Nicole Bernheim. Ou Vont Les Americains? الى أين يذهب الاميركيون؟. La Decouverte, Paris. 2000. 128 Pages. كان ينبغي ان يكون عنوان هذا الكتاب، كيما يأتي مطابقاً: "الى أين يذهب الاميركيون بعد كلينتون؟". فهذا الكتاب هو، في المقام الأول، تقييم لتجربة بيل كلينتون في الحكم على مدى ثماني سنوات متتابعة، منذ وصوله الى البيت الأبيض في كانون الثاني يناير 1993. تقييم هو في الاجمال ايجابي، ولكنه في الوقت نفسه نقدي. ذلك ان بيل كلينتون، بعد جون كينيدي، هو ثاني رئيس اميركي يحال بينه وبين تطبيق برنامجه الذي على أساسه نال لمرتين على التوالي غالبية أصوات الناخبين الاميركيين: فكينيدي جرى اغتياله فعلياً، اما كلينتون فتم اغتياله سياسياً. ماذا كان برنامج كلينتون البديء الذي صدم القوى المحافظة واليمينية، بل حتى "الرجعية"، في اميركا لتعبئ نفسها ضده في حملة معادية تجلببت بكل ضراوة "الاغتيال السياسي"؟ انه لم يكن برنامج اشتراكياً ولا يسارياً، بل كان محض برنامج اجتماعي في بلد درجت به التقاليد على اعتبار "الاجتماعي" مرادفاً ل"الشيوعي". فكلينتون لم يسع قط الى اكثر من وضع اميركا على سكة "رأسمالية ذات وجه انساني"، ولم يتعدّ برنامجه قط ما هو مطبق في أي بلد أوروبي من بلدان "الرأسمالية اللامتوحشة"، اي بكل بساطة "التغطية الطبية - الاجتماعية" المعممة. فالأميركيون قد عاشوا اجيالا متشبثين بفكرة ان الصحة، كأي مظهر آخر من مظاهر الحياة والنشاط الاقتصادي، مسألة ترتهن بالقرار الشخصي للفرد ولا تعود مسؤوليتها الى أية جهة سواه. فليس في الولاياتالمتحدة، على الصعيد الفيديرالي، وزارة للصحة أو للضمان الاجتماعي. وباستثناء الاكتتاب في شركات التأمين الخاصة، فالفرد لا تتوافر له أية حماية ضد البطالة أو المرض أو الموت المفاجئ لرب الأسرة المعيل. ومن هنا فإن مشروع كلينتون، الذي يقال ان زوجته هيلاري كانت وراءه، لتعميم التغطية الطبية - الاجتماعية على أربعين مليون مواطن اميركي بدا وكأنه يشكل "ثورة حقيقية" استحق معها كلينتون في وسائل الاعلام التابعة لشركات التأمين ومخابر الأدوية والمستشفيات الخاصة ونقابات الاطباء لقب "الأحمر" و"الشيوعي المتنكر". وعلاوة على ذلك فإن لوبيات وشركات صناعة وتجارة الأسلحة النارية شاركت على قدم وساق في حملة تصفيته السياسية. فقد شاء منذ مطلع ولايته الأولى ان يضع حداً ل"المقتلة" المدنية في اميركا: فمن جراء إباحة بيع الأسلحة النارية وانتشار ما لا يقل عن مئتي مليون مسدس وبندقية في أيدي المدنيين، فإن أربعين ألف اميركي يلقون مصرعهم سنوياً، بمعدل 110 قتلى في اليوم. بالإضافة الى ألف ممن يقتلون بالصدفة من جراء طلقة طائشة من سلاح أساء صاحبه مداورته. لكن مشروع كلينتون لفرض اجازة لحمل السلاح، كما في أي بلد "متحضر" آخر في العالم، لم يصطدم فقط بمقاومة الكونغرس الاميركي، ذي الغالبية الجمهورية، بل كذلك بمقاومة أكبر لوبي للاسلحة النارية في اميركا: "الرابطة القومية للبندقية" التي تضم ثلاثة ملايين عضو يقف على رأسهم اليوم احد أكثر نجوم السينما شعبية: شارلتون هيستون الذي تحيط به هالة الأدوار البطولية التي لعبها: موسى وبنهور والميجور داني. وبديهي انه ما كان لكلينتون ان يتحدى القوة الانتخابية التي يمثلها ملايين أنصار الامتلاك الحر للسلاح. ولهذا اكتفى بأن ينتزع من الكونغرس، بعد جهد جهيد، قانوناً يلزم باعة السلاح الفردي بالتحقق من السجل العدلي للشارين. وإزاء المعارضة الجمهورية في مجلسي النواب والشيوخ اضطر كلينتون لأن يتنازل عن بند آخر من برنامجه الانتخابي الأولي: فقد نسف الجمهوريون مشروعه للميزانية وقلصوا بمبلغ ستة بليونات دولار البند المتعلق بالمشاريع الاجتماعية، كما قلصوا بمقدار 16 في المئة ميزانية التعليم العام، فضلاً عن أنهم ضغطوا بمقدار 12 مليار دولار مبلغ المساعدة الاميركية السنوية للبلدان الاجنبية النامية، وتشددوا في البخل على البلدان الافريقية التي انخفضت حصتها من المساعدة الاميركية بمقدار 40 في المئة، عدا مصر التي ظلت تنال مع اسرائيل حصة الأسد من هذه المساعدة. وعلاوة على الجمهوريين اصطدم البرنامج الاصلاحي لكلينتون بمعارضة اثنين من أقوى لوبيات الولاياتالمتحدة : لوبي الصناعة العسكرية ولوبي صناعة السيارات. فاللوبي الصناعي العسكري لم يغفر قط له اغتنامه فرصة انتهاء الحرب الباردة ليقلص ميزانية وزارة الدفاع والمخابرات المركزية وليوقف الانتاج المكثف للطائرات "الخفية" التي تعمى عنها شاشات الرادار، وليعلق برامج "حرب النجوم" وغيره من البرامج الاستراتيجية التي كان يمكن ان تدر على القطاع الخاص للصناعات الحربية مئات المليارات من الدولارات. كذلك فإن ضغط لوبي صناعة السيارات أدى، في 1995، الى إلغاء الكونغرس للقانون الفيديرالي الذي يحدّ السرعة على الاوتوسترادات بخمسة وخمسين ميلاً في الساعة 90 كلم، مما اعطى دفعة جديدة لصناعة السيارات التي عادت توظف رساميل طائلة في تصميم وتطوير محركات قوية وقادرة على تسجيل أرقام قياسية في السرعة وفي اعداد قتلى الطرق. ورغم نجاح كلينتون في تجديد ولايته الرئاسية بغالبية شعبية مريحة في تشرين الثاني نوفمبر 1996، فقد خرج من المعركة الانتخابية وهو مقلّم الأظافر اكثر من أي وقت مضى. فمع انه نال ثلاثة ملايين صوت زيادة على الأصوات التي نالها في 1992، فإن الجمهوريين استطاعوا للمرة الثانية على التوالي ان يهيمنوا على كلا مجلسي الكونغرس الاميركي: النواب والشيوخ. وقد كان عليه طيلة الأربع سنوات من ولايته الثانية ان يخوض صراعاً يومياً وقاسياً وشالاً مع الكونغرس. وفي الوقت الذي بدا عليه وكأنه يتخلى نهائياً عن برنامجه الاجتماعي، فقد كان عليه ان يواجه أشرس حملة في تاريخ الولاياتالمتحدة لإقالته كرئيس: فبعد فضيحة وايتووتر العقارية انفجرت في مطلع 1998 فضيحة مونيكا الجنسية. لكن أعصاب الرئيس وشعبيته معاً استطاعت الصمود. أولاً لأن معظم القوى الليبرالية الاميركية، الحريصة على علمانية الدولة وعلى عدم الخلط بين الحياة الخاصة والحياة العامة للمسؤولين السياسيين، لم تؤخذ في دوامة الهستيريا الاعلامية التي أطلق شرارتها ورعاها اليمين الجمهوري. وثانياً لأن الشرائح غير الميسورة والسوداء والملونة كانت لا تزال تتمسك بما تبقى من البرنامج الاجتماعي لكلينتون. وثالثاً وأخيراً لأن عهده كان عهد طفرة اقتصادية لم تشهد لها البلاد مثيلاً منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. فمعدلات البطالة انخفضت الى 4 في المئة، والانتاج زاد بمعدل 58 في المئة، وعدد وظائف العمل الجديدة التي خلقت لا يقل عن 20 مليوناً، ونصف الأسر الاميركية باتت تملك أسهماً في البورصة، وارتفع الدخل الوسطي لأكثر من خمسين مليون اميركي الى 100 ألف دولار سنوياً فما فوق، وتضاعف عدد أصحاب المليارات من الدولارات حتى بات يقدر اليوم بتسعة ملايين ملياردير. وقد تواقتت هذه التجلية الاقتصادية مع هيمنة سياسية واستراتيجية غير مسبوق اليها على الصعد الدولي. فكلينتون كان، بكل ما في الكلمة من معنى، الرئيس الاميركي لحقبة ما بعد الحرب الباردة، أي للحقبة التي كف فيها العالم عن ان يكون منقسماً بين عملاقين لتنفرد الولاياتالمتحدة وحدها، ودونما شراكة من احد تقريباً، بقيادة مصائر الكرة الأرضية. وهذا الاحتكار للقرار الدولي هو ما اطلق العنان لما لا تتردد مؤلفة هذا الكتاب، التي عاشت نحواً من عشرين سنة في نيويورك كطالبة ثم كمراسلة لصحيفة "لوموند" الفرنسية، في أن تسمية ب"الصلف الاميركي". فجيل السبعينات الواعد الذي يتحدر منه كلينتون. والذي أنمت الحرب الفيتنامية حساسيته النقدية، أخلى مكانه في التسعينات لأميركا مزدهرة وراضية عن نفسها ومنفردة بصفة الدولة الاغنى والأقوى في العالم. واكثر ما يتجلى هذا الصلف الاميركي على صعيد السياسة الخارجية. فلم يحدث قط ان أباحت اميركا لنفسها ان تزدري المؤسسات الدولية، وان تتصرف على الصعيد العالمي حتى من دون رجوع شكلي الى منظمة الاممالمتحدة أو قرارات مجلس الأمن الدولي، كما لا تفتأ تفعل منذ مطلع التسعينات بدءاً بحرب الخليج وانتهاء بحرب كوسوفو ومروراً بشتى "الضربات التأديبية" التي وجهتها بالأمس الى السودان والتي قد توجهها في الغد الى افغانستان، على مثل المنوال الذي لا تزال طائرتها تشن به الغارات على العراق من دون تفويض من أي هيئة دولية. والحال انه في عالم متنوع ومعقد كالعالم المعاصر لم يعد الجموح مسموحاً به لأحد ولا على الأخص للقوة العالمية الأولى. فأميركا، المندفعة الى الأمام باكثر واسرع من أي دولة اخرى في العالم، بحاجة ايضاً الى لجام. ومن هنا الصعوبة التي تنتظر الرئيس الاميركي الجديد الذي سيتولى مهامه في مطلع كانون الثاني 2001. فهو سيكون مطالباً بأن يضطلع، من منظور العظمة الاميركية، بدور المهماز والكابح معاً. فأميركا تستطيع ان تكون وان تبقى الاقوى في العالم، لكنها لا تستطيع ولا يجوز ان تبقى "الأوحد".