرد، لا يحترم آداب الطعام. ونرى شخصية الرجل العصري عند شابلن تظهر في وقت يجب أن يتصرف فيه كصعلوك، كما في فيلم "فورة الذهب"، حيث مشهد وجبة الغداء في الجبال القاحلة المغطاة بالثلوج، فنرى شابلن يأكل ربطات الحذاء بالشوكة، ويمص المسامير كأنها عظام دجاجة. هذا السلوك المتناقض والمزدوج يجعل شخصية شابلن تتصدر المشهد. وما يثير الاهتمام في عرض "كاريكاتور" أن شخصية حارس الحديقة العجوز، بذقنه الشائبة، وحركاته الطريفة، مؤهلة كصورة لتصدّر هذا العرض، لكن هذا كان يستدعي بناء هذه الشخصية على التناقض والمفارقة بين شكلها الخارجي وسلوكها، لا على التطابق بين مظهر الشخصية الخارجي وسلوكها ولباسها. كنا في هذا العرض أمام حارس حديقة واقعي، بلباسه ومظهره الخارجي وسلوكه، والأمر نفسه ينسحب بحدود متفاوتة على عامل التنظيفات والعاشق وبائع اليانصيب... واقتصر "الكاريكاتور"، في هذا المعنى، على المبالغات في السلوك والحركات، ومفارقات الحوار واللعب على تناقض الكلام... ولكن لتنخيّل مثلاً، لو أن العاشق كان بلباس عامل التنظيفات ويحمل باقة ورد في انتظار حبيبته، أو العكس، لو أن عامل التنظيفات يلبس بزة "سموكن"، ويتصرّف بطريقة لا تنسجم مع الفضاء الاجتماعي والطبقي لحاله. مثل هذا البناء، كان ليولّد قدرة أكبر على ضخ العلامات في الفضاء المسرحي فضاء الحديقة، الذي يتضمن خصائص اجتماعية ونفسية وأخلاقية إلخ... تعتمد قوة الأعراف الدلالية المعمول بها، الأمر الذي سيولّد تواصلاً مدهشاً وربما مبهراً مع الجمهور، الذي ينتظر عادةً "تجاوز المألوف" تماماً كما حصل مع حركة "الدبكة" التي جاءت مع الموسيقى في مشهد لا يستدعي مثل هذه الحركة، ما احدث نوعاً من المفارقة المفاجئة التي نزعت المألوف، وأضافت علامات ديناميكية ساخرة غير متوقعة. الحال نفسها ظهرت مع استخدام "حاوية" عامل التنظيفات بيتاً له، إذ استغلّ المخرج هذا الغرض، علامةً مسرحية مصطنعة، والشيء نفسه تكرّر مع مكنسة التنظيف التي تحولت غيتاراً أحياناً، ووسيلة قتال رمح أحياناً أخرى. شخصية الشاب الأردني على رغم الإمكانات الحركية والصوتية لمؤديها لم تتطور، أو تتبدّل، لأن فضاء المشهد كان محدوداً وثابتاً تقريباً. كذلك بقيت شخصية حفيده حارس الحديقة، هامشية، على عكس ما كانت تشي به في بداية العرض. يبقى العرض، وهو باكورة أعمال تجمّع "أوركيد" الفني للمسرح الخاص، الجّاد في سورية، علامة إيجابية على بداية إعادة إنهاض المشهد المسرحي الذي طال ركوده.