مَن يقرأ نصّ الكاتب الأميركي ادوارد ألبي "ثلاث نسوة طويلات" ويشاهد العرض المسرحيّ الذي أخرجته نضال الأشقر تحت عنوان "ثلاث نسوان طوال" يدرك فعلاً أنّ الإخراج الحقيقي ليس إلا كتابة ثانية للنصّ ولكن بصرياً أو مشهدياً. فالمخرجة لم "تخن" النصّ الأصلي أو المكتوب إلا لتحرّره من أسر القراءة الواحدة والجاهزة التي سعى ادوار ألبي نفسه الى فرضها عبر الإشارات الإخراجية التي أرفقها بنصه الدرامي. ولم تكن قراءة الأشقر للنصّ سوى فعل خلق إذ أضفت عليه أبعاداً أخرى وجماليات هي من نسج مخيّلتها ووعيها المسرحيّ في الحين عينه. ولئن أصرّ الكاتب على وجود الغرفة ذات الطابع الفرنسي والسرير والمرأة - الدمية حفاظاً منه على العلاقة بين الواقع والوهم فأنّ نضال الأشقر تخطّت حدود الغرفة الضيقة والتقليدية جاعلة من جدارها الثالث فضاء أزرق يجمع بين السماء والبحر. وقد علت ذلك الجدار المتوهّم لوحة فارغة استحالت الى شاشة تنعكس عليها الأضواء المتبدّلة باستمرار. وبدا الجدار واللوحة كأنّهما خارجان للتوّ من عالم سلفادور دالي أو ماغريت. وكم نجحت الإضاءة الباهرة في خلق جوّ حلميّ أو نفسيّ يلائم لعبة المرايا التي تلعبها ببراعة الممثلات القديرات الثلاث رندا الأسمر، كارمن لبّس، رلى حمادة، أو تلك اللعبة التي تقع في حبائلها المرأة الواحدة المنفصمة الى نسوةٍ ثلاث. ولم تكتفِ نضال الأشقر بما أضافت من أبعاد سينوغرافية كانت وحدها كافية لتغيير معالم المكان البحر - السماء، الكرسي - السرير، الخزانة - الزاوية والأزياء القديمة، بل عمدت أيضاً الى قلب بعض فواصل النص موحية منذ اللحظات الأولى بما سوف يحصل على الخشبة من "لعب" مأسوي وأليم. فهي على عكس ألبي فضحت اللعبة في المشهد الأوّل حين جعلت الممثلات الثلاث عجائز عبر الأقنعة التي لم تكن إلا وجوههنّ نفسها. لكنهنّ سرعان ما خلعن تلك الأقنعة من خلال أدائهنّ الجميل لتتلبّس كلّ واحدة منهنّ شخصيّتها المفترضة. والافتراض هنا سوف يعني كسر منطق الشخصية ومنطق بنائها إذ أنّ الممثلات الثلاث لن يتوانين عن تبادل الشخصيات والأعمار التي تحدّدها مبدئياً عبر ما يشبه الدوّامة التي نمّت بوضوح عن ايقاع موسيقي خفيّ قريب كلّ القرب من موسيقى الجاز. فالممثلات يتبادلن الجمل والحوار على طريقة عازفي الجاز وعلى كلّ واحدة منهن أن تصوغ حوارها بحسب الحالة التي تحياها والمرحلة التي تجتازها. وقد صاغت المخرجة لعبة التبادل هذه بمتانة مانحة الممثلات فرصاً ذهبية كي يبرزن ويتجلّين. غير أنّ نضال الأشقر لم تقصد فضح اللعبة حين جعلت النسوة الثلاث يبدين عجائز في اللحظات الأولى. بل هي شاءت أن تبدأ المسرحية من الفصل الثاني أي بعد موت المرأة العجوز بغية أن تؤكّد جدلية اللعبة الحقيقية والمتوهّمة. وإذا جعل ألبي نصّه من فصلين فأنما لينفي الفصلُ الأول الفصلَ الثاني ويؤكّده في وقت واحد. فالثاني - كما في النص - يبدأ من حيث انتهى الأول لينتهي حيث تُفترض بداية الأوّل. على أن الفصلين لا يكرّر واحدهما الآخر حتّى وان استعادت الشخصيات بعض الحوارات في طريقة أخرى. أمّا نضال الأشقر فوصلت الفصلين بعضهما ببعض كي لا ينقطع الإيقاع الموسيقي المتهادي والمتوتر داخلياً الذي بنت عرضها المسرحي وفق تناميه. وبدا ايقاعاً جارفاً عبر التواطؤ بين الممثلات الثلاث أو النسوة الثلاث وهن لسن إلا امرأة واحدة تنظر الى نفسها في مرآة نفسها فترى نفسها صبية 23 سنة أو امرأة 50 سنة أو عجوزاً 92 سنة. انها لعبة مرايا بل لعبة مرآة تنكسر الى مرايا ثلاث. والمرايا هذه ان التحمت عكست صورة تلك المرأة الميتة التي تطلّ في صورة دمية راقدة في السرير وان انفصل بعضها عن بعض عكست تلك الصور الثلاث لإمرأة تنفصم بين ماضٍ بعيد وماضٍ قريب وحاضر سلبيّ تماماً. لعبة مرايا زجّ ألبي فيها الشخصيات الثلاث بل زجّتهن فيها نضال الأشقر نفسها جاعلة تلك اللعبة لعبة متاهية بامتياز: لا وراء هنا ولا أمام بل هاوية شاسعة هي هاوية الزمن والذكريات. ومثلما فعل ألبي في عدم تسمية النسوة الثلاث أو في تسميتهن تسميةً مغفلة أي أ وب وث جعلت نضال الأشقر النسوة الثلاث من دون أسماء. انهن ثلاث فقط: الصغرى، الوسطى، والكبرى أو العكس. وإذا تلبّست الصغرى رلى حماده شخصية الموظفة التي عليها أن تشرف على أموال المرأة العجوز فأنّ الوسطى كارمن لبّس بدت أقرب الى الممرضة التي تسهر على صحّة المرأة التسعينية. غير أنّ العلاقات بين الثلاث سرعان ما استحالت الى علاقات كراهية وحقد. وعبر هذه العلاقات المتوترة راحت المخرجة تمهّد السبيل أمام الصراع المأسوي الذي سوف تعيشه الشخصيات مع ذاتها، مع الماضي والذاكرة، مع الواقع والعالم، مع جسدها ولا وعيها. فالتوتر بين الشخصيات هو التوتر الذي تحياه المرأة العجوز مع نفسها، حين تنظر الى نفسها وتكتشف شيخوختها أو حين تدرك أن جسدها خانها وكذلك الحلم والرغبة. وكم أصابت المخرجة حين جعلت الجسد أداة أولى، أداة وغاية معاً كاسرةً أدبية النصّ ووطأته الفلسفية عبر تفجير الطاقات الكامنة في لا وعي الشخصيات بل في أجساد الممثلات الثلاث. ولم يكن مفاجئاً أن ينطلق الأداء من ايقاع الجسد وحركته ومن رمزيّته وغريزيته. فالجسد هنا هو البداية والنهاية، هو ربيع العمر وخريفه، هو الجمال والقباحة، الشبق والموت. جسد المرأة العجوز، هو نفسه جسد المرأة الخمسينية وكذلك جسد الفتاة العشرينية: إنّه الجسد في فصوله المتعاقبة ومراحله المتوالية التي لا بدّ أن تنتهي في الموت، في صورة الجسد البارد والميت. ولكن قبل أن تستحيل العجوز جسداً ميتاً راحت تستعيد ماضيها عبر نار المطفأة التي حاولت أن تشعلها مفجّرة غريزتها، متوهّمة أنّ الشبق الداخلي ما زال مستعراً. ولم تنفكّ عن استعادة بعض الأحداث الجنسية والأحوال الشهوية والمشاهد الأيروتيكية ساعية الى بعث الحياة في رميم جسدها. هنا في هذه اللحظات، بدت رندا الأسمر في ذروة تألّقها: خلف قناع العجوز أفلتت العنان لجسدها وغريزته كي يقاوما الشيخوخة التي انحدرت اليها. وغدا أداؤها غاية في الاتقان والألق: براعة تخفي وراءها الكثير من الصدق ومهارة لا تخلو من الانصهار الداخلي أو النفسيّ. ولم يكن قناع الشيخوخة إلا ذريعة لتفجير الغرائز الكامنة في عمق الذات، في "الليبيدو" كما يقول علماء النفس. ولكن ما ان تهدأ عاصفة الشبق الجنسي حتى تستعيد رندا الأسمر معاناة الشخصية التي تؤدّيها: هكذا تنتقل من أقصى الهجس الجنسي الى أقصى الانسحاق والعجز، من أقصى الكراهية والحقد الى أقصى الرقة والشفافية. عمدت نضال الأشقر إذن قصداً في اللحظات الأولى من عرضها الى الإيحاء في أنّ النسوة الثلاث سوف يتحوّلن الى امرأة واحدة هي المرأة العجوز، وما أن تموت العجوز في ختام الجزء الأوّل حتى تنهض هي نفسها لتستعيد ماضيها البعيد والقريب عبر صورتي الفتاة ث والسيّدة ب. وكانت المخرجة ركّْزت مثلما فعل ألبي على الشجار الذي دار حول تحديد عمر السيدة العجوز. وعلى طريقة شخصيات يوجين يونسكو تدخل العجوز والفتاة في ما يشبه النقاش العبثي: العجوز تصرّ على أن عمرها 91 عاماً فيما تؤكد الفتاة أن عمرها 92. انها سنة واحدة تتشبث بها العجوز وتسعى الفتاة الى نزعها منها. والعبثية لن تقتصر على الشك في مفهوم الزمن العمر بل ستأخذ طابعاً يومياً وأليفاً. فالعجوز لا تكفّ عن سؤالها التقليدي: في أي نهار نحن؟ ولا تسأل عن النهار إلا لتتساءل ان كان ابنها سيأتي لزيارتها. وابنها الذي هجرها قبل سنوات طويلة كما يظهر لاحقاً لا يملك اسماً بدوره: انه "هو" باختصار. وعلى رغم أهمية الشخصيتين الفتاة والمرأة فإن العجوز تظل هي المحور ولا سيّما في الجزء الأول. فهي التي تتذكر ولم يبق لها الآن وهي شبه مقعدة سوى الذكريات. لكن ذاكرتها باتت غير طبيعية وقد اختلطت عليها الأمور والتواريخ والأسماء. وكان لا بدّ للعجوز أن تقطع خيط ذكرياتها المبعثرة من حين لآخر لتسأل نفسها أو مرافقتيها: "ماذا كنت أقول؟". ربما هو جسدها الذي يتذكّر أكثر من ذاكرتها. أو هو لا وعيها ينبثق من تلقائه في طريقة آلية. ولذلك سوف تبدو كأنها صاحية تماماً حين تتكلّم عن ماضيها الجنسي وكذلك عن مغامراتها العاطفية الأولى وعن زوجها والخيول والمزرعة. كما سيصحو فيها حقدها القديم وكراهيتها القديمة فتنتقم لنفسها ولماضيها من أمها وأختها. ويدفعها حقدها الى الشك في من يحيط بها. فالجميع يسرقها كما تعبّر أكثر من مرّة. أما أصدقاؤها الفعليون فماتوا والذين لم يموتوا هم في طريقهم الى الموت. ولن توفّر في حقدها ابنها الذي تؤكد أنه لا يحبها فيما تحار هي ان كانت تحبه. لكنها تذكر أنه شاذ ومنحرف. لكن الابن الذي هجر أمّه قبل سنوات سوف يطل في الجزء الثاني حاملاً باقة زهر وسوف يمكث صامتاً أمام سرير أمه الميتة، لكنه سينهض مرّة واحدة ليؤدّي دور السائس في لقطة شبه إباحية. هكذا تحضر الشخصيات الثلاث إذن ولكن في سياق مختلف وفي إطار واقعي وحلمي في الآن ذاته. والجميل أن بعض الحوارات يتكرّر في الجزء الثاني ولكن عبر الثلاث ليأخذ بعداً آخر زمنياً ودرامياً. فالنسوة الثلاث يتبادلن اللعبة كما لو أنهن متواطئات فيها. الآنسة تنظر الى نفسها بل الى مستقبلها عبر مرآة السيدة الخمسينية والى صورتها الآتية عبر مرآة العجوز. أما العجوز فتسترجع ماضيها مبعثراً بين الفتاة والسيدة الخمسينية. ولن تتوانى الصغرى عن معارضة صورتها التي ستؤول اليها عبر السيدة أولى والعجوز ثانياً، وكذلك ستتذمّر بدورها مما ستصير اليه في صورة امرأة عجوز ووحيدة وشبه منسية. ولعلّ الأطرف هو نظرة الاحتقار والاشمئزاز التي تلقيها العجوز الى العجوز الممدّدة في السرير رافضة أن تموت تلك الميتة. وسوف تعترف لاحقاً مخاطبة ابنها الصامت أنها ماتت قبل ساعة من وصوله. لم تفصل نضال الأشقر بين الفصلين الأول والثاني اللذين يختلفان ظاهراً في النص. بل هي جمعتهما عبر التقاء الشخصيات نفسها حول ماضٍ واحد كانت العجوز أكدت "ماضويّته" فيما تحوّل لاحقاً الى زمن ملتبس بين الماضي والحاضر والمستقبل تبعاً لانفصال الشخصيات وانفصامها عن بعضها. وما تذكّرته العجوز هناك ترويه هنا المرأة الوسطى حيناً والصغرى حيناً آخر. ويأخذ الهاجس الجنسيّ حجمه هنا أيضاً وكذلك الكراهية والحقد... انها الحالات نفسها يترجّع صداها ويتدرّج. لكن الحسرة أضحت حسرات ثلاثاً. فالعجوز تندب ماضيها الذي ولّى وتخاف نهايتها. والوسطى تعترف أنها عاشت نصف حياتها فيما النصف الآخر أمامها أي في صورة العجوز. أما الصغرى فستندب مستقبلها الذي تراه أمامها معتبرة أن السعادة انتهت في السادسة والعشرين. وستصرخ في ملء صوتها مشيرة الى العجوز: "لا، لا، لن أصبح ما أنت عليه، لا أريد". ولن تتمالك العجوز في نكرانها ونكران المرأة الخمسينية وهي كانتهما كلتيهما في ماضيها القريب والبعيد. وان برعت رندا الأسمر في شخصية العجوز التي تخلع قناعها الطبيعي في بعض الأحيان مستعيدة شبابها فأنّ كارمن لبّس ورلى حماده لم تقلا عنها براعة أيضاً. كارمن في شخصية المرأة الخمسينية المنفعلة داخلياً والمتوترة بصمت والتي تنفجر من حين الى آخر برهبة وشفافية. ورلى في شخصية الفتاة البريئة التي تدرك معنى الحبّ ممزوجاً باللذة الخفرة، وبدت كأنها تؤدّي شخصيتها وفق حالات مختلفة، متوترة ومتهادية، تقمع نفسها حيناً وتنفجر حيناً. أمّا اللافت والمثير فهو تبادل اللعبة الأدائية من أسبوع الى آخر: فالممثلات الثلاث يؤدّين الشخصيات الثلاث تباعاً ممّا يمنح العرض المزيد من التجدّد والغنى ويتيح أمام الجمهور فرصة اكتشاف الممثلات الثلاث في شخصيات مختلفة. اقتبست نضال الأشقر نص ادوارد ألبي الجميل والرائع من دون أن تتخطاه ولكن من دون أن تلتزم به التزاماً تاماً. ولعلّ عدم أخذها بما سجّل ألبي من ملاحظات اخراجية دفعها الى خلق عالم غير متوقع: سينوغرافيا متقشفة نهى راضي ذات طابع حلمي رسّخته الإضاءة البديعة التي صممتها منى كنيعو مستخدمة ما يشبه المروحة اللونية التي تنتهي في قوس قزح يلف السماء والبحر أي الجدار الثالث المفتوح على الأفق البعيد. أما النافذة التي بدت أقرب الى الشاشة فمثلت حال التوق الى الحرية، الى الفضاء المشرع، الى الزمن اللامحدود. وعلى صفحة هذه النافذة - الشاشة انعكست الأضواء والألوان غامرة الجدار والفضاء المسرحي ككلّ مرافقة حالات الشخصيات والتحوّلات الداخلية التي تعيشها. وبرزت خلال العرض لوحة رائعة في بعدها السينوغرافي والدرامي وهي لوحة الملهى الليلي حيث تلتقي النسوة الثلاث في لحظة من لحظات الماضي. وان أعاد نصّ "ثلاث نسوة طويلات" أدوارد ألبي الى معترك المسرح العالمي بعد مرحلة من الانكفاء والصمت وأتاح له الفوز مرّة ثالثة بجائزة بوليترز الشهيرة في العام 1994 بعد فوزه بها عامي 1966 و1974 فأنّ عرض "ثلاث نسوان طوال" لا يعيد نضال الأشقر الى المعترك المسرحي اللبناني والعربي بل يكرّسها كمخرجة طليعية رائدة خاضت عالم المسرح انطلاقاً من خلفية أكاديمية ووعي ايديولوجي وجمالي وخبرة عميقة ومراس راسخ في حقل الإخراج والتمثيل والكتابة الجماعية. ويعيد عرض "ثلاث نسوان طوال" الى الخشبة أيضاً ثلاث ممثلات من طراز نادر وخامة متينة: رندا الأسمر، كارمن لبّس ورلى حمادة. وختاماً لا بد من التنويه بما قامت به رندا الأسمر من "لبننة" للنص غدت وفية له خير وفاء. * مسرح المدينة - بيروت.