يقضي الدستور الأميركي بأن تتكون الحكومة الفيديرالية من ثلاثة أقسام لكل قسم صلاحياته لإحداث التوازن والمحاسبة في إدارة الدولة على كل المستويات. وهذه الأجزاء الثلاثة التي تتكون منها الحكومة هي: الجزء التنفيذي الذي يدير النشاط الحكومي اليومي المعتاد ويمثله الرئيس، والجزء التشريعي ويمثله الكونغرس بمجلسيه (النواب والشيوخ) الذي يصدر القوانين بشرط ألا تخالف الدستور، والقضاء الذي تمثله المحكمة الفيديرالية العليا، وهي مرجع الجميع ولا يمكن رد قراراتها أو استئنافها. غير أن الكونغرس الأميركي تحول إلى أداة سياسية بدلاً من قناة تشريعية يتم عن طريقها التعاون المثمر على أسس وطنية بحتة لا سياسية لا يعنيها شيء خارج إطار الانتخابات القادمة. صار الكونغرس معول هدم وتعطيل، فتم تشويهه تماماً، خلال فترة إدارة أوباما على الأقل. فحتى السبعينات من القرن الماضي كان الذي يرسم وينفذ سياسة أميركا الخارجية إلى حد كبير وملموس هو الرئيس، وكبار معاونيه مثل وزيري الخارجية والدفاع ورؤساء الأجهزة الاستخبارية والأمن الوطني. ولم يخطر ببال ما يسميه الأميركيون «الرواد المؤسسين» الذين كتبوا الدستور الأميركي، أن يمر الكونغرس بما يشبه الطفرة الجينية الخبيثة، بتدخله اليومي في السياسة الأميركية الخارجية، ليس للتأكد من أن تخدم سياسة أميركا الخارجية مصالح أميركا الوطنية العليا، وإنما لإخضاعها عمداً لخدمة مصالح «لوبيات» الضغط السياسي التي تموّل انتخابات كل عضو من أعضاء مجلس النواب وكل عضو من أعضاء مجلس الشيوخ. وربما هذا ما يفسر تخبط مواقف أميركا نحو المأساة السورية والمذابح اليومية في العراق. وما يسري على السياسة الخارجية يسري على تعطيل أو تشويه التشريعات في القطاعات المالية والنقدية، وفي شأن البيئة وفي شأن ضبط انتشار الأسلحة الشخصية وخلق الضوابط الضرورية لضمان سلامة تداولها. وليس بالضرورة أن تكون أهم وسائل الضغط على أعضاء الكونغرس عن طريق تمويل الانتخابات فقط، وإنما أيضاً والأهم أحياناً بالتنظيم المتقن عن طريق «لوبيات» الضغط باستخدام العصا التنظيمية ذات الكفاءة العالية كعقاب لمن يشذ عن الطاعة من دون مقاومة أو كجزرة لمكافأة الطائعين الخانعين. والمراد قوله إن الكونغرس الأميركي تحول من مجلس تشريعي لإصدار التشريعات التي تخدم مصالح عموم المواطنين، إلى جهاز لتنفيذ مصالح «اللوبيات» النافذة المؤثرة كاللوبي الإسرائيلي «ايباك»، ولوبي المصارف، ولوبي مصانع الأسلحة الشخصية، وإلى حد أقل بدرجات كثيرة لوبي نقابات العمال والفلاحين، ومصانع الأدوية، وغيرها. ولذلك فمن السذاجة، أو ربما من قبيل الاعتقاد بنظرية المؤامرات لتفسير كل شيء، الظن أن الذي يقرر سياسة أميركا الخارجية، خصوصاً في ما له علاقة بمنطقتنا، وبالعرب والمسلمين، أينما وجدوا، هي مصالح أميركا العليا. إنه الابتزاز السياسي لا أقل ولا أكثر. وبمعنى سياسي هنا أي ما له علاقة بالانتخابات الأميركية على المستويات كافة، وهو العامل الأهم، وأحياناً الوحيد، الذي يقرر سياسة الولاياتالمتحدة الأميركية الخارجية، الذي يقرر كيفية التعامل مع انتشار الأسلحة من مسدسات وبنادق أوتوماتيكية ورشاشات، هو «لوبي» صناعة الأسلحة. ولا يوجد لوبي عام يمثل أكثرية الناس، لأنه ليس لدى عامة الناس ما يشعرون بقوة نحوه ومستعدون لتمويله ليكون مؤثراً. فمثل هذا اللوبي الذي يمثل مصالح عامة الناس، لو وجد، ستكون فوائد وجوده للجميع بطرق غير مباشرة، بحيث لا يتم الربط بين ما قد يتحقق عفوياً وبين ما ينجزه التنظيم والتمويل للوبي عام. أما لو نظرنا إلى لوبي آخر فاعل مثل لوبي صناعة الأسلحة الفردية، دع عنك «ايباك» وهو أقوى من كل اللوبيات الأخرى، فإن الذي يموّل لوبي صناعة الأسلحة هم صناعها الذين يستفيدون أكثر من غيرهم ولا يأبهون بالأضرار الجسيمة التي يلحق أذاها عامة الناس، من تأثير «لوبيهم»، لنصرة مؤيديهم، أو لهزيمة معارضيهم من أعضاء الكونغرس. * أكاديمي سعودي