ماذا لو كنت أحد محُبي المسرح، تُحركك الرغبة دائماً لحضور العروض المسرحية المختلفة؟ وماذا لو اصطحبت في أحد هذه العروض صديقاً قريباً منك لا يستهويه الجو المسرحي، لكنه كان مجبراً على المشاهدة فقط بحكم الصداقة؟ وإذا جلس بجواركما أستاذ جامعي، وبجواره ضابط شرطة، وفي الصف الخلفي أسرة مكونة من ثلاثة أبناء والأب والأم، وبجوارهم رجل عجوز مجهول الهوية، ثم أن هناك بعض العمال جاؤوا بعد انتهاء ورديتهم ليشاهدوا العرض؟ على الجانب الآخر؛ ماذا لو كنت أحد المشاركين في العرض المسرحي، ممثلاً؛ ممثلة، في الإضاءة، في الديكور، في الملابس، وربما تكون المخرج، أو المؤلف، وقد تكون مَن قام بإعداد «الدراماتورج»؟ وسط ذلك (التجمع)، تتعدد أصناف البشر وتختلف طبقاتهم الاجتماعية والفكرية، لكنهم علي أي حال – فوق الخشبة، أو في الصفوف، أو وراء الستار- ما هم إلا (جمهور) يرى كل منهم الآخر من موقع مُغاير وبردود أفعال مختلفة بالطبع. في هذا الصدد، قامت الباحثة الإنكليزية هيلين فريشواتر، وهي متخصصة في المسرح البريطاني، بتأليف كتاب «الجمهور والمسرح»، وترجمته أريج إبراهيم، ليصدره المركز القومي المصري للترجمة. رحلة؛ تقوم بها الباحثة حول سؤال حيوي: ماذا يفعل المسرح لأولئك وكيف يؤثر فيهم؟ لويس ويفر؛ هي أستاذة في ممارسة الأداء المعاصر في جامعة «كوين ماري» في لندن، كما أنها كاتبة ومخرجة وفنانة أداء. اصطحبت في نهار أحد الأيام إحدى زميلاتها لحضور عرض عنوانه «النشوة السرية». ولكن تلك الصديقة كانت لا تحب مشاهدة المسرحيات، وهناك؛ وهي بجوار صديقتها والمحيطين تذكرت كتاب «المسرح والجمهور» الذي قدمت في ما بعد لنسخته العربية تحت عنوان «نشوة في طي الكتمان»، فقالت: «هذا الكتاب هو عنَّا، هو يوثق حضورنا، ويوضح موقفنا، ويطرح الأسئلة حول تجربتنا بوصفنا متفرجين عارضين، أو شهوداً صامتين، أو مشاهدين متشاركين، أو مشاركين مستعدين، في هذا النشاط المجيد، المسمى بالجمهور، ولتحكموا بأنفسكم». يقول المخرج الإنكليزي بيتر بروك في كتابه «الفضاء الفارغ»؛ إن وجود شخص يسير عبر هذا الفضاء الفارغ، بينما يراقبه شخص آخر؛ هو كل ما يحتاجه القيام بحدث مسرحي. بينما يُعرف جيرزي غروتوفسكي؛ مؤسس «المعمل المسرحي»؛ المسرح بأنه: «كل ما يحدث بين المُشاهد والممثل»، وذلك في كتابه «نحو مسرح فقير». في حين أكدت آراء عدة أن: «العلاقة مع الجمهور تمنح معنى للحدث المسرحي. لا غنى عن هذه العلاقة»، لاسيما؛ وأن تلك الآراء بالإضافة إلى تجارب كثيرة من المسرحيين تمت خلال القرن العشرين، «أظهرت أن المسرح لا يعتمد على موقعه في مبنى معين أو مؤسسة، وأنه من الممكن التخلص من الحبكة، والشخصيات، والأزياء، والديكور، والصوت، والنص؛ ولا يمكن الاستغناء عن العلاقة السابقة المتبادلة، جوهر العمل المسرحي، في محاولة مستمرة لإعادة تشكيل العلاقة بين المسرح والجمهور، التي كانت الشغل الشاغل لممارسات المسرح التجريبي خلال القرن العشرين». وتلاحظ فريشواتر أن النظر في الخطاب المتعلق بجماهير المسرح يمكن أيضاً أن يساعدنا على فهم الآمال، والتطلعات، والإحباطات التي تحيط بالأشكال الثقافية الأخرى التي تضعنا جزءاً مِن مجموع. وتضيف أن شعورنا تجاه العلاقة المناسبة، أو المثالية بين المسرح وجماهيره يمكن أن يُلقي الضوء على آمالنا في نماذج أخرى من التفاعل الاجتماعي، وأن يوضح توقعاتنا مِن المجتمع، والديموقراطية، والمواطنة، وتصورنا لطبيعة أدوارنا وسُلطتنا أو عدمها ضمن النطاق العام الأوسع. تُحاول الباحثة مناقشة مفاهيم عدة متنوعة، تصب كلها في النهاية داخل إشكاليات الفعل المسرحي، بين إمكان استخدام فعل ارتياد المسرح كمقياس على مستويات مختلفة للثقافة عموماً، وبين ما إذا كانت مشاركة الجمهور قد تصل به إلى التمكين السياسي... «فلماذا، عندما يكون هناك الكثير يشير إلى أن ردود الفعل من جمهور المسرح نادراً ما تكون موحدة أو ثابتة، فإن باحثي المسرح يبدو أنهم أكثر راحة بإصدار تأكيدات قوية حول تأثير المسرح الفريد من نوعه وأثره على الجمهور، أكثر من اهتمامهم بجمع وتقييم الأدلة التي قد تدعم هذه المزاعم؟». لهذا، فهناك الكثير من الصعوبات التي تواجه هذه العلاقة؛ وأهمها؛ «الخلط بين الاستجابة الفردية والجماعية»، وتحدث بعضهم عن حالة التوتر التي قد تتولد بين المشاهد والمؤدي، لكنهم اجتمعوا علي أنهم؛ «عند مشاهدتنا لأفضل مسرح وأداء، نكون معاً ووحيدين. معاً، بمعنى أننا علي بينة مِن الروابط الموقتة والمتحولة التي تربط بيننا وبين خشبة المسرح وبين زملائنا من المراقبين على حد سواء، موصولين بالمجموعة المحيطة بنا وبالتالي أمامنا، وبالوضع المجتمعي». وسنجد أن التميز في الفعل المسرحي فوق خشبة المسرح هو تميز فردي بالأساس؛ حيث الجميع يتحرك تحت قيادة مخرج واحد ويقومون بتأدية نص محدد، لكنهم في النهاية يختلفون في الأداء وبالتالي ستتولد طبقات التميز المتعددة بينهم، في ما إذا أدى كل واحد دوره كما ينبغي أو لا؛ ومن هنا وجبت فكرة الجوائز، التي يجنيها فرد عن الآخر، كل بما عمل. الأمر نفسه سينطبق لا محالة على فعل الجمهور؛ بين متفاعل، ومعارض، وبين من لا يفهم شيئاً، أو لا يعنيه الأمر برمته. فالتشكيلة الفكرية والمجتمعاتية للجمهور متشعبة، لا يمكن حصرها في قالب واحد، وبالتالي لن يوجد رد فعل جمعي يمكن أن يصدر عن مجموعة من المشاهدين. إذاً؛ الأصل هو الاختلاف... «إن الجماهير تقتحم الحواجز بالفعل»؛ و «إن الابتعاد عن أوهام تحويل الكلمة إلى جسد، وتفعيل المُشاهد، ومعرفة أن الكلمات هي مجرد كلمات والمشاهد مجرد مشاهد، قد يساعدنا على فهم أفضل لكيفية أن الكلمات والقصص والعروض يمكن أن تساعدنا على تغيير شيء في العالم الذي نعيش فيه».