لم استطع أن أقاوم الرغبة في الكتابة مثلما لم أقاوم مشاعري وأنا أقرأ ما كتبته زميلتنا نادين نعوس بعنوان القاهرة؟ ماذا لو كانت مهرجانا سينمائيا دائماً؟ - ملحق السينما - الجمعة 17 كانون الاول ديسمبر 1999. فحديثها عن المشهد السينمائي / الثقافي الدائم الذي تعيشه القاهرة لم يثر شجوني فقط، بل أثار عواطفي الدماغية وجعلني أكرر طرح سؤال على نفسي.. ما الذي يدفعني كمخرج شاب الى التفكير في الهجرة الى خارج مصر؟ ماذا فعلت بنا وفينا القاهرة؟ إن القاهرة التي تصفها نادين بهذه الحالة الشعورية الشفافة، هي القاهرة التي عشقها مئات السينمائيين من مصريين وعرب عاشوا فيها لسنوات طويلة.. جابوا شوارعها ودروبها.. استراحوا على مقاهيها وارتووا في حاناتها.. نهل خيالهم من كل ما جاد به مشهدها الإبداعي ولكن. وقائع موت معلن: هل هي القاهرة/ المدينة نفسها التي اعتادت قتل الأبناء ثم السير بجسارة تحسد عليها في مواكبهم الجنائزية؟ أم أنها مصابة بانفصام في الشخصية فتفعل بجانبها الآخر ما يحلو لها بأبنائها دون أن تدري؟ عشرات المبدعين في كل دروب الابداع تم اغتيالهم بعشرات الطرق. دفنوا أمواتاً وأحياء ولم يرشدنا أحد الى طريق قبورهم.. شادي عبدالسلام صاحب فيلم المومياء الفيلم المختلف في تاريخ السينما المصرية. فيلمه الروائي الطويل وقصيدته الوحيدة، أنجز شادي أيضاً خمسة أفلام تسجيلية، وفيلماً قصيراً الفلاح الفصيح.. أما مشروع فيلم إخناتون فهو الحلم الذي لم يكتمل.. كتب السيناريو ورسم الإسكتشات وحدد كل التفاصيل. حلم ظل يراوده لمدة ثلاثة عشر عاماً حتى مات كمداً بالسرطان إكلينيكيا عام 1986 ليصبح إخناتون قصيدة لم تكتمل وسرا أبدياً مقدساً يدفن بجوار جسد شادي.. نواريه التراب ونسأل: لماذا تحطم حلم شادي على صخور القاهرة؟ هل لأنها صلدة متصلفة؟ رحل شادي عن عمر يناهز 56 عاماً، بينما رحل عاطف الطيب "سواق الأتوبيس" 1982، "البريء" 1986 وهو لم يكمل أعوامه الثمانية والأربعين. اللهاث المتواصل لم يحتمله القلب... تباينت مستويات أفلامه المتعددة 21 فيلما في 14 عاماً لكنه كان مصراً على مواصلة العمل على رغم ظروف السينما المصرية. إنتاجه الغزير لم يكن محاولة للبحث بقدر ما كان إصرارا على رغبته كمحترف في عدم التخلي عن مهنته وممارستها.. وحينما رفض القلب أن يحتمل كل هذه الهموم انفجر.. نعينا صاحب "سواق الأتوبيس" وسار كل منا في طريقه ولكن هل القاهرة / المدينة مسؤولة عن قتل عاطف الطيب؟ ربما. انتمى عاطف الطيب لتيار أثرى السينما المصرية في الثمانينات الواقعية الجديدة ولكن ما حدث لمخرجي هذا التيار كان مثاراً للدهشة - وخصوصاً بعد ما أنجزوه من أفلام/ علامات على مدى ما يزيد على عشر سنوات - ما بين هبوط في المنحنى وتوقف لسنوات طويلة. فمن حق عشاق محمد خان "طائر على الطريق" 1981، "الحريف" 1984، "خرج ولم يعد" 1985، "عودة مواطن" 86، "أحلام هند وكاميليا" 1988 أن يغضبوا حينما يصنع الغرقانة 92، مستر كاراتيه 93، يوم حار جدا 94 وهي أفلامه الثلاثة الأخيرة على التوالي توقف بعدها وحتى الآن لفترة دامت خمس سنوات، ومثلما حدث لخان حدث لخيري بشارة، فصاحب العوامة رقم 70 1982، الطوق والإسورة 1986، يوم مر يوم حلو 1988 صنع أيضاً حرب الفراولة 94، قشر البندق 95، إشارة مرور 95 ثم توقف. تمر 4 سنوات على خيري بشارة من دون أفلام، و4 سنوات على داود عبدالسيد ايضا حتى صنع فيلمه الأخير أرض الخوف.. وما حدث لخان وداود وبشارة حدث أيضاً لعلي بدرخان، ورأفت الميهي.. سنوات من الإحباط والمشاريع المؤجلة والرفض للمناخ العام.. مجاراة السوق والعمل بشروطه تارة ومحاولة التمرد عليه تارة أخرى والتي يعقبها عادة فترة سكون نظرا لفشل المحاولة أو انتظاراً أن تأتي شروط أفضل. هل ساهمت المدينة / القاهرة في تصدير اليأس الى هؤلاء المبدعين؟ هل ساهمت في إحباط أحلامهم السينمائية واستبدالها بأفلام أقل قيمة تماشياً مع روح العصر؟ ربما. لم يكن تغير المسار مقصوراً على مخرجي الواقعية الجديدة، بل لم يكن ظاهرة جديدة طرأت على الساحة الفنية. حسين كمال بعد البوسطجي 68، شيء من الخوف 1969 أخرج أبي فوق الشجرة 69، نحن لا نزرع الشوك 70. توفيق صالح أنهى مسيرته الفيلمية بالأيام الطويلة 1980 ثم توقف لمدة 20 عشرين عاماً وحتى اليوم.. هل قتلت القاهرة توفيق صالح وشوهت حسين كمال؟ ربما. بعض المخرجين الشبان والذين أسمتهم نادين نعوس تلامذة شاهين كانوا يحتمون إنتاجياً في الماضي بأستاذهم يوسف شاهين يسري نصرالله، رضوان الكاشف / اسماء البكري والآن تلاشت الحماية وألقى شاهين بتلامذته وأبنائه في عرض الطريق. حلل الناقد إبراهيم العريس هذه الظاهرة معنوناً بين قتل الأب ووأد الأبناء - ملحق السينما - الحياة 3/12/1999 وأضاف العريس إلى الخلافات التمويلية والتوزيعية تفسيراً فرويدياً. وأن ما يحدث يفتح المجال أمام مزيد من التراجع للسينما الجادة، ومزيد من الانتصار لسينما التفاهة ولكن هل ما يحدث داخل شركة أفلام مصر العالمية له دخل بما يحدث في واقع القاهرة الجنوني/ الأناني؟ ربما. لم يكن القتل والتهميش وتصدير اليأس هو كل ما فعلته المدينة بمبدعيها بل قامت أيضا بنفي بعضهم، والمثال الحاضر أمامي هو المخرج فاضل صالح الذي أخرج فيملين، أحدهما شديد التميز البرنس 1984 وبعدها هاجر فاضل إلى كندا.. عفوا لم يهاجر لقد نفي خارج البلاد. تفعل المدينة بأبنائها مثلما فعل الاستعمار مع الوطنيين الثوار رغبة في التخلص منهم. * مخرجون شبان بلحى بيضاء اعتادت صحافة المدينة أن تطلق وصف المخرجين الشبان على مخرجي الواقعية الجديدة، حتى بعد أن تعدوا الخمسين ظل هذا الوصف يسبغ عليهم ولم يفارقهم. حينما ظهر جيل آخر رضوان الكاشف، شريف عرفة، مجدي أحمد علي، اسامة فوزي احتاروا: ماذا نسميهم؟ هل ننقل إليهم لقب المخرجين الشبان أم نسميهم المخرجين الأطفال؟. حتى جاء جيل التسعينات. الجيل الذي يضم كاملة أبو ذكري، سعد هنداوي، هالة خليل، أحمد ماهر، خالد يوسف، احمد ابو زيد، عبدالفتاح كمال، هاني خليفة، هالة جلال، بهاء غزاوي، فاضل الجارحي، رشا الكردي، محمد علي، نسرين الزنط، وكاتب هذه السطور. هذا الجيل يجمعهم الحلم بصنع سينما مختلفة، كل منهم لديه مشروع لفيلمه الروائي الطويل الأول.. تجثو المدينة بواقعها المؤلم على صدورهم لتحول أحلامهم الغضة إلى كوابيس.. كابوس رحلة البحث عن منتج أو الانتظار الطويل بلا جدوى.. كابوس العمل في القنوات التليفزيونية بكل ما يحمله من إهدار للكرامة وعقود إذعان شديدة الإجحاف أو محاولة الاقتراب الحذرة من جيتو الإعلانات والفيديو كليب.. كابوس المعادلة الصعبة معادلة أكل العيش وتحقيق القدر الأدنى من المتطلبات الحياتية بأقل تنازلات ممكنة، والحفاظ على جوهر الفنان داخل خزائن قلوبهم خوفاً من أن تأكله المدينة. أوافق نادين نعوس على تفاؤلها بجيل الشباب ووصفها المفرح لحركتهم ونشاطهم من أولئك الذين يشكلون البديل الجديد، تدرك أن يوسف شاهين لم يعد المرجع الوحيد، وأن السينما المصرية وصلت الى أيد أمينة، وتزداد هذه القناعة حين تصغى إلى هؤلاء السينمائيين يتكلمون ويتحركون منفعلين حول مشاريعهم الجديدة، مطلقين أفكاراً معاصرة أفاخر بصلابتهم وتمسكهم بالأحلام. ولكن هل ينجو هؤلاء الشباب من وحش الاكتئاب والنفي؟ لماذا يفكر العديد من السينمائيين الشبان في الهجرة؟ قد لا تكون الهجرة حلا مثاليا ولكن في هذه الحالة لن يجدوا سوى ثلاجة الانتظار أو التحول إلى مجانين شوارع يجوبون شوارع العاصمة القاتلة وميادينها وفي يد كل منهم لوحة كلاكيت عليها أسم حلمه أي فيلمه.. ولأنني أكثر إيمانا بالعقل لا الجنون. الأمل وإن طال الانتظار. أجدني سائراً في شوارع الحسين أشاهد المعجزة المصرية في التغلب على الصعاب تتجلى في البشر العاديين. تحضرني جملة للمخرج الفنان يسري نصرالله وهو بصدد الإجابة عن سؤال حول كيفية العيش بدخل محدود. يقول يسري تحقيقي لذاتي غير مرتبط بمظهر معين. فقيمتي الحقيقية مستمدة من قدرتي على صنع سينما جيدة. وكل ما أصلي من أجله ان استمر في الحياة بهذا الشكل.. لأنه امتياز عظيم اشاهد وجه طفل باسم، تحمله امرأة شابة فوق رأسها داخل طست بلاستيكي.. أتذكر كلام نادين نعوس وأحاول جاهداً تذكر اسم الفيلم الذي استمدت منه المدينة هذه اللقطة.